في ميلاد المسيح(ع): لنجمع أمة المؤمنين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، كما هو متعارف، مرّت علينا ذكرى عطرة؛ ذكرى ولادة السيّد المسيح (ع). هذه الولادة الَّتي أشار إليها القرآن الكريم بالتّفصيل، علماً أنَّه لم يشر إلى ولادات غيره من الأنبياء، ولكونها كانت ولادة معجزة؛ تمّت بظروف غير عاديّة، أرادها الله سبحانه أن تعبّر عن عظمته وقدرته، وأن تكون دليلاً على نبوّة هذا المولود الّذي تذكّر ولادته بولادة آدم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

 

ونحن في هذه المناسبة، نبارك للمسلمين ولكلّ أتباع السيّد المسيح(ع) هذه المناسبة المباركة. وندعو إلى جعلها مناسبة نستلهم منها كلّ المعاني الروحيّة والإيمانيّة والقيم الَّتي حرص السيّد المسيح على الدّعوة إليها، فلا نستغرق في هذه المناسبة، كما كلّ مناسبات الأنبياء والأولياء، في احتفالات تطاول الشَّكل، دون أن نعيش المضمون الأخلاقيّ والإنسانيّ الّذي أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء لأجله.

 

ونحن نريد أن نغتنم هذه المناسبة التي تجمع المسلمين والمسيحيين لنعيد الإعتبار إلى مفهوم أمة المؤمنين الذي قدمه القرآن وطبقه الرسول في المجتمع العربي الأول. إن هذا المفهوم يأخذ في واقعنا اليوم أهمية مضاعفة، إذ تحيط بنا حركات التعصب والتكفير التي تسعى لإلغاء الآخر كل الآخر، ومن ناحية أخرى تزحف إلى مجتمعنا المسلم والمسيحي على حد سواء حركات فكرية تسعى إلى اجتثاث فكرة الله من القلوب والعقول تحت عناوين منها ما يتستر بالعلم ومنها ما مرده إجتماعي نفسي وسياسي.

 

إذا، هذا الواقع يتطلب منا الغوص أعمق من سطح الأدبيات التي نألفها وخاصة في لبنان ونسير باتجاه منظومة متكاملة، نعتقد أن في القران الكريم على وجه الخصوص، ما يؤطر لها بما يمكن البناء عليه؛

فقد بيَّن القرآن أنَّ العلاقة بين الإسلام والمسيحيَّة، أو بين الإسلام والدّيانات السّماوية الأخرى، جاءت من منبع واحد، وهي تقوم على مبدأ استمرار النبوّات والتكامل فيما بينها، حيث لا تناقض ولا انفصال، إذ تصدّق الرّسالة اللاحقة ما سبقها من رسالات وتكملها، بمعنى أنها تأتي لتلبّي حاجات البشريّة الّتي استجدّت بفعل الزّمن.

ولذلك، نجد القرآن عندما تحدّث عن رسالة رسول الله. قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

 

والمتأمل في القران كما في معالم السيرة يرى أن العلاقة التي طبعت الإسلام و المسيحية على وجه الخصوص منذ فجر الإسلام كان فيها سعي إلى الجمع والتقارب، واللافت في الامر الذي يجدر التوقف عنده هو حرص القرآن الكريم على أن تلامس هذه العلاقة المشاعر والأحاسيس وليس فقط العقيدة، وذلك عندما أظهر الصّفات الروحيّة والأخلاقيّة التي يتميّز بها المسيحيون، مما يساهم في تأسيس علاقة تعايش قوية بينهم وبين المسلمين.. قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، الأمر الَّذي أسَّس لعلاقة مودَّة قائمة على الإيمان بالله والعبوديّة له، وعلى المساواة، استناداً إلى قاعدة: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.

 

وقد حثَّ الإسلام على مدّ جسور الحوار مع المسيحيّة، كقاعدة ثابتة، ولا سيّما في مواقع الاختلاف الّتي لم ينكرها الإسلام، بل أشار إليها، سواء في النظرة إلى شخصيّة السيّد المسيح، أو إلى صلبه، أو إلى الخلافات التي تحصل في الواقع. وحدّد أسلوب الحوار والجدال حول كلّ الاختلافات، بقوله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. حتى إنه يقول: لا جدال ولا حوار إلا بالَّتي هي أحسن: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وذلك في سبيل الوصول إلى علاقة قويَّة تستند إلى القيم المشتركة، المتمثّلة بكلمة "سواء": {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، عنوانها العبوديّة لله والعدل الذي لا يخضع فيه أحد لأحد، لأنَّ الخضوع لا يكون إلا لله. {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

 

إن هذه العلاقة الَّتي أسَّس لها القرآن الكريم، وترجمها رسول الله في سلوكه ومواقفه وتوجّهاته، وما واكبها من تشريعات في تلك المرحلة. ساهمت في تعميق أواصر التعاون، والاحترام المتبادل، والأمان المتبادل، والَّذي كان من ثمراته حفظ الوجود المسيحيّ في بلاد المسلمين، أما المشاكل التي كانت تحصل بين فترة وأخرى فالمتأمل فيها يرى أنها كانت في جوهرها وجلها سياسية لا دينية عقدية.

 

وحتى لا يبقى الحديث عن موضوع هذه العلاقة نظريا سنتوقَّف عند بعض المشاهد التي حصلت في أيام رسول الله(ص)، والتي تشير إلى التطبيق العملاني لكل ما تحدثنا به:

 

المشهد الأول في احترام المعتقد: حين قدم وفد نصارى نجران إلى المدينة المنوّرة، رغبةً في الحوار مع رسول الله(ص)… فقد دخل أعضاء الوفد إلى مسجد رسول الله، وهم، كما تذكر السيرة، يلبسون أزياءهم الكنسيَّة، ويحملون الصلبان في أعناقهم. وقبل أن يبدؤوا حوارهم مع رسول الله، استأذنوه في الصلاة، فأذن لهم رسول الله، فدقّوا النواقيس في المسجد، وصلّوا صلاتهم على مرأى من كلّ المسلمين…وبرضى رسول الله (ص).

في هذا المقام، نتذكّر موقفاً لأمير المؤمنين، يُجسّد المعنى الذي أراده رسول الله أن يصل إلينا. فتذكر السّيرة أنَّ الإمام علياً(ع) مرَّ مع أحد أصحابه على أحد الأديرة المهدّمة. فقال أحدهم موجّهاً خطابه إلى أطلال هذا الدير: "لطالما كفر بالله ها هنا"، فردّ عليه الإمام(ع): "بل قل طالما عبد الله ها هنا".

 

ألا يشير هذا إلى عمق العلاقة الَّتي أرادها رسول الله (ص). وأرادها الإسلام؟ رسول الله يحاور المسيحيين في المسجد. ويصلّون فيه صلاتهم. أليس في هذه الواقعة ما يوحي كم أننا جميعاً متخلّفون عن الرقيّ إلى الصّورة التي أرادها الإسلام أن تكون عنوان العلاقة مع المسيحية؟!

 

المشهد الثاني هو جانب التعاضد العاطفي: هو الَّذي حصل عندما حزن المسلمون لهزيمة الرّوم المسيحيين أمام الفرس الوثنيين، ما يظهر العاطفة التي كان يكنّها المسلمون في تلك المرحلة للمسيحيّين باعتبارهم أهل كتاب.

وقد نزلت يومئذ كما تعلمون أيات سورة الروم لتبشر المسلمين بانتصار الروم بعد بضع سنين: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} … ألا يستوقفنا هذا المشهد الَّذي يتحدَّث عن فرح المؤمنين وعن نصر الله؟ ألا يجعلنا نفكّر بطريقة مختلفة، بعيداً عن التعصّب والكراهية والأحقاد، كما يفعل الكثيرون منا في هذه الأيام؟!

 

المشهد الثالث ولعله الأكثر دلالة في الجانب الأمني الإستراتيجي: حين أرسل رسول الله المسلمين إلى الحبشة، هرباً من طغيان قريش، وقال لهم حينها: اذهبوا "فإنّ بِها ملِكاً لا يُظلَمُ عِندهُ أحد، وهي أرضُ صِدق، حتى يجعلَ اللّه لكُم فرجاً مما أنتُم فيهِ".

وقد كان النّجاشي مسيحياً، ونزلت فيه الآيات التي تحدَّثت عن تعاطفه مع ما قرأه عليه جعفر بن أبي طالب، رئيس وفد المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، مما ورد في القرآن عن السيّدة مريم والسيّد المسيح. {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. وهل ثمة عاطفة أسمى من هذه العاطفة التي يبادلها المسيحيون للمسلمين، حين يعرف المسلمون كيف يعرضون الحق، وحين يلتزمون بأخلاقيات الإسلام وعقائده؟

هذه النماذج هي غيض من فيض وهي التي أرادنا الله ورسوله أن تحكم علاقتنا مع المسيحيين كما مع أهل الكتاب عامة. وهي نماذج مشرقة عن جامعية هذا الدين وحضارية رسالته.

 

أيها الأحبّة:

 في ذكرى ولادة السيّد المسيح(ع)، التي لا تبعد سوى أيام عن ذكرى ولادة النبي محمّد(ص)، نتطلَّع إلى أن نحمل كمسلمين ومسيحيين المسؤولية الكبيرة في أن نكون معاً على الخطين اللذين هما عماد أمة المؤمنين:

– الإيمان بالله من ناحية.

– وإحياء الأخلاق من ناحية أخرى.

وأن ندعو إليهما معاً، وأن نعمل معاً على أساس القواسم المشتركة الكثيرة، من أجل تعزيز حضور الله في حياة الإنسان، كي لا يغرق في وحول الأنانية، ولا يغرق المجتمع في أتون الفتن.

 

ونحن مدعوون إلى العمل معاً من أجل أن نواجه كل مظاهر الاستكبار والظلم والطغيان أينما وجدت، فالرسالات السماوية بعثت من أجل خلاص الإنسان، وإعادة العدالة إلى الحياة، ومن أجل أن نقف صفاً واحداً في وجه الذين يستغلون الدين لحساباتهم، ويتخذونه مطيّة لمصالحهم الخاصة، فمسؤوليتنا أن نعري هؤلاء من زيفهم وخداعهم. فالدّين لم يكن مشكلة للحياة، ولن يكون كذلك، بل جاء من أجل أن تكون حياة الإنسان أصفى وأطهر، وأكثر صدقاً وعدلاً وإنسانيّة.

 

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا أن نستهدي بوصيَّة السيد المسيح(ع) لأتباعه، عندما قال لهم: "صِلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم، وسلّموا على من سبّكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم، كما أنَّكم تحبّون أن يعفى عن إساءاتكم، فاعتبروا بعفو الله عنكم، ألا ترون أنَّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجار منكم، وأنَّ مطره ينزل على الصّالحين والخاطئين منكم؟ فإن كنتم لا تحبّون إلا من أحبَّكم، ولا تحسنون إلا إلى من أحسن إليكم، ولا تكافئون إلا من أعطاكم، فما فضلكم إذاً على غيركم؟ قد يصنع هذا السّفهاء الَّذين ليست عندهم فضول ولا لهم أحلام، ولكن إن أردتم أن تكونوا أحبّاء الله وأصفياء الله، فأحسنوا إلى من أساء إليكم، واعفوا عمن ظلمكم، وسلِّموا على من أعرض عنكم. اسمعوا قولي، واحفظوا وصيَّتي، وارعوا عهدي، كيما تكونوا علماء فقهاء".

أيّها الأحبّة، بهذه الرّوح، استطاع السيّد المسيح(ع) وكلّ الأنبياء(ع)، أن يفتحوا قلوب النّاس. وبهذه الروح، يمكن أن نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء، وأن نواجه التّحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي تستمرّ معاناته على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ، في ظلّ التّهديد الأمني المستمرّ في الداخل، ومن الحدود الشرقيّة والجنوبيّة، والمراوحة في أزمة المخطوفين العسكريّين، وانعكاسها على حياتهم وعلى أهاليهم وكلّ الوطن، وجراء ما تكشفه الأيام من الفساد المستشري في أجهزة الدولة، مما يطاول صحَّة الإنسان وغذاءه ودواءه، فضلاً عن مائه وهوائه. وكلّ ذلك يأتي في ظلّ عدم انتظام عمل مؤسَّسات الدولة الرقابيَّة والتنفيذيَّة، الَّتي يفترض أن تعالج هذه المشاكل وتجد لها الحلول، ووسط انقسام داخليّ، واحتقان مذهبيّ وطائفيّ، وعدم جدوى انتظار حلول من الخارج، تساهم في حلحلة أزمات الداخل، مما اعتاد اللبنانيون عليه، فالجميع مشغول عما يجري في لبنان بملفّات المنطقة والحرب على الإرهاب.

 

إنّ كلّ هذا الواقع، وكما أكّدنا أكثر من مرة، بات يستدعي تواصلاً بين كلّ القوى الفاعلة في هذا الوطن، لمعالجة كلّ هذه المشكلات، وإخراج إنسان هذا البلد من يأسه.

ومن هنا، فإنَّنا ننظر بإيجابيَّة إلى اللقاء الَّذي جرى بين موقعين أساسيين في هذا البلد، ونقدّر كلّ الجهد الَّذي بُذل لحصول هذا اللقاء، ومن يتولى رعايته، لأهميَّة حصوله في هذا الظّرف الصَّعب، حيث يُراد للفتنة أن تعمّ. إنَّ هذا الحوار سيساهم في تبريد أجواء الاستنفار المذهبيّ والطّائفيّ الَّذي أنتجه الخطاب السّياسيّ الموتِّر، والَّذي انعكس إثارةً للمفردات المذهبيّة الَّتي تساهم في إثارة الأحقاد والكراهية، فضلاً عن أنّ ما يجري في المنطقة من أحداث سياسيّة أو صراع محاور، يُعطى طابعاً مذهبيّاً أو طائفيّاً ينعكس على الداخل اللبناني.

 

إنَّنا نأمل من هذا الحوار، أن يولِّد مناخات سياسيَّة إيجابيَّة، تمهِّد الطَّريق لفتح ثغرة في كلّ الملفات العالقة والكثيرة.. ونحن لن نحمِّل المتحاورين أكثر مما يتحمّلون، لأنَّنا نعرف حجم تعقيدات الملفّات المطروحة أمامهم، وتداعيات ما يجري في المنطقة، وانعكاسه على لبنان وعلى المتحاورين بالذات، ولكنّنا نرى أنَّ من حقّ اللبنانيين عليهم أن يبذلوا ما بوسعهم من جهود لتبديد قلقهم وخوفهم من حدوث فتنة مذهبيَّة، يرون أنها الحاضنة للإرهاب الَّذي يغزو المنطقة ولبنان، وأن يمهِّدوا الطَّريق لحوار وطنيّ تشارك فيه كلّ الأطراف، لما لهم من تأثير في المواقع السياسيَّة الأخرى.

إنَّ على المتحاورين أن يؤكّدوا بالممارسة جدّية هذا الحوار واستمراريّته، فثمَّة خوف وقلق دائم لدى اللبنانيين عند أيّ حوار يجري، من أن يكون حواراً شكلياً، أو حواراً يهدف إلى تقطيع الوقت، انتظاراً لاستحقاقات قادمة، أو حوار الضَّرورة أو غير ذلك. إنّ ما نريده هو الحوار الَّذي يُبنى على قاعدة أن لا خيار لهذا البلد إلا الحوار.

 

ونحن نأمل أن تتحرَّك، وفي هذا الوقت، حوارات أخرى يتمّ الحديث عنها، لكونها تساهم في تعزيز المناخ الإيجابي، وتؤمِّن السّبيل لوحدة وطنيّة مطلوبة، كبديل عن كلّ الاصطفافات الَّتي تعب منها هذا البلد. وكم هو ضروري في هذه المناسبة أن نسجِّل للشَّعب اللبناني تهيئته المناخ لحصول هذا اللقاء واللقاءات الأخرى، بإصراره على التمسّك بالسّلم الأهلي، وعدم تجاوبه مع كلّ دعوات الفتنة والتحريض، ووقوفه الدائم مع أيّ دعوة للّقاء والحوار، وتشجيعه لها!

 

وانطلاقاً من الحوار اللبناني، نعيد دعوة المتصارعين في أكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ يكتوي بنيران الحروب الداخليَّة الّتي تأكل الأخضر واليابس، وتلتهم حتى تاريخه وتراثه، إلى العمل على تعزيز فرص الحوار في ما بينهم، والتَّجاوب مع أيّ دعوة للحوار، للوصول إلى حلول مرضية للجميع، لما فيه مصلحة أوطانهم، ولإيقاف نزيف الدم والدمار، وللتصدّي لكلّ الدّاخلين على خطّ هذه الأزمات والمستفيدين منها، ولا سيَّما العدوّ الصهيونيّ، حيث أثبتت الأيام ولا تزال تثبت أنَّ العنف الداخلي لا يحلّ أيّ مشكلة، بل يزيدها تعقيداً.

 

فلسطين

ونصل إلى فلسطين، حيث تستمرّ معاناة أهلنا في غزة، في ظلّ استمرار سياسة الحصار، وإقفال المعابر، وعودة الاعتداءات الصهيونيَّة، كما تستمرّ معاناة أهلنا في القدس، حيث يواصل العدو مشروعه بتهويدها، من خلال إقراره بناء مستوطنات جديدة، وسعيه إلى تقسيم المسجد الأقصى زمانيّاً ومكانيّاً، والتَّمييع المستمرّ لمشروع القرار الفلسطيني في مجلس الأمن، وحتى استخدام الفيتو ضدّه، رغم أنه لا يلبّي الحدّ الأدنى من احتياجات الشَّعب الفلسطينيّ.

إنَّنا أمام هذا الواقع الَّذي نحيّي فيه الشَّعب الفلسطينيّ وثباته ومقاومته، نعيد دعوة الدول والشّعوب العربيّة والإسلاميّة إلى تحمّل المسؤوليَّة تجاه هذه القضيّة، ولا سيّما الدّول التي تملك تأثيراً في الداخل الفلسطيني، كمصر والأردن.

 

اليوم العالمي للغلة العربية

وأخيراً، وفي اليوم العالميّ للغة العربيَّة، نعيد دعوة الأهل والمربّين والمدرِّسين، وكلّ الناطقين بهذه اللغة، إلى إعادة الاعتبار إليها، وخصوصاً أنّنا نشهد تراجعاً في الاهتمام بها، يتمثّل ضعفاً في التّعبير، وجهلاً بقواعدها ومفرداتها، ومزج مفردات لغة أخرى بها، ما يساهم في توهينها.. إنّنا نشدّد على الاهتمام بلغتنا، لكونها تعبّر عن هُويّتنا وأصالتنا، فهي لغة القرآن ولغة أصحاب الجنة، كما تشير بعض الأحاديث، وهي تمتلك من الميزات ما لا يوجد في لغاتٍ أخرى.

إنّنا لا نمانع تعلّم اللغات الأخرى، لكن ليس على حساب اللغة الأم. وإنّ أمةً لا تحترم لغتها، لا يمكن أن تكون في مصافي الأمم الراقية الَّتي تحترمها شعوب العالم.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ: 4 ربيع أول 1436هـ الموافق : 26 كانون الاول 2014م
 

 

Leave A Reply