كلمة سماحته في الذكرى السنوية السابعة لرحيل المرجع فضل الله(رض)

عندما تزدادُ سنواتُ الغيابِ ــ عن الأحبةِ ــ قدُ يخفُّ وهجُ العاطفةِ والشوقِ، وتبردُ المشاعرُ والأحاسيسُ، ولكننا في ذكرى السيدِ (رض)، وفي ظلِّ ما نلمسُه في وعيِ الناسِ المحبّينَ وكلماتِهم، نرى الأمرَ مختلفاً، فقدْ مضَتْ سبعُ سنواتٍ على غيابِه، لكنَّ حضورَه لا يزالُ يزدادُ تألّقاً. ترى ما سرُ هذا الحضورِ!؟ أهوَ سرُ الكلمةِ الطيبةِ التي رسَّخَ جذورَها في أعماقِ الناسِ الذينَ أحبَّهم، أم هوَ تحمّلُه كلَ مشقاتِ العمرِ، ليعطيَهم كلَّ شيءٍ، ويخففَ منْ معاناتِهم وآلامِهم في كلِّ قضاياهم الصغيرةِ والكبيرةِ..

 

هذهِ مواقفُ تكشفُ بعضَ أسرارِه.. لكنَّ سرَه الأكبرَ كانَ في فهمِه العميقِ للإسلامِ في معانيهِ التحرريةِ، ومقاصدِه الإنسانيةِ، وغناه الروحيِّ والأخلاقيِّ، عندما زاوجَ بينَ الدينِ والحياةِ، بين الدينِ والعقلِ، بينَ الدينِ والعلمِ.. لقد قدمَ الدَّينَ الذي ينفتحُ على الآخرِ ويمدُ جسورَ التواصلِ معه.. الدينَ الذي ينفتحُ على آلامِ الإنسانِ الآخرِ، بعيداً من كلِ العناوينِ التي يُصنّفُ الناسُ على أساسِها..

 

بدأَ بمؤسَّساتِ الخيرِ، وهو أرادَها المؤسساتِ الرحبةَ، ووقفَ مع الناسِ في كلِّ الظروفِ والملماتِ، وفي أقصى اللحظاتِ التي تتصلُ بمستقبلِهم ومصيرِهم.. ولم يتركْهم حتى في أشدِّ الظروفِ حراجةً.. يشهدُ بذلكَ هذا المسجدُ الذي أحبَّه وأرادَه أن يضمَّ ضريحَه.. يشهدُ أنَّه قضى أياماً طويلةً من حربِ تموز 2006، رغم تدميرِ العدوِ لكلِّ العمرانِ من حولِه، ليكونَ مع الثلةِ الباقيةِ من الناسِ أو المجاهدينَ الذينَ كانوا يدافعونَ عن الوطن..

 

هذا هوَ سرُّه الذي جذبَ العقولَ، وأيقظَ الأرواحَ، واستنهضَ الأنفسَ، وشحذَ الهممَ..

 

هوَ في كلِّ ذلكَ لم يكنْ يريدُ مجداً شخصياً.. ولا زعامةَ حزبٍ أو حركةٍ.. كان يريدُ للإيمانِ أنْ تتّسعَ مساحتُه.. وللنفوسِ أن تتنفَّسَ الحريةَ.. وللعقولِ أن تفكّرَ.. كان يريدُ للناسِ أن يكونوا أحراراً.. أعزاء.. لا خشبةً تتقاذفُها الرياحُ..

 

لم يجاملِ السيدُ ولم يساومْ أحداً على المبادئِ.. كان قوياً بالله.. لم يجاملْ استكباراً ولا احتلالاً ولا ظلماً.. رفضَ كلَّ المغرياتِ.. ولم يأبَه لكلِّ التهديداتِ ولا لمحاولاتِ الاغتيالِ والترهيبِ التي تعرضَ لها.. ولم يحُل دونَه في ذلكَ عنوانٌ.. حتى عنوانُ المرجعيّةِ، عن أنْ يقولَ حقاً أو يدفعَ باطلاً.. حين قالَ له بعضُ محبيهِ في العراقِ بعدَ الاحتلالِ الأميركيِ.. أن لا يتحدَّثَ بسوءٍ عن هذا الاحتلالِ، لأنه سحقَ الطاغيةَ.. فقالَ لهم: الاحتلالُ ليسَ جمعيةً خيريةً.. قالوا له: سوفَ تفقدُ مقلّديكَ وتتأثرُ مرجعيتُك بهذا الموقفِ.. فقال لهم: إذا تعارضَتِ المرجعيةُ مع الحقِّ ومع رضا الله، فإني أضعُها تحتَ قدمي..

 

لم يجاملْ في الفكرِ.. كانَ حريصاً على أنْ يقدّمَ للناسِ فكراً صافياً نقياً لم يتلوَّثْ بتفريطٍ أو غلوٍ أو خرافةٍ.. وكانَ يواجهُ كلَّ ذلكَ، حتى لوْ رجمَه الراجمونَ، ووصفوه بنعوتِ الضلالِ والتكفيرِ، وحتى عندما راحوا يزوّرونَ تاريخَه.. ومع ذلكَ، كانَ يقولُ: أستطيعُ أنْ أجاملَ وأن أكونَ مع التيارِ السائد، ولكن كيفَ سأواجهُ ربي عندما يسألني: لماذا لم تقدّمِ الحقائقَ التي آمنْتَ بها للناس؟

 

وفي المجالِ الفتوائيِ أيضاً لم يجاملْ.. فهو حينَ كانَ يقتنعُ بفتوى تستندُ إلى أدقِّ المعاييرِ العلميةِ.. كانَ يطلقُها.. لم يأبَه لحساسياتٍ أو لضغوطِ التقليديينَ.. وكان يقولُ: ما دامَتِ الفتوى تعالجُ مشكلاتِ الناسِ في العالم كلِه، وما دمتُ محرزاً للشروطِ التي تعذرني أمامَ الله.. فإنَّ مسؤوليتي الشرعيةَ إظهارُها للناسِ.. وكان يعلنُها منْ دون أنْ يخافَ في اللهِ لومةَ لائم..

 

وفي كلِّ ما قدّمَه، لم يقلِ السيدُ إلا ما رأى فيهِ الحقيقةَ التي لم يصادرْها، بل قالَ: هذه وجهةُ نظري، وأنا أحترمُ وجهةَ نظرِ الآخرينَ عندما تنطلقُ من علمٍ.. حتى قالَ: أنا مستعدٌ لأنْ أكتبَ مقدّمةً لكتابٍ ينتقدني إذا كان كتاباً علمياً يتوخَّى الحقيقةَ..

لقد دعا السيدُ إلى الوحدةِ بكلِّ مجالاتِها.. ورأى أنْ لا خيارَ إلا الوحدةُ.. كانَتِ الوحدة ُبالنسبةِ إليه تعني الوقوفَ على القواسمِ المشتركةِ.. واحترامَ كلِّ فريقٍ للفريقِ الآخر.. وكانَ يرى أن البديلَ منْ ذلكَ هو التنازعُ والفشلُ وضياعُ الحاضرِ والمستقبلِ.. وكان يؤلمُه أنْ لا تستعيدَ الأمةُ تاريخَها الوحدويَّ، وأنْ تستبدلَ به تاريخَ الأحقادِ والضغائنِ والصراعاتِ..

لقد أثبَتَ السيدُ (رض) القدرةَ، وهوَ العالمُ المرجعُ الشيعيُ، على أنْ يخترقَ الجدرانَ المنصوبةَ بينَ الطوائفِ والمذاهبِ والمواقعِ السياسيةِ، وأنْ يصلَ إلى الجميعِ، وأنْ يحترمَ الجميعَ.. وهذهِ ظاهرةٌ لا بدَّ منْ أنْ تُدرسَ ويحتذى بها..

 

ونحنُ إذ اجتمَعنا اليوم، فلنستلهمَ معاً هذهِ المنطلقاتِ والتطلعاتِ التي شكَّلَتْ معالمَ الخطِ الذي انتهجَه السيدُ، والتي هيَ محورُ تفكيرِنا ومسارِنا.. وسوفَ نستلهمُه في أنْ نقدمَ الإسلامَ الأصيلَ.. والصورةَ المشرقةَ لرسولِ الله (ص) ولصحابتِه المنتجبينَ وللأئمةِ الهداةِ الميامين.. لنؤكّدَ منْ خلالِ ذلكَ قدرةَ الدينِ منْ خلالِ فكرِه ورموزِه على بناءِ حضارةٍ بعيدةٍ عنْ كلِ أجواءِ الكراهيةِ والحقدِ والانغلاقِ، التي يسعى المشوهونَ لهذا الدينِ إلى أنْ يقدموه بها، بحيث يبدو معها مشكلةً للحياةِ بدلاً منْ أنْ يكونَ حلاً لها.

 

وسنستلهمُ في ذلكَ نهجَه الحواري.. باستخدامِ الكلمةِ الطيبةِ.. والجدالِ بالتي هي أحسن.. والحكمةِ في الأسلوبِ والمنهجِ.. وبأنْ نطلقَ الفكرةَ القويةَ.. ولكنَّها المحمولةُ دائماً بكلِّ ألوانِ اللطفِ والمحبةِ.. وهوَ ليس أيَّ حوار.. هوَ الحوارُ الذي لا يستفزُّ الآخرَ أو يستخفُّ به.. الحوارُ الذي ينطلقُ من فكرةِ أنْ ليسَ هناكَ منْ يمتلكُ الحقيقةَ الكاملةَ..

 

إنّنا نستلهمُ دوماً دعوتَه إلى احترامِ المراجعِ والعلماءِ والمفكرينَ وأصحابِ الرأيِ والعلمِ أو القياداتِ الاجتماعية.. لكنَّ الاحترامَ لا يعني أنْ نسلّمَ بكلِ ما أطلقوهُ منْ أفكار.. فالنقدُ، مهما كان قاسياً على المستوى الفكري، لا يعني عدمَ احترامِهم.. فنحنُ أمةٌ تعلمَتْ أنَّ النقدَ هوَ مفتاحُ الوصولِ إلى الحقيقةِ.. وأنَّ احترامَنا للإنسانِ، إنما يكونُ بقدرِ ما نناقشُ فكرَه وننتقدُه.

 

سوفَ نتابعُ مسيرتَه في أنْ نعززَ سبلَ الوحدةِ الوطنيةِ.. والوحدةِ الإسلاميةِ.. ووحدةِ الديانات.. والوحدةِ الإنسانية.. أن نقفَ في وجهِ دعواتِ التمييزِ على أساسٍ طائفيٍ أو مذهبيٍ أو قوميٍ أو عرقيٍّ أو غيرِ ذلكَ منَ التصنيفاتِ.. وفي وجهِ كلِّ الدعواتِ التي تستغلُّ الأديانَ والمذاهبَ لغاياتٍ ومصالحَ خاصة..

 

ونحن نرى أنَّ لبنانَ يمكنُه أنْ يشكّلَ هذا الأنموذجَ الإنسانيَّ في صياغتِه لوحدتِه وبناءِ دولةِ الإنسانِ التي أرادَها السيد، إن تحرَّرَ القادةُ الدينيونَ والزعماءُ السياسيّونَ والنخبُ الثقافيةُ والاجتماعيةُ من عصبياتِهم الطائفيةِ.. واستندوا إلى القيمِ التي تحملُها الدياناتُ السماويةُ، فعاشوها واستلهموها في حياتِهم، بحيثُ لا تعودُ الأديان، كما هي الآن، كياناتٍ لتجمعاتٍ بشريةٍ لا مضمونَ إيمانياً وقيمياً وإنسانياً لها.. بل تتعاملُ مع بعضِها البعضِ من المنطلقاتِ الإيمانية.. ولن تتحققَ هذهِ الغايةُ الرساليةُ الإيمانيةُ للديانتين إلا عندما نصلُ إلى المرحلةِ التي يحرصُ فيها المسلمونَ على المطالبةِ بحقوقِ المسيحيينَ وحقوقِ الآخرينَ، ويحرصُ فيها المسيحيونَ على المطالبةِ بحفظِ حقوقِ المسلمينَ ومن معهم في الوطن.. بحيثُ يعيشُ الجميعُ جميعاً في ظلالِ دولةِ الإنسانِ.. دولةِ القيمِ.. دولةِ العدالةِ.

 

ونحنُ أيضاً سنواصلُ دعوتَنا لكلِّ الذينَ يتولونَ مواقعَ المسؤوليةِ في هذا العالمِ العربيِ والإسلاميِ إلى أنْ لا يُشعروا أحداً بالغبنِ في وطنِه وبالمظلوميةِ، بحيثُ تُنتقصُ حقوقُه الإنسانيةُ.. لأنَ الغبنَ هو مشروعُ فتنةٍ ومشروعُ حربٍ نعيشُ وقائعَه في هذهِ المرحلةِ، في الطاحونةِ الدائرةِ في عالمِنا العربيِّ والإسلامي، والتي استدعت التدخلاتِ الدوليةَ للعبثِ باستقرارِ الأوطانِ والمكوناتِ الطائفيةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ فيها.

 

سوفَ نسيرُ على خطاهُ في مواجهةِ كلِّ المنطق التكفيري.. وفي مواجهةِ فكرِ التكفيرِ.. لكيْ نظهرَ  تهافتَ هذا الفكرِ وزيفَه، حين يستندُ إلى بعضِ الكتابِ ويتجاهلُ البعضَ الآخر.. وأن نبرزَ قصورَه في تمييزِ الصحيحِ منَ الفاسدِ.. أنْ نواجهَ إرهابَه حينَ يتحولُ إلى آلةٍ للقتلِ..

 

وسنواصلُ نهجَه في تعزيزِ روحِ المقاومةِ في لبنانَ وفلسطينَ، في مواجهةِ العدوِ الصهيونيِ، ورفضِ مخططاتِ التبعيةِ والتقسيمِ، والوقوفِ مع كلِّ الشعوبِ التي تدافعُ عنْ حريتِها وحقِها في العيشِ الكريمِ وإحساسِها بإنسانيتِها وكرامتِها..

سوفَ نواصلُ معاً حفظَ المؤسَّساتِ التي كانَتْ منَ الناسِ وإليهم.. وهوَ الَّذي كانَ يرفضُ أنْ تُنعتَ هذهِ المؤسَّساتُ باسمِه.. كان يقول: شرفٌ لي أنني أطلقتُها، ولكنَّ الناسَ همُ الذين بذلوا ويبذلون في سبيلِها.. هي ملكُهم، وعليهم أن يحفظوها وأن يحموها وأن ينقدوها.. سنحفظُ معاً الأيتامَ والفقراءَ والمحتاجينَ والمعوقينَ، الذينَ كانَ هدفُ رعايتِهم، ولا يزالُ، حفظَ إنسانِهم وكراماتِهم وحفظَ المجتمعِ من خلالهم..

 

أيها الأحبة:

إنَّنا اليومَ أحوجُ ما نكونُ إليكَ يا سيدي يا أبي وأبَ الجميع، كما كنتَ كذلك.. إلى طلتِك النورانيةِ  وإلى بسمتِك التي لم تغادرْ وجهَك حتى في أقسى اللحظاتِ، إلى آفاقِك الرحبةِ، إلى وعظِك وإرشادِك.. إلى تطلعاتِك الإنسانيةِ والحضاريةِ.. إلى ثقافتِك الواسعةِ، وبصيرتِك النافذةِ، وإلى دعائِك وتذكيرِك لنا بحبِّ اللهِ وحبِّ رسولِ الله (ص) وأهلِ بيتِه (ع).. وحبِ الناسِ جميعاً.. إلى حرصِك علينا وعلى فكرِنا ووعيِنا ومستقبلِنا..

 

نعاهدُك أنَّنا سنتابعُ ما بدأْتَ، مهما كانَتِ الصعوباتُ والتحدياتُ، لأننا نعرفُ أنَّ طريقَك هي طريقٌ صعبةٌ وشاقةٌ.. وسنستمرُّ بإذنِ اللهِ.. سنكونُ الأوفياءَ الأوفياءَ حقاً وصدقاً… وسنكونُ أبداً ودائماً صوتَ الوحدةِ الذي يقتلعُ الأشواكَ التي تزرعُ في طريقِها.

رحلَ السيدُ الجسدُ، واستمرَّ السيدُ الفكرُ المتجددُ، وبقيتِ المؤسساتُ العاملةُ في كلِّ ميادينِ الحياةِ.. ليؤكدَ كلُّ ذلكَ أنَّ الكبارَ لا يموتونَ، وإن ذبلَ فيهم الجسدُ، وغارَ في الترابِ.

 

Leave A Reply