في مواجهةِ خططِ الشَّيطانِ ومكرِهِ!

العلامة السيد علي فضل الله خطبة العيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111]. صدق الله العظيم.

قصّة العابد وإبليس

هذه واحدة من القصص الّتي نريد منها أخذ العبرة، وهي تحكي عن قصّة رجل عابد قضى دهراً طويلاً في العبادة، وفي يوم من الأيّام، جاء إليه من يخبره أنّ هناك قوماً راحوا يعبدون شجرةً من دون الله تعالى، فغضب عندها، وأخذ فأسه وقصد الشّجرة ليقطعها، ولما وصل إليها، لقيه إبليس وهو في صورة شيخ طاعن في السّنّ، فقال له: أين تريد رحمك الله؟ فردّ العابد: أريد أن أقطع هذه الشّجرة، فقال إبليس: وما أنت وذلك؟ تركتَ عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرّغت لهذا الأمر! اذهب وتابع عبادتك.

فقال له العابد: إنَّ هذا من عبادتي، فردَّ عليه الشيخ: فإنّي لا أتركك تقطعها، فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره، فعجز الشّيخ، فقال له: هل لك في أمر فصلٍ بيني وبينك وهو خير لك وأنفع؟

قال العابد: وما هو؟ قال إبليس: أنتَ رجلٌ فقيرٌ لا شيء لك، ولعلّك تحبّ أن تتفضّل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن النّاس؟ فارجع عن هذا الأمر، ولك عليَّ أنْ يصل إليك في كلّ ليلة ديناران تنفقهما على نفسك وعيالك وتتصدّق على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك ولهم.

فتفكّر العابد وراح يحدّث نفسه: صدق هذا الشّيخ! فأنا لستُ بنبيّ فيلزمني قطع هذه الشّجرة، ولا أمرني الله أن أقطعها، ولو شاء الله أن لا تُعبد هذه الشّجرة، لأرسل نبيّاً وأمره بقطعها، وما ذكره هذا الشّيخ أكثر منفعة، فوافق على عرض إبليس، واستجاب لما دعاه إليه.

فرجع العابد إلى معبده، فلمّا أصبح، جاء من يعطيه الدينارين، وتكرّر ذلك في اليوم الذي يليه، ولكن لم يصله شيء في اليوم الثّالث، فغضب العابد لأنّه شعر بالغبن والخداع، فأخذ فأسه على عاتقه يريد الشّجرة، فاستقبله إبليس عندها وهو على هيئته السّابقة، فقال له: إلى أين؟

قال: أريد أن أقطع تلك الشّجرة، فقال له إبليس: كذبت والله، ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به ما فعله به أوّل مرّة، فقال: هيهات! (أي بعد الأمر عليك) فأخذه إبليس وصرعه، وبعدما قعد على صدره وقال: لتنتهينّ عن هذا الأمر أو لأذبحنّك؟!

فنظر العابد، فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا، غلبتني فخلِّ عنّي، لكن أخبرني كيف غلبتك أوّلاً وغلبتني الآن؟!

فقال له: لأنّك غضبتَ أوّل مرّة لله، وكانت نيّتك الآخرة، فسخّرني الله لك (أي نَصَرَكَ عليَّ)، وهذه المرّة غضبتَ لنفسِكَ وللدّنيا فَصَرَعْتُك!

لقد وردت في هذه القصّة العديد من العبر التي سنتوقّف عندها.

كيف نواجه إبليس؟!

العبرة الأولى: هي أنَّ الإخلاص لله تعالى هو السّلاح الفعّال والناجح في مواجهة خطط إبليس ومكره وخداعه وإغوائه، وهذا ما أعلنه إبليس بنفسه لله سبحانه، عندما قال الله متوعِّداً بني آدم: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 82 -83]، فقد أعلن أنّه قادر على إغواء جميع النّاس وإضلالهم، ولكنّه غير قادر على إغواء المخلصين لله.

والإخلاص لله تعالى يعني أن يكون هدف الإنسان في كلّ ما يقوم به عندما يمارس العبادة أو يتصدّق أو يؤيّد أو يعارض أو يدخل في حرب أو سلم، أو يتّخذ أيّ موقف، هو الله تعالى ابتغاء مرضاته وتقرّباً منه، لا أيّ هدف آخر مما يسعى إليه النّاس، فالناس غالباً ما تتمثّل أهدافهم في الحياة في الحصول على مال أو بلوغ موقع أو جاه أو فرصة من فرص الحياة، ولذلك، يعملون لحساب من يملكون المال أو الموقع، ليكون لهم شأن عندهم. وهذا هو ما دعا الله إليه عندما قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البيّنة: 5].

وعندما قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ…}[الأنعام: 162: 163].

ولذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يدقِّق في نيَّته قبل أن يقدم على أيّ عمل، أن يسأل نفسه قبل أن يقدم على أيّ عمل: لمن أفعل ذلك؛ هل هو لله أو لأجل نفسي أو لأجل الآخرين، فإذا كان لله خالصاً فليقدم عليه، وإلّا، فلا يقدم على هذا الأمر، أو ليصوّب نيّته لتكون لله سبحانه قربةً له ورغبةً في رضاه.

وقد وعد الله سبحانه وتعالى المخلصين له، السّاعين إلى رضاه والقرب منه، أن لا يدعهم وحدهم، بل أن يكونوا بعينه ورعايته وتأييده ونصره وتسديده.

فقد ورد في الحديث: “طوبى لمن أخلص لله عمله، وحبّه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله”.

والإخلاص، أيُّها الأحبّة، هو وليد اليقين من الإنسان، بأنّ الله سبحانه هو وراء كلّ شيء في هذه الحياة، فكلّ شيء فيها هو منه، وكلّ شيء خاضع لأمره، فلا شيء يتحقَّق بدون أمره وإرادته.. فالعزّة منه، والقدرة منه، والنّصر منه، وتحقيق الحاجات والطّلبات لا يتمّ إلّا من خلاله، ولذلك يحرص الإنسان على رضاه ويتوجَّه إليه.

مكرُ الشّيطان

العبرة الثانية: إنّ الشيطان لا يظهر بصورته الحقيقيّة كشيطان عندما يسعى لإغواء الإنسان وإضلاله، بل يأتي للإنسان بصورة النّاصح والمحبّ والمشفق عليه، ومن يريد له الخير، وإلى هذا أشار الله عندما قال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُور}[النساء: 120].

وقد ورد في الحديث: “الشّيطان موكل بالعبد يزيِّن له المعصية ليرتكبها”.

لذلك، رأيناه عندما سعى إلى إغواء آدم ودفعه إلى أن يعصي الله بأكل الشّجرة، لم يقل له اِعصِ الله وكُل من الشّجرة، بل أظهر نفسه بمظهر الحريص عليه، فقال له: {يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: 120]، فهو منَّاه بما يحتاج إليه من خلود وملك.

ومن هنا، دعانا الله سبحانه إلى التنبّه جيّداً لمكره وخداعه، وأن لا نستكين لتسويلاته المحبّبة التي يظهر فيها العسل، ولكنّها تخفي السّمّ داخله، وقد نبّهنا الله منه عندما قال: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}[الأعراف: 27]، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّ}[فاطر: 6].

وبيَّن لنا أنّه سيتنصّل من المسؤوليّة يوم القيامة عن كلّ جرائمه بحقّ الإنسان، ويرى نفسه بريئاً منها، فقال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ…}[إبراهيم: 22].

فخُّ المالِ!

العبرة الثَّالثة: إنَّ أوثق فرص الشَّيطان للإمساك بزمام الإنسان، هو المال، فهو يستغلّ حاجة النّاس إليه وحبّهم له ليوقعهم في الحرام أو التّنازل عن قيمهم ومبادئهم أو حرّيتهم، ويوصلهم إلى حيث عذاب السّعير.

لذا ورد في الحديث: “إنَّ الشيطان يدير ابن آدم في كلّ شيء، فإذا أعياه، جثم له عند المال فأخذ برقبته”.

وقد ورد في الحديث: “حُبُّ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، هما سَهْمُ الشَّيْطَانِ”.

وفي الحديث: “إنَّ الدّينار والدِّرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم”.

ولذلك، لا بدَّ من أن يكون الإنسان واعياً عند حاجته إلى المال أو طغيان حبّه له، حتى لا ينزلق مع الشَّيطان إلى حيث يريد، فيرى الفقر عنده في رضوان الله، أحبّ إليه من الغنى في معصيته.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الرّضا (ع)، هذا الإمام الذي ستمرّ علينا ذكرى ولادته المباركة بعد أيّام، في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام، حين قال: “أيُّها النّاس؛ إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بثلاثةٍ مقرون بها ثلاثة أخرى؛ أمر بالصّلاة والزكاة، فمن صلّى ولم يزكّ لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشّكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتّقاء الله وصلة الرّحم، فمن لم يصل رحمه لم يتّق الله عزّ وجلّ.

أيُّها الناس: إنّ خيار الناس إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أَعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا عفوا”.

فلنتواصَ بوصيّة هذا الإمام، لنعبّر بذلك عن حقيقة ولائنا والتزامنا، ونكون أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.

لبنان في المجهول!

والبداية من لبنان الّذي وصل فيه اللّبنانيّون إلى حال من التردّي على الصّعيد المعيشيّ والحياتيّ لم يعهدوه طوال ماضيهم القريب والبعيد، والذي لامس كلّ مفاصل حياتهم، وجعلهم غير قادرين على تأمين أبسط مقوِّماتها؛ من الغذاء والدّواء والطّبابة والمحروقات والكهرباء والماء..

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل بات يتهدّد عماد الأمن في هذا البلد، والذي عبّر عنه تحذير البنك الدوليّ، بأنّ الجيش اللّبناني مهدَّد بأحد أسوأ الانهيارات الماليّة، ما دفع العديد من الدول الحريصة على الاستقرار الدّاخليّ في لبنان، إلى التداعي لتأمين الموادّ الغذائيّة والطبية للجيش واحتياجاته الأمنيّة، بما يمسّ على مستوى الشكل والمضمون بكرامة لبنان واللبنانيين..

وأمام كل هذا الواقع المزري الذي وصل إليه البلد، كنا ننتظر ممن هم في مواقع المسؤوليّة، أن يوحِّدوا جهودهم ويتجاوزوا خلافاتهم وصراعاتهم التي أصبح من الواضح أنها على المواقع والحصص والمصالح الخاصّة والفئوية، وإن عنونت بعناوين دستورية وحقوق الطوائف والمذاهب..

لكن مع الأسف، لا يزال هؤلاء يمارسون سياسة إدارة الظهر لكلّ ما يعانيه اللبنانيون، ويتعاملون كأنّ البلد بألف خير، لا تهزّهم مشاهد الذلّ التي يعرض النّاس لها وهم يقفون طوابير طويلة في سياراتهم بحثاً عن البنزين، أو يبحثون لاهثين عن حليب أطفال لأولادهم، أو للحصول على دواء أو استشفاء، وغالباً لا يجدونه، أو في طوابير الأطباء والمهندسين وذوي الكفاءة الذين قرروا الهروب من بلد لا يحترم كفاءتهم وقدراتهم، أو التقارير التي تتحدّث أن لبنان بات البلد الأغلى على صعيد ارتفاع الأسعار، وتزداد فيه نسب الفقر والبطالة، أو في ارتفاع معدّلات الجريمة والسّرقة…

إنّنا في مواجهة هذه الأوضاع المتردّية على كلّ الصّعد، وفي ظلّ انسداد أبواب الأمل داخلياً وخارجياً، نقول مجدَّداً لكلّ القوى السياسية الحاكمة في هذا البلد، كفى إذلالاً للنّاس الذين لم يقصِّروا معكم وهم من أودعوكم مواقعكم، كفى هدراً للوقت الذي يضيع سدى وأخذ يهدّد مقدِّرات اللبنانيين ومدّخراتهم، وكفى تقاذفاً للمسؤوليّات، فالبلد لا تحلّ أزماته بالمكابرة والعناد، ولا بالأسقف العالية وغير الواقعيّة، ولا بالبيانات النارية ولا بالإقصاء، فهذا البلد تحلّ أزماته فقط بمدّ الجسور والحوار البنَّاء والتنازلات المتبادلة التي تأخذ بالاعتبار مصلحة اللّبنانيّين وأمنهم ومستقبلهم.

القرارُ بيدِ الشَّعب!

ونحن في هذا المجال، ورغم كلّ ما جرى بين من هم في المواقع العالية، نجدّد الدّعوة إلى البناء على ما انتهت إليه المبادرة المطروحة من رئيس المجلس النيابي، بعدما أصبح واضحاً أن لا بديل منها للوصول إلى حكومة تخرج هذا البلد من الانهيار، وتعيد الاعتبار إلى صورة البلد في عيون أبنائه وفي الخارج.

وحتى يحصل ذلك، نقول للّبنانيّين، إنّ القرار بيدكم أنتم أصحاب القرار، أنتم قادرون على تغيير هذا الواقع بوحدتكم وتكاتفكم ورفع صوتكم وتعاونكم لمواجهة الأزمات، هم يخشون من وحدتكم، لأن رهانهم الدائم والمستمر على التلاعب بغرائزكم الطائفية والمذهبية وتخويفكم بعضكم من بعض، وإثارة الهواجس لدى هذه الطائفة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك، أو هذا الموقع السياسيّ أو ذاك، وهم سيرضخون عندما يجدون أنّ سلاح شدّ العصب الطائفي والمذهبي لم يعد مجدياً.

ونحن هنا نقف مع أيّ تحرك تساهمون فيه بالتّعبير عن أصواتكم ومعاناتكم، ولكننا لسنا مع التحركات التي يستدرج إليها المواطنون في إطار اللّعبة السياسيّة الداخليّة أو لحسابات خارجية.

إن عليكم أن تُفهموا من هم في المواقع السياسيّة، أنّ شدّ عصبكم لن يكون إلا عندما يقومون بمسؤوليّتهم ويخرجونكم من أزماتكم ومعاناتكم.

أيّها اللّبنانيّون، هذا البلد يكاد يغرق بمن فيه، وربابينه لاهون عن ذلك بغاياتهم وطموحاتهم الشخصيّة، فلا تدعوا هذا البلد يغرق ويغرِق أهله.

انتخابات الرّئاسة الإيرانيّة

وأخيراً، إننا أمام المشهد الانتخابي في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، نأمل من الشّعب الإيراني أن يحسن اختياره، وأن يعطي أصواته لمن يُبقي هذا البلد قويّاً وقادراً وسنداً للمستضعفين والأحرار في العالم.