قصة قضاء داوود عليه السلام

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. صدق الله العظيم.

من القصص التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة (ص)، هي قصة حصلت مع النبي داوود هذا الذي أتاه الله إلى جانب النبوة الملك قائلاً له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ..}..

وقد حصلت هذه القصة يوم قرَّر هذا النبي أن يخلو بنفسه، وأن يتفرَّغ للعبادة، ولذلك طلب من حرَّاسه أن لا يُدخلوا عليه أحداً، ولكن، وبينما هو يتعبد إذ دخل رجلان عليه خلسة وبعيداً من أعين الحراس، فظن داوود(ع) أنهما يريدان به السوء، ففزع منهما كما أشار القرآن الكريم: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ..}.. ولكنهما سارعا إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وبينا سبب قدومهما إليه، وقالا له؛ لا تخف نحن خصمان تجاوز أحدنا على الآخر، فاحكم بينا بالحق والعدل، وقال الأول: إنّ أخي يملك تسعاً وتسعين نعجةً، وأنا لا أملك إلا نعجة واحدة، لكنه يصرّ عليّ أن أتنازل له عنها ليضمّها إلى بقية نعاجه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}، أي شدَّد عليّ في القول وأغلظ، ولم أعد قادراً على ردِّ طلبه، وأنا جئت إليك لتعينني عليه وتنصفني.

استثار هذا الكلام النبيَّ داوود(ع)، وسارع إلى التَّعاطف مع الشاكي، فيما أبدى انزعاجه وغضبه من هذا الأخ الذي كان عليه، وبمقتضى الأخوة، أن يعطيه من نعاجه التسع والتسعين لا أن يأخذ منه نعجته الوحيدة التي لا يملك غيرها، لذا التفت إليه وقبل أن يسمع كلام الأخير، وقال له: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِه} ظلمك بهذا الطلب، لذا من حقك أن لا تعطيه إياها..

ثم أضاف قائلاً: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}.. أي إن ما فعله أخوك ليس بالأمر الجديد، فهناك الكثير الأخوة والأصدقاء والجيران، يبغي بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً، فلا يراعون في تصرفاتهم حقوق الأخوة والصداقة والجيرة، ولا يأخذون بمقتضيات العدل، بل كل همهم يتمثل في تحقيق مصالحهم.. نعم هذا لا يحصل من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

جاء الحكم حاسماً من النبيّ داوود(ع) لمصلحة الشّاكي صاحب النّعجة الواحدة وإدانة الآخر. وذهب الرجلان من دون أن يصدر عن الأخ المشكو أيّ تبرير أو تفسير للطّلب غير المنطقي بضمّ نعجة أخيه إلى نعاجه، على الأقلّ ليدافع أخلاقيّاً عن نفسه، وليحفظ ماء وجهه أمام النبيّ الّذي وضعه في خانة الباغين.

غادر الأخوان المتخاصمان المكان، لكن النبي داوود(ع) غرق في التفكير بعد مغادرتهما، ورأى أنه قد استعجل بالحكم!! فقد كان عليه أن يسأل الطرف الآخر ثم يحكم بينهما، حتى لو كان واثقاً أن الحق مع الطرف الأول، فمن أصول مجلس القضاء هو الاستماع إلى المدعي ثم المدعى عليه، وبعدها يكون الحكم..

ينقل القرآن الكريم أنه ندم كثيراً على ما حصل، فتوجه إلى ربه ليعتذر منه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}. ويُروى في ذلك أنّ النّدم بلغ من داوود(ع) أنه قضى ما تجاوز الأربعين ليلةً في طلب الاستغفار على ما بدر منه.

وقد قبل الله اعتذاره: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ..} ليشير بعد ذلك إلى المنزلة الرفيعة لهذا النبي، فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ}..

أيها الأحبة: لقد سجل الله لنا هذه الحادثة لنأخذ منها دروساً وعبر.

ونتوقف هنا عند بعض العبر والدروس:

الدرس الأول: هو عدم الاستعجال في إصدار الأحكام سواء أكانت على أشخاص أو جهات سياسية، أو اجتماعية أو دينية، بل لا بد من التأني قبل إصدارها..

وهذا ما نبه إليه الله سبحانه، عندما قال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}..

فقد أورد سبحانه أن الإنسان بطبيعته يستعجل وكأنه خلق فيه، ولكن الله طلب منه أن لا يستسلم لهذه الطبيعة.. ولذا فقد وجهه إلى أن يتأنى ويعد للعشرة، بل للمئة قبل أن يحكم..

وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): “إِنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد”.. وعنه(ص): “الأناة من الله، والعجلة من الشيطان”..

وعن علي(ع): “مع العجل يكثر الزلل”..

وهذا طبيعي، فالتأني يفسح في المجال للإنسان أن يدرس الأمور في العمق، حتى لا تكون القرارات مبنية على هوى أو توتر، بل على هدوء وعقل ودقة في التفكير وأخذ القرار المناسب..

الدرس الثاني: هو أن لا نكتفي عندما نصدر أي حكم وعلى أي شخص، بالاستماع إلى وجهة نظر أحدهما ومهما كانت مقنعة، بل لا بد، ولمقتضيات العدالة، أن تستمع إلى وجهة نظر الآخر، ولا سيما  إذا كان من يحكم له هوى أو علاقة قرابة وصداقة مع أحدهما…

وقد لاحظ الإسلام ذلك في القضاء، حيث طلب من القاضي أن يراعي عند القضاء العدالة في الاستماع، وحتى النظر في إقبال الوجه ولحظات العين..

وهذا ما وجه به النبي(ص) من كان يتولى القضاء: “إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي”..

وعن علي(ع) أنه أوصى شريح القاضي: “واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك”..

وفي كلامه إلى مالك الأشتر: “واس بينهم في النظرة واللحظة”..

إننا أحوج ما نكون في هذه الأيام إلى هذا المنهج في القضاء وفي كل الأحكام التي نصدرها، لينطلق القضاء العادل والأحكام الصحيحة، فلا تضيع الأحكام في لعبة الأهواء والمصالح..

ثالثاً وأخيراً؛ تعكس لنا قصّة الأخوين وخصامهما واقع الخلافات المستشرية، للأسف، بين الإخوة والأخوات أو بين الأرحام والجيران، والتي باتت تؤدِّي إلى تباعدٍ وقطيعة، يتحوَّلون معها إلى أعداء، والسّبب في أغلب الأحوال، هو الإرث أو التجارة أو المشاكل العائليّة بين الأولاد أو الزوجات أو الأزواج..

أيها الأحبة: علينا أن نبادر إلى علاج هذه الخلافات، وأن لا تترك أو تهمل حتى لا تتفاقم وتورّث، وذلك بقيام أهل الخير بمبادرات الإصلاح، أو باللجوء إلى القضاء والقضاء الشرعي أولاً..

ولكن الأهمّ هو الوقاية والتحصّن منها، باستحضار الإيمان وسلوك التَّقوى.

والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين، عندما جاء رجل يسأله: يا أمير المؤمنين، ندعو ونلح في الدعاء، ولكن لا يستجاب لنا، كيف ذلك والله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}،  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}؟ فقال الإمام: “إن قلوبكم خانت بثماني خصال: أولها: أنكم عرفتم الله، فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا. والثانية: أنكم آمنتم برسوله، ثم خالفتم سنته، وأمتم شريعته، فأين ثمرة إيمانكم؟ والثالثة: أنكم قرأتم كتابه المنزل عليكم، فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا ثم خالفتم. والرابعة: أنكم قلتم تخافون من النار وأنتم في كل وقت تقدمون إليها بمعاصيكم، فأين خوفكم؟ والخامسة: أنكم قلتم ترغبون الجنة، وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها، فأين رغبتكم فيها؟ والسادسة: أنكم أكلتم نعمة المولى، فلم تشكروا عليها. والسابعة: أن الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}، فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلا مخالفة. والثامنة: أنكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم، وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه، فأي دعاء سيستجاب لكم مع هذا، وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فيستجيب الله لكم دعاءكم”.

أضاف: “أيها الأحبة، لقد وعد الله عباده بأن يستجيب لهم دعاءهم، ولكنهم يغفلون أنه شرط عليهم وفاءه لهم بوفائهم له، والتزاماته معهم بالتزامهم معه، ولذلك قال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. بهذه العلاقة المتبادلة بيننا وبين الله، يمكننا أن نواجه صعوبات الحياة، ونكون أقوى على مواجهة التحديات “..

والبداية من لبنان الذي يسير بخطوات سريعة نحو الانهيار بعدما لامس المصرف المركزي الاحتياط الالزامي إن لم يكن قد تجاوزه وبدلاً من أن تعمل كل أجهزة الدولة إلى استنفار جهودها وإعلان حال الطوارئ لاستعادة الأموال المنهوبة ولإيقاف مزاريب الهدر والفساد التي لا تخفى على أحد وسد منافذ التهريب وتحفيز الاقتصاد واستثمار مقدرات الدولة، لمواجهة هذا الواقع الاقتصادي والنقدي المتردي…

تعود الدولة إلى ما اعتادته بمد يدها إلى جيوب المواطنين، رغم وعيها بالواقع الذي وصلوا إليه، بالحديث عن إيقاف الدعم عن السلع الأساسية وإن كان هذه المرة تحت عنوان جذاب وهو ترشيد الدعم.. وذلك كله من دون أن يكون هناك خطة واضحة وعملية لكيفية تحقيق هذا الترشيد وضمان وصوله إلى الطبقات الفقيرة والمحتاجة وإن كنا نرى أن أغلبية اللبنانيين أصبحوا فقراء..

ونحن في هذا المجال نقف مع أي ترشيد مدروس وواقعي للدعم يضمن أن لا تصرف أموال الدولة في غير موقعها ولكننا نخشى أن يضيع هذا الترشيد كما ضاع الدعم أساساً في لعبة المحاصصات والمحسوبيات وأن يكون مقدمة لرفعه في المستقبل القريب وأن يكون الأمر من قبيل المسكنات.

ونحن نرى أن الحل للواقع المأزوم لن يكون بالترشيد حتى لو تم على أصوله، فهو تأجيل للمشكلة لا حلاً لها، فالحل الأساسي يتثمل في أن يقرر من يديرون الواقع السياسي ويتحكمون به بإيجاد الآليات التي تخرج البلد من هذا النفق المظلم الذي دخل فيه وهذا يتم من خلال إدارة صحيحة لهذا البلد على كل المستويات وبتشكيل حكومة كفوءة، بعيدة كل البعد عن الحسابات الخاصة السياسية أو الطائفية أو المذهبية والمحاصصات والفساد. حكومة تملك الصلاحية المطلقة لتعالج المشاكل المستعصية، يؤيدها الجميع ولكنهم يرفعون أيديهم عن توظيفها لحسابهم…

ولا يبدو أن هذا الأمر قريب المنال، لأن أغلب الطبقة السياسية لم تقرر بعد أن تخرج من حساباتها الضيقة ومصالحها الفئوية..

ومن هنا فإننا ندعو اللبنانيين إلى أن يتحملوا مسؤوليتهم بأن يُسمعوا صوتهم لكل الذين يتولون المواقع السياسية ويملكون أمرها، بأن كفى تلاعباً بمصير البلد ومصير أبنائه.

إننا نقول لهذه الطبقة لا تراهنوا على سكوت هذا الشعب كثيراً فهو لن يسكت طويلاً.. وسيأتي اليوم الذي يحاسبكم فيه على ما جنت أيديكم.

ونبقى على صعيد ملفات الفساد التي تنشر عبر وسائل الإعلام أو غيرها، فإننا نرى من الأهمية بمكان أن تطرح هذه الملفات على اللبنانيين لزيادة الوعي لديهم ومعرفة ماذا كان يجري في دهاليز الوزارات والمؤسسات العامة من خلال الوثائق والأرقام.. لكننا نخشى من أن يكون طرحها في إطار الصراع السياسي والمحاصصات التي تجري الآن بين القوى السياسية، حيث لكل منها وسيلة إعلامية…

لذلك نجدد ما دعونا إليه سابقاً ونطالب القضاء بوضع يده على هذه الملفات لإظهار الحقائق، ولتحقيق العدالة ومنع إدخالها في إطار الصراع السياسي والكيدية السياسية، بحيث يكشف عنها لحساب وتغيب عند التسويات.

إنّ اللبنانيين يتطلعون لقضاء مستقل ونزيه، يبادر لفتح ملفات الهدر والإهمال والفساد، بعيداً عن أية حسابات سياسية وطائفية ومذهبية مهما علت المواقع، وعندها يمكن أن نطمئن بأننا خطونا الخطوة الأولى في طريق الألف ميل في الطريق إلى الإصلاح، وأن البلد يسير على السكة الصحيحة.

وأخيراً إننا نحيي وقفة أهالي الجولان السوري المحتل في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني، وتصديهم لمحاولة العدو الاستيلاء على أراضيهم..

هذا التصدي البطولي في مواجهة العدو يعبّر عن الروح الوطنية الصادقة المتمسكة بهذه الأرض العربية العصيّة على الضم والمصادرة والاقتلاع، وهو أنموذج للإرادة الحرة الواعية التي تستدعي تضامن العرب والمسلمين معها لقطع الطريق على العدو في كل مخططاته وأطماعه.. وهي رسالة ممزوجة بالدم لكل الذين طبعوا ويطبعون وسيطبعون..