كيف تكون المودة لاهل البيت(ع)

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

قال الله سبحانه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. صدق الله العظيم.

نزلت هذه الآية على رسول الله(ص) لتدعوه أن يعلن للمسلمين ما يريده من أجر منهم على كل ما قام به تجاههم، عندما أخرجهم من ظلمات الجهل والتخلف والتشرذم والتفرق و إلى أن أصبحوا أمة هي خيرٌ أمة أخرجت للناس.. والأجر هو المودة في القربى..

إن هذا الإعلان دعا ويدعونا إلى التساؤل، أيعقل أن رسول الله(ص) الذي كان يتجاوز في دعوته كل الحسابات العائلية والعشائرية إلى أن يعود إليها فيدعو الناس إلى أن يودوا أقربائه فقط لأنهم أقرباؤه وحتى لو كانوا على غير ما يدعو إليه..

فهذا لا ينسجم مع ما تحدث به علي(ع) عنه وهو أقرب الناس إليه “إن ولي محمد من أطاع الله، وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته”..

وقد رأيناه يتبرأ من أبي لهب وهو عمه، لأنه على الشرك، فيما قرب إليه سلمان الفارسي وهو من بلاد فارس، وقال(ص): “سلمان منا أهل البيت”..

وهو من كان يدعو إلى قوله سبحانه: “لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ”.. وكان(ص) يقول: “لا يمحض رجلٌ الإيمان بالله حتى يكون الله أحب إليه من نفسه وأبيه وأمه وماله ومن الناس كلهم”..

 لقد أجاب رسول الله(ص) على كل هذه التساؤلات وأوضح أن المقصود من ذوي القربى ليسوا كل أقربائه بل فئة خاصة منهم، فبعدما نزلت هذه الآية جاء الناس إليه وقالوا يا رسول الله من قرابتك، ومن هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم، قال(ص): علي وفاطمة والحسن والحسين.. قالها ثلاثاً..

فالنبي(ص) إذاً ما كان يدعو الناس إلى مودة أقربائه لأنهم أقرباؤه بل لأولئك الذين تميزوا بصفات أهلتهم لأن يكونوا في موقع المودة عندما اتصفوا بالخلق والدين والعلم والحلم والبذل والعطاء والتضحية والفداء، وممن اصطفاهم الله بأن طهرهم من الرجس، وفيهم نزلت الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.. وممن كانوا صمام أمان من الوقوع في الفتن والضلال، فهم من قال عنهم رسول الله: “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي”..

فهو بهذه الآية أراد أن يقول للمسلمين؛ إني لا أطلب منكم أجراً سوى أن تودوا هؤلاء الأصفياء الأطهار الذين استودعتهم أمانة الإسلام.. فأنتم بمودتهم لن تتيهوا ولن تضلوا ولن تتفرقوا، وسيبقى هذا الدين على صفائه ونقائه..

أيها الأحبة؛ نحن مدعوون إلى ما دعا إليه رسول الله(ص) من المودة لذي القربى هذه المودة التي جعلها الله سبحانه وتعالى فريضة وواجباً، فلا يمكن لإنسان أن ينتمي إلى رسول الله(ص) ولا يحمل المودة لهؤلاء.. أما الطريق إلى المودة وسبل الوصول إليها فهو لا يقف عند حدود إبداء العواطف والمشاعر تجاههم، بأن نقيم على اسمهم الأفراح والمآتم والزيارات والمآدب، بأن نحبهم بحبنا للإسلام الذي لأجله عاشوا وقدموا التضحيات ودفعوا أغلى الأثمان، وقد عبروا عنه بقولهم: “أحبونا حب الإسلام”.. “أفيكفي الرجل أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع والأمانة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء”.. “أفيكفي الرجل أن يقول: أحبُّ عليّاً وأتولاّه، ثم لا يكون فعّالاً.. فوالله ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً”..

فأهل البيت(ع) ما كانوا يريدون للناس أن يرتبطوا بأشخاصهم أو أن يحبونهم لذواتهم بقدر ما أراد لهم أراد لهم أن يرتبطوا بمبادئهم وسلوكهم وعبادتهم وجهادهم وحسن أخلاقهم.

وهذه المودة هي ما ينبغي أن نعبر عنها في هذه الأيام التي نستعيد فيها ذكرى عاشوراء..

وكل التضحيات التي قدمها الحسين(ع) والتي وصلت إلى حد تقديم نفسه ومن معه قرباناً لله على مذبح الحق والعدل..

فتعبيرنا عن المودة للحسين ولكل الذين كانوا معه لا ينبغي أن نقف عند حدود لبس السواد وإقامة المجالس وذرف الدموع وإبداء العاطفة فقط، بل أن نستكمل ذلك بأن نكون معنيين بالأهداف التي لأجلها استشهدوا، بأن نكون في الموقع الذي كانوا فيه والذي عبر عنه الحسين(ع) عندما قال: “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر”..

“ألا أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله.. وهو لذلك قال: “وأنا أحق من غير”.. أن لا نساوم ونجامل على حساب ذلك..

وقال: “لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد”..

فإن نود الحسين(ع) هو أن نكون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والساعين إلى الإصلاح ومواجهة الفساد والاستئثار بالمال العام، وأن نكون مع الحق والعدل مهما بذلنا من تضحيات ودفعنا لأجله الأثمان، أن نكون الصادقين كصدق أصحاب الحسين الذين كانوا معه في كربلاء وأوفياء كوفائهم، عندما لم يتخلوا عن الحسين(ع) رغم في تلك اللحظات الصعبة أنه أجاز لهم في ليلة عاشوراء أن يتركوه بعدما بات واضحاً أن المعركة ستشتعل عندما قال: “هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري”.. كان الصوت فيهم واحداً، لا أرانا الله ذلك أبداً، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك حتى نرد موردك..

أيها الأحبة:

إننا أحوج ما نكون إلى نكون من أولئك الذين صدقوا في مودتهم الذين يحولون هذه المناسبة مناسبة لشحذ الهمم وبناء الإرادات، لإصلاح ما فسد في أمور الدين وعلى مستوى المجتمع والدولة.. ممن يستلهمون من هذه الآية التي كان يرددها الحسين(ع) في كربلاء كلما سقط شهيد: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}..

وبذلك نخلص للحسين(ع) ونحقق أهدافه ويكون بالحق لنا إماماً وقائداً وملهماً وموجهاً إلى العزة والحرية والكرامة وإلى الجنة حيث رضوان الله..

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستهدي وقفة الحر بن يزيد الرياحي موقفه في يوم العاشر حيث تذكر السيرة أنه وقف في يوم العاشر من المحرم وكان آنذاك في جيش عمر بن سعد وهو يرتعد فقال له أحدهم وهو من جيش عمر بن سعد وهو على هذه الحال، فقال له: أنت ترتعد، ولو قيل لنا من أشجع أهل الكوفة ما عدوناك!.. قال له: أنا لا أرتعد خوفاً، ولكنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار.. وأخذ قراره الحر عندما قال: لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قطِّعت أو أحرقت..

أن يكون قرار الحر بن يزيد الرياحي هو خيارنا في كل موقف نقفه بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين العدل والظلم، أن نكون مع الحق والعدل والخير حتى لو كان على حسابنا وأن نقف ضد الظلم والباطل والشر، حتى لو كانت من ورائه الدنيا وكلفنا ما كلفنا..

ومتى فعلنا ذلك بأننا نكسب جنة عمل لها الحر بن يزيد الرياحي وسنكون أقوى وأقدر على مواجهة التحديات..

والبداية من لبنان الذي يبقى فيروس كورونا هاجس اللبنانيين بعد ازدياد أعداد المصابين به، والذي يستدعي مجدداً دعوة المواطنين جميعاً إلى التقيد بكل إجراءات الوقاية من هذا الفيروس حفظاً لهم ولمن حولهم..

ونحن في هذا المجال، نقف مع أية إجراءات تتخذها الدولة ولو كانت تؤدي إلى توقف العديد من القطاعات، ولكن هذا لا يعفي الدولة من مسؤوليتها تجاهها بالتعويض عليها ومساعدتها على تحمل أعباء هذا الإقفال، حتى لا تضطر إلى الاستغناء عن موظفيها أو بتعطيلهم القسري على حسابهم ومن دون أجر، مع كل تبعات ذلك على لقمة عيش هؤلاء..

إن الدولة معنية بأخذ الإجراءات لوقاية مواطنيها بأن تعينهم على التقيد بها فلا تضطرهم للتجرؤ على عدم الالتزام بها حفظاً للقمة عيشهم وعيش الذين يعملون لديهم..

في هذا الوقت تعود إلى الواجهة معاناة اللبنانيين على المستوى الاقتصادي والاجتماعي المتأزم والذي يزداد تفاقماً بعد تلويح حاكم مصرف لبنان برفع الدعم عن السلع الضرورية، وهي الوقود والطحين والدواء تفادياً لاستنزاف احتياطات العملة الأجنبية لديه والتي بلغت أدنى مستوياتها، والذي نرى أنه سيؤدي إلى أعباء متزايدة لا طاقة للبنانيين على تحملها..

وهنا ندعو الدولة إلى استنفار كل جهودها من أجل عدم اتخاذ هذا القرار، لمنع كارثة اجتماعية وأمنية وبالطبع ستؤدي إلى غضب عارم يخشى من تداعياته على أصحاب القرار في هذا البلد.

وعلى الصعيد الأمني نتوقف عند الحدث الأمني المؤسف والخطير الذي حدث بالأمس في خلدة، والذي كادت شراراته تطال العديد من المناطق اللبنانية وتأخذ بعداً طائفياً ومذهبياً..

ونحن في الوقت الذي نقدر فيه وعي القيادات المعنية والدور الذي قامت به للإسراع بوأد الفتنة وتداعياتها، نؤكد على كل اللبنانيين ضرورة توقي دواعي الفتنة وعدم الوقوع في شرك الساعين إليها.. وندعو القوى الأمنية والقضائية إلى معالجة ذيول ما حدث والتحقيق فيما جرى وملاحقة المتسببين والمحرضين والتعامل بكل جدية لمنع تكراره..

وفي موازاة ذلك يستمر العدو الصهيوني بخروقاته في البر والبحر والجو، وكان آخرها الاعتداءات التي جرت على القرى اللبنانية المتاخمة للحدود اللبنانية الفلسطينية والتي حصلت بحجة خوف العدو من تسلل المقاومين أو إطلاق بعض العيارات النارية على جنوده وغير ذلك مما بقي في إطار مزاعم العدو ولم تؤكده الوقائع على الأرض ولا بيانات الجيش اللبناني.. مما يشير إلى نوايا هذا العدو تجاه هذا البلد والتي تدعو إلى بذل مزيد من الجهود لمنعه من تحقيق أهدافه..

ومع الأسف، يأتي كل هذا في ظل استمرار التجاذبات الداخلية بين القوى السياسية والتي تتزامن مع ضغوط خارجية..

ونحن أمام هذا الواقع نعيد دعوة القوى السياسية إلى تحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها بالخروج من حساباتها الخاصة أو من رهاناتها أو من تصفية حساباتها فيما بينها، والإسراع بتشكيل حكومة فاعلة وقادرة على النهوض بهذا البلد وإجراء الإصلاحات فيه لتحظى بثقة مواطنيها والعالم بها..

إن على القوى السياسية أن تتقي غضب هذا الشعب الذي لن يرحم كل من يدير ظهره لمصالحه والذي لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الآلام..

ونحن في الوقت نفسه، ندعو المواطنين إلى أن يحسنوا التخاطب فيما بينهم فلا يسمحوا لدعاة الفتنة أن يجدوا فيها مجالاً رحباً، ونؤكد على القيادات الدينية أن تكون أمينة على قيمها وتدعو إلى الرأفة والرحمة والجدال بالتي هي أحسن والعمل للبنانيين جميعاً.. وأن لا يكونوا سبباً في إيجاد شرخ بين اللبنانيين وخلق توترات فيما بينهم أو أن تؤدي مواقفهم إلى تأليب بعضهم على بعض..

وأخيراً نقف مع مناسبة أليمة هي مناسبة اختفاء الإمام السيد موسى الصدر، هذا الإمام الذي كان مثالا للعالم المنفتح على قضايا الحياة والعصر وشكل عنواناً للوحدة الإسلامية والوطنية، وللتقارب الإسلامي المسيحي والانفتاح على العالم العربي والإسلامي، وسعى إلى مد جسور التواصل فيما بينها وعمل على تحصين البلد من الفتن التي كان يراد للناس أن يكتووا بنارها، ووقف صلباً في مواجهة الفساد والحرمان وفي التصدي للعدو الصهيوني، وكان داعماً بارزاً للقضية الفلسطينية..

إننا في هذه المناسبة نجدد دعوتنا إلى إماطة اللثام عن هذه القضية التي تهم كل اللبنانيين، فالإمام الصدر لم يكن إماماً لطائفة من اللبنانيين، بل كان إماماً للوطن ومن مسؤوليتنا أن نستلهمه، وأن نتوحد على هذه القضية ونقوم بواجبنا تجاهه..