في احتفال بمناسبة عيد البشارة في كاتدرائية سيدة البشارة فضل الله: الالتزام بالسيِّدة مريم (ع) يحرّرنا من الزنازين الطائفيَّة والمذهبيَّة

ألقى العلَّامة السيِّد علي فضل الله كلمة في الاحتفال الحاشد الَّذي أقيم في قاعة كاتدرائية سيدة البشارة للسريان الكاثوليك في المتحف بمناسبة عيد البشارة، وجاء فيها:

في البداية، الشكر الجزيل لرئيس اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي ــ الإسلامي في لبنان، سيادة المطران شارل مراد، لدعوته لهذا اللقاء الروحي، وتحياتي الحارة والنابعة من القلب لسعادة السفير البابوي وممثلي المرجعيات الدينية جميعاً وللحضور الكريم.

أيُّها الأحبة:

يسعدني أن أكون بينكم في هذا العيد، لما للسيدة مريم (ع) من قداسة في نفوس المسلمين والمسيحيّين، وللموقع الذي بلغته عند الله سبحانه وتعالى، وللدور الذي قامت به، فقد حظيت برعاية الله لها منذ أن جاءت بها والدتها إلى بيت المقدس لتكون في خدمة هذا البيت، وفاءً للنذر الذي نذرته، وقد تقبَّلها الله حتى اصطفاها عندما قال: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.{ وبعد ذلك، جعلها الله موقعاً لمعجزته التي تمثَّلت بولادة السيد المسيح (ع)  دون أب، فكان له الدور الكبير في إخراج النَّاس من أنانياتهم وجشعهم، وفي أن يعمِّق المحبة والتسامح في نفوسهم، وفي الوقت نفسه، أن يعزز فيهم الرفض لكلِّ ظالم وطاغية وفاسد، ويجعل منهم سداً منيعاً في وجه من يريد أن يستغلَّ  الدين ويسخِّره لحسابه الشخصي أو لمصالحه الذاتيَّة.

أيها الأحبَّة: إن عيد البشارة بالنّسبة إلينا ينبغي أن يكون مناسبة لاستعادة كلّ المعاني التي عاشتها السيّدة مريم (ع)، فهي تشكّل لنا، رجالاً ونساءً، مثالاً للطهر والصفاء والحنوّ وتحمل المسؤولية تجاه الإنسان والمجتمع. وعلى هذا الأساس فإن من أهم واجباتنا أن نعيش القيم التي جاء بها السيّد المسيح (ع) وعمل لها ولأجلها، وهو الذي عانى وضحَّى في سبيلها، والتي جاء رسول الله (ص) ليستكملها، والتي عبَّر عنها عندما قال: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، وهو في ذلك جاء مصدِّقاً لما في التوراة والإنجيل.

إننا، أيها الأحبَّة، معنيون في هذه المرحلة بتعزيز هذه القيم في حياتنا الخاصة وفي مواقعنا الدينية وعلى صعيد الوطن، فلا يمكن أن نكون على هدى هذه القدوة الإيمانية والروحية التي تمثلها السيدة مريم (ع)، ونحن نحمل الحقد والبغضاء والأنانيَّة والتعصب والانغلاق، ولا يمكن أن نبني وطناً بالتنابذ والتحاقد وعدم القيام بالمسؤوليَّات الملقاة على عاتقنا، والتي لا ينبغي أن تتوقَّف عند دوائرنا الطائفية والمذهبية ومواقعنا السياسية، بل أن تمتدّ إلى كل دوائر حياتنا.

إن أزمتنا في كل ما نعانيه في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هي أزمة قيم، نحن نعاني لأن الأديان ابتعدت أو أبعدت عن القيام بدورها في ترسيخ القيم، عندما تحوَّلت إلى أداة من أدوات الصِّراع والشَّحن ضدّ الآخر المختلف معها، وعلى اسمها بتنا نتقاتل ونتصارع حتى قدَّسنا الحقد.

إننا نريد من هذه المناسبة الروحية والوطنية أن تساهم في تعزيز العمل المشترك، لتعزيز القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية والوطنية الَّتي باتت في مرمى الاستهداف من قبل الكثير من الَّذين يسعون لضربها واستبدالها بلغة المصالح الضيِّقة والمنافع الرخيصة.

إننا لن نعاني من الدين حين نعيشه بصفائه وطهارته، نحن نعاني عندما حوَّلناه إلى شكل وفرغناه من مضمونه، أو عندما نأخذ منه ما يتناسب مع مصالحنا الفئويَّة لنبرر أخطاءنا.

إننا نؤمن بأن الدين جاء ليوحِّد لا ليفرّق، ليزرع المحبة لا الكراهية، وهذا ما نريد اليوم أن نتمثَّله، وأن نتشارك معاً هذه القيم، وانطلاقا مما تمثله السيدة مريم (ع) من صفاء وطهارة، وما يمثله السيّد المسيح (ع) من داعية للمحبَّة والحنوّ، وما تميز به رسول الله الذي جاء رحمة للعالمين.

إننا لا بدّ أن نستلهم في هذا العيد المبارك مشاعر الرحمة والمحبة والتسامح والمغفرة، لكي تساعدنا على التحرر من هذه الزنازين الطائفية والمذهبية التي سجنَّا أنفسنا فيها، ونعلن أن الإيمان بجناحيه المسلم والمسيحي إيمان واحد، وأن تطلعاتنا وآمالنا واحدة.

إنَّنا في هذه الأجواء المأساويَّة التي يعانيها الوطن، نريد في هذه المناسبة أن نستلهم من السيّدة مريم (ع) كلَّ قيم العطاء والتضحية، وهو أكثر ما نحتاجه، لتسري هذه الروح؛ روح الخير والمحبة والتكافل والتضامن في النفوس، وتتجلى في الأعمال الصَّالحة التي تخفِّف عن الفقراء والمستضعفين والمحتاجين.

وأخيراً، أوجِّه كل الشّكر إلى كلّ أركان الحوار الإسلامي ــ المسيحي، وأشدّ على أياديكم، لأبارك كلَّ هذه الجهود والعطاءات، والتي لم تذهب هدراً؛ لقد أسَّستم تراثاً غنيّاً في التقريب والحوار والتواصل، وإذا كان الأمل في أن نشهد الكثير من ثمراته في المستقبل، فإنَّنا نشهد اليوم إحدى أجمل ثمراته في هذا العيد المبارك، وأقول بحقّ: يكفيكم فخراً هذا الإنجاز التاريخي الذي صنعتموه، هذا الإنجاز هو محطة فاصلة بين تاريخ وتاريخ، والذي منه، وفي كل عام، نستمدّ طاقة إيمانيَّة وحافزاً روحياً للمضيّ على هذا الدرب، درب الإيمان ووحدة الإيمان. جعله الله في ميزان أعمالكم.

والحمد لله ربِّ العالمين.