قصَّة صاحب الجنَّتين وعاقبة الغرور

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. صدق الله العظيم.

من القصص التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة الكهف، قصّة رجل رزقه الله جنّتين، كانت تلك الجنّتان مزروعتين بشتّى أنواع الثّمار والفواكه والخضار، وقد سوِّرتا بالنّخيل من كلّ جوانبهما، وقد زاد من أهميّتهما ورونقهما النّهر الجاري بينهما.

وقد وفرت هاتان الجنّتان لهذا الرّجل القدرات والإمكانات، حتى صار من أكبر الأثرياء، وكان هذا الرّجل شديد الإعجاب بجنّتيه، وقد عبَّر عن غروره عندما قال لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}، فأنت لا تملك ما أملك، وليس لديك من الخدم والأعوان كما لديَّ. وقد دفعه غروره هذا إلى أن ينسى ربّه، ويرى أنّ كلّ ما لديه هو من نتاجه، وأن ينكر يوم القيامة، وتغيب عنه الحقيقة التي تقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، وأن يقول: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً}، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}…  وكان يرى أنّه حتى لو قامت القيامة، فإن موقعه ووجاهته وما يملك من مال ورجال، يخوّله أن ينال في الآخرة موقعاً أفضل مما هو عليه: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}.

نصحية.. وجحود

لم يشأْ صاحبه بعد كلّ ما سمعه منه أن يتركه غارقاً في ضلاله وغيّه، لذلك راح يذكِّره، فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}، والّذي لولاه لما وصلت إلى هذا النعيم؟! نعم، قد أكون أقلّ منك مالاً وولداً، لكن ليس هذا ما أرجوه في الحياة، فأنا أثق بربي الّذي لو شاء أعطاني خيراً من جنّتك، وهيّأ لي أكثر مما هيّأه لك.. ولكنّه عندما يعطي فلمصلحة عباده، وهو يمنع لمصلحتهم.. وهو إن لم يمنحني ما منحك إيّاه في الدّنيا، فسيبدلني خيراً منها في الآخرة.. لذا، ومن محبتي لك وحرصي عليك، أدعوك إلى أن تصالح ربّك، وأن تعود إليه، وأن تحسب له حساباً، وأن تخشاه، وأن تعي أنّه القادر عليك، فهو لا يعجز عنه شيء، لذلك أدخل إلى جنّتك وقل: “ما شاء الله، ولا قوّة إلا بالله”، كلّ هذا بمشيئة الله، فلولا مشيئته ما كان لك شيء، ولولا قوّته ما كان لك من قوّة.

ولكنّ صاحب الجنّتين لم يلتفت إلى نصائح صاحبه ولم يعبأ بها، وبقي على غروره وتكبّره وجحوده.

وكان أن حدث ما لم يكن في الحسبان. ففي الصّباح، عندما عاد صاحب الجنّتين ليتفقّد أملاكه، رآها {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، فالدَّعائم مكسّرة، والأغصان محطَّمة، والجنَّتان ينعب في جنباتهما بوم الموت والدَّمار، فأخذ الرّجل {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} يضرب كفّاً بكفّ، وراح يتحسّر على الأموال الّتي أنفقها {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}، لقد وقع ما كان يحذّره منه صاحبه، أن لا يطمئنّ إلى نعيم هو ليس بيده، بل بيد الله، وهو قادر على أن يزيله متى شاء، وعندما شاء حصل.

لكنّ هذه اليقظة جاءت متأخّرة، ولا فائدة منها، فهو ندمٌ يأتي بعد سقوطه في الامتحان، ونزول البلاء، لتظهر أمامه الحقيقة التي كان ينبغي ألا تغيب عنه: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}(الكهف: 43-44).

عِبَرٌ للدّنيا والآخرة

أيّها الأحبّة: هذه القصّة ككلّ قصص القران الكريم، أراد الله أن نستلخص منها عبراً ودروساً تعيننا على دنيانا وآخرتنا.

الدرس الأوّل: هو الرضا بما قسمه الله سبحانه لعباده، فالمؤمن هو من يرضى بما قسم الله له من الرّزق، لثقته بحكمته في تقسيم رزقه بين النّاس، فهو إن أعطى فلخير عباده، وإن منع فلمصلحتهم، لذا ما عنده هو نعمة من الله، وما ليس عنده هو حكمة منه.

الدرس الثّاني: أن لا يرى الإنسان الخير في ما يملك من مال وأولاد، بل كما ورد في الحديث: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يكثر علمك وعملك، وأن يعظم حلمك، وأن تباهي النّاس بعبادة ربّك”.

وفي ما أشارت إليه الآية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.

الدَّرس الثالث: عدم الاطمئنان إلى الدّنيا والاغترار بها، فنِعم الدّنيا مهما كانت كبيرة وواسعة، فهي لا تبقى، وقد صوَّرها الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}.

لذا، ورد في الحديث عن عليّ (ع): “أيُّهَا النَّاسُ، انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ عَنْهَا، فَإِنَّهَا وَاللهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ”.

الدّرس الأخير: أن لا يتملّك الإنسان الغرور إن هو امتلك جاهاً أو مالاً أو علماً، بل أن يرى كلّ ذلك مسؤوليّة، فالغرور هو أصل المفاسد، وتبعاته لا تقف عند حدود الآخرة، بل تكون في الدّنيا أيضًا، وهو الذي جعل إبليس العابد لله شيطانا ًرجيما مطروداً من رحمته عزّ وجلّ، عندما سأله الله:  {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، وهو الّذي جعل فرعون مستبدّاً وطاغياً: {وَنَادَى? فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا ?لَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}، وأدّى به الأمر إلى أن يغرقه الله هو وجيشه في اليمّ، وهو الّذي جعل قارون يطغى على موسى (ع): {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاْرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}.

فلنحرص، أيّها الأحبَّة، على أن لا نكرّر ما كان عليه صاحب الجنَّتين، وأن لا نغترَّ بهذه الحياة، بل أن نحمد الله على ما رزقنا وما وهبنا، بألسنتنا وأذكارنا وأعمالنا، وأن نثق دائماً بأنّه أدرى بمصالحنا في الدّنيا والآخرة، وأنّه أحكم الحاكمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما قاله رسول الله (ص): “يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيّام عمره أربع وعشرون خزانة- عدد ساعات اللّيل والنّهار – فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسّرور ما لو وزّع على أهل النّار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي السّاعة الّتي أطاع فيها ربَّه، ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها مظلمةً منتنةً مفزعةً، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لنغّص عليهم نعيمها، وهي السّاعة الّتي عصى فيها ربّه، ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها فارغةً ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه، وهي الساعة الّتي نام فيها أو اشتغل فيها بشيءٍ من مباحات الدنيا، فيناله من الغُبن والأسف على فواتها، حيث كان متمكّنًا من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}”.

الحياة، أيّها الأحبّة، فرصتنا، فلنملأها بما يرضي الله، حتى تكون كلّ خزائننا مملوءةً نورا وسروراً، وبذلك نكون أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

الحكومة أسيرة التّجاذبات

والبداية من لبنان، الّذي لا تزال الحكومة فيه أسيرة تجاذبات القوى السياسية المعنيّة بالتأليف والشّروط والشّروط المضادّة، وهي لم تقرّر أن تفرج عنها رغم كلّ المناشدات الدوليّة بضرورة الإسراع بتأليفها، لمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردّي الّذي جعل أكثر من نصف اللّبنانيّين فقراء، والذين سيزداد عددهم إن تمّ رفع الدّعم عن السلع الأساسيّة، ورغم الأجواء القاتمة التي بدأت تحيط بالمنطقة، والحديث المتزايد عن ضربات أمنيّة واغتيالات قد تجري في هذا البلد، حيث يستمرّ الخلاف حول معايير تأليفها وعدد الوزراء ومن يقوم بالتّعيين، من دون أن يقدم أيّ من هذه القوى على تقديم تنازلات ضروريّة لتشكيلها، والذي نراه – إن حصل – سيحول دون تأثير ضغوط الخارج أو يخفّف من وقعها.

ونحن في هذا المجال، نعيد دعوة القوى السياسية إلى الرأفة بهذا البلد وبإنسانه، بالخروج من حساباتها الضيّقة ورهاناتها، والإسراع بتشكيل حكومة تلبّي احتياجات الناس، وتعيد ثقة العالم به، فيكفي تلاعباً ببلدٍ حوّلتموه بسبب فسادكم وسوء إدارتكم إلى متسوّل، يستعطي المساعدات والإعانات حتى يقدر على الاستمرار في العيش ولا ينهار، وشوّهتم صورة إنسانه، بعدما كان في صدارة شعوب العالم، يضرب به المثل في الحيويّة والفاعليّة والحضور في كلّ المجالات، عندما تتوافر له الظروف وتفتح له المجالات.

مؤتمر لدعم لبنان

في هذا الوقت، انعقد المؤتمر الدّولي لدعم شعب لبنان، والذي أشار إلى مدى اهتمام المجتمع الدولي بهذا البلد، ولكنه في الوقت نفسه، أظهر مدى هشاشة صورة الطبقة السياسيّة لدى هذا العالم ومدى تقصيرها، بعدما تقاعست عن الخطوات اللازمة المطلوبة للقيام بالإصلاحات، ومعالجة مكامن الفساد والهدر، ما جعل أيّ معونات لا تقدَّم إليها مباشرةً، بل إلى الشّعب اللّبناني عبر البنك الدولي.

ونحن هنا إذ نقدِّر أيّ خطوة دوليّة لدعم لبنان، نعيد التّأكيد أننا إن كنّا بحاجة إلى مثل هذه المؤتمرات لدعمه، إلا أنّنا أحوج ما نكون إلى ما يعين اللّبنانيين على استعادة أموالهم، وإيقاف مزاريب الهدر والفساد، فلبنان ليس فقيراً، ولكنه أفقر.

هل دُفِن التّدقيق الجنائيّ؟!

ونقف عند القرار الذي أصدره المجلس النّيابي بخصوص التّدقيق الجنائيّ، لنرى أهميّة التوافق الذي جرى على هذا الصّعيد، لكنّ اللّبنانيّين كانوا يأملون أن يكون هذا القرار مدعوماً بتشريعات، والّتي هي ضروريّة لتنفيذه.

إنّنا نخشى مع كلّ اللّبنانيّين، أن يكون ما جرى هو دفن للتّدقيق الجنائيّ، عندما لم توضع الآليّات الكفيلة التي تجعل اللّبنانيّين يعرفون أين ذهبت ودائعهم، وبعدما أصبح واضحاً أنّ من أفسد لن يدين نفسه.

لا تنازل َعن حقّ لبنان

ونبقى في مسألة ترسيم الحدود، وبعد قرار إيقاف هذه المفاوضات، والذي جاء بعدما طالب لبنان بحصّته البحريّة، والتي رفضها الكيان الصّهيونيّ، لنؤكّد أهميّة الموقف اللبناني الحريص على التمسّك بحقوق اللّبنانيّين، والمستند إلى بنود القوانين المعتمدة عالميّاً والمعترف بها دوليّاً.

وهنا ندعو إلى الثّبات على هذا الموقف، رغم معرفتنا بحجم الضّغوط التي قد تمارس على بلد يعاني اقتصاديّاً وسياسياً والعقوبات التي تفرض عليه، ونرى أنَّ الوحدة الداخليّة هي الأساس لحماية حقوق اللّبنانيّين، ولبنان الذي انتصر في مواجهة الحرب الصهيونيَّة بعناصر قوّته ووحدته، قادر على أن ينتصر في هذه المعركة.

جريمةٌ مدانة

وأخيراً، إننا نرى في اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده جريمةً ينبغي أن تكون موضع إدانة لكلّ من يحترم العلم والعلماء، ويريد لهذا العالم العربي والإسلامي أن يكون قويّاً، لأنّ القبول بالاعتداء على أيّ طاقة علميّة، سيفتح الأبواب للتعرّض لأيّ طاقة تبرز فيه، فالعدوّ الصهيوني لا يريد لبلداننا أن تحظى بالأدمغة العلميّة المهمة، التي هي الأساس في رفع مداميكها، وإعلاء مكانتها على مختلف المستويات، ليبقى هو الأقوى على مختلف المستويات.