لا تبطلوا أعمالكم، كالتي نقضت غزلها

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} صدق الله العظيم.

 
هذه الآية القرآنية الواردة في سورة النحل أشارت إلى امرأة من قريش عاشت في أيام الجاهلية، وقد بلغ من سفه هذه المرأة وغبائها أنها كانت تغزل الصوف مع عاملاتها من الصباح حتى منتصف النهار وبعد أن ينهين من عملهن تأمرهن وبدون أي سبب بنقض ما غزلن.
 
وهذه الآية وإن وردت عن هذه المرأة لكنها تعبر عن نموذج من الناس يشمل كل الذين يضيعون جهوداً بذلوها وأعمالاً مضنية قاموا بها ولم يستفيدوا منها في الآخرة.
 
وهذا يمتد إلى كل الذين ضحوا بأنفسهم أو بذلوا أموالهم أو تعبوا من السعي والعمل في الدنيا هنا وهناك، ولكنهم لم يعملوا لله، هؤلاء ستذهب أعمالهم أدراج الرياح ولن يستفيدوا منها وسيقول الله لهم عندما يطالبون بنتائج جهادهم وجهودهم وبذلهم: ليس لكم شيء عندي اذهبوا إلى من عملتهم له وخذوا أجركم منه.
 
وهؤلاء هم الذين لم يعملوا خالصاً بحيث عملوا لله ولغيره.. فقد ورد في الحديث القدسي: "أنا خير شريك، من أشرك بي في عمله لن أقبله إلّا ما كان لي خالصاً".. هذا نموذج…
 
وهناك نموذج آخر مقابل… هم الذين أخلصوا لله النية وأرادوا القربة إلى الله ولكنهم ضيعوا أعمالهم التي قاموا بها بفعل ظلمهم لربهم وعصيانهم له، وإساءاتهم للناس..  
 
وهذا الذي أشار إليه رسول الله(ص): "أتدرون ما المفلس؟ قالوا له يا رسول الله: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع عنده.. قال الرسول(ص): هذا مفلس الدنيا وليس هذا ما أريد.. أريد مفلس الآخرة وهو الذي يأتي يوم القيامة وقد صلى وصام وتصدق وجاهد ولكن يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النَّار".
 
وفي ذلك ما ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: "من قال: "سبحان الله" غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومَن قال: "الحمد لله" غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: "لا إله إلا الله" غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: "الله أكبر" غرس الله له بها شجرةً في الجنة. فقال رجلٌ من قريش: يا رسول الله!.. إنّ شجرنا في الجنة لكثيرٌ!.. قال: نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، (يقصد في ذلك الذنوب والمعاصي) ذلك أنّ الله عزّ وجلّ يقول: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}".
 
ومن هنا أيها الأحبة، لا يكفي من الإنسان وحتى يطمأن إلى مصيره عند الله أن يؤدي الأعمال الصالحة، بل لا بد أن يتأكد من صدق النية لله وأن لا يتبع هذه الأعمال بسيئات تذهب بهذه الأعمال الصالحة وتفقده نتائجها.
 
وهذا يستدعي من الإنسان أن يتابع نفسه بأن يدقق في نيته وأن يعزز الرقابة عليها فلا يخضع لتسويلات الشيطان الذي توعد الناس بقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.. وأنه سيقعد لهم في الصراط المستقيم ليضيع كل ما قاموا به فقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.. ولا يسقط أمام انفعالاته وعصبياته ولا يستكين للأجواء المنحرفة التي تحيط به وتدفعه إلى التفريط بما حصل عليه من مكتسبات. 
 
إن هذا هو ما نحتاج أن نستحضره ــ أيها الأحبة ــ بعد كل عمل عبادي أو جهد بذلناه، أن نضع في حساباتنا وبقوة خلوص النية وعدم تبديد نتائج العمل..
 
وهذا ما نحتاج أكثر فأكثر أن نستحضره اليوم، وخصوصاً بعد انتهاء موسم شهر رمضان الذي بذلنا فيه جهوداً في الصيام والقيام وتلاوة القرآن وإحياء ليالي القدر وفي البذل والعطاء، والذي بسببه حظينا بالكرم الإلهي والزاد الوفير من عنده.. وأقل شيء في ذلك أن الأنفاس كانت تسابيح والنوم عبادة.
 
والسؤال كيف نحافظ على هذه المكتسبات حتى لا تضيع أدراج الرياح ولا تكون حالنا كذلك التاجر الذي حصل على أموال وفيرة بجهد جهيد ولكنه فرط في حفظها فعرضها للسارقين..
 
يمكننا ذلك إذا لم نعتبر كما يعتبر الكثيرون أن شهر رمضان هو جزء من السنة بحيث يؤدون الأعمال الصالحة ويحبسون فيه أنفسهم عن الحرام ليعودوا إلى ما كانوا عليه بانتهائه، بل لا بد أن نعيش الأجواء الروحية والإيمانية والمتابعة لأنفسنا على مدار السنة.. فلا تنقطع بانتهاء شهر رمضان فيعود الإنسان إلى سابق عهده وكأن شهر رمضان كان عبئاً على ظهره وأزاله عنه.. كما قال ذلك الشاعر:
 
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ…
 
بحيث يعود المغتاب إلى غيبته والكاذب إلى كذبه والمرتشي إلى رشوته والنمام إلى نميمته والغشاش إلى غشه والظالم إلى ظلمه.. ويعود كلٌ منا إلى غفلته، فيهجر قراءة القرآن وقيام الليل والدعاء والذكر والاستغفار أو التواجد في المساجد أو صلاة الجماعة والجمعة.. وكأن العبادة والاستقامة وتحقيق رضا الله مقتصر على شهر رمضان.
 
القضية ليست كذلك، العبادة والاستقامة لا تقف عند زمن بل تمتد إلى الموت.. يقول تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. 
ويقول عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}.
وقد ورد في الحديث عن علي(ع): "المداومة المداومة، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمنين غاية إلاّ الموت".
وقد جاء في الحديث: "العمل العمل ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة".
وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "ما من شيء أحبّ إلى الله عزّ وجلّ مِنْ عمل يداوم عليه".
 
ولذلك لا بد لأجواء شهر رمضان أن تبقى حاضرة وأن بنسبة تختلف عما في شهر رمضان.. وإننا ببذل فردي أو جماعي نتمكن من الحفاظ على روحية شهر رمضان ما أمكننا ذلك بعدما كانت الأجواء عامة في شهر رمضان، وما على الإنسان إلا أن يندمج فيه.. فلا يدعن أحدنا عادة كريمة اعتادها في شهر رمضان.. أو عمل صالح كان يقوم به إلا ويتابعه.. وأهم شيء ينبغي الحرص عليه هو الحفاظ على ارتياد المساجد، فمساجدكم حصونكم وأمانكم ومتاريسكم من كل شياطين الجن والإنس فلا تدعوها.
 
وتبقى النقطة الأخيرة التي نحب أن نشير إليها، وهي تتصل بالآية القرآنية التي كررنا تلاوتها في ليالي القدر، وهي قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
 
فهذه الآية تشير إلى امتحان كبير لا بد أن يقف الإنسان أمامه بعد كل عمل والتزام، وفيه يتبين صدق الإنسان وجدية ما قام به، فلا يكتفي الله من الإنسان أن يقول أسلمت أو آمنت أو صليت أو صمت أو حججت حتى يكتب عند الله من المسلمين أو المؤمنين أو المصلين أو الحجاج.. بل لا بد أن يخضع لامتحان ليظهر الجدية في ذلك…
 
وقد عبر القرآن عن صعوبة هذا الامتحان، في قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.. والفتنة هي النار التي توقد تحت الذهب الممزوج بالتراب وبها يتميز التراب من الذهب.
 
ومعنى ذلك أننا جميعاً سنفتتن بعد شهر رمضان وسنمتحن وكلٌ له امتحان، منا قد يمتحن بعاطفته ومنا بماله ومنا بموقعه ومنا بشهوته ومنا برشوة تقدم له على طبق من فضة، ومنا بانفعال يتعرض له، أو بعصبية أية عصبية يواجهها.. وهذا الامتحان يميز الله من خلاله الإنسان فيما قام به، هل هو صادق أم كاذب؟.. هل يقول أنا صائم عن الحرام ولن أفعله أو يخضع لرغباته وشهواته وعصبياته وانفعالاته وحساباته الخاصة. 
 
ومن هنا:
فلنحرص على أن نكون من الفائزين وأي فوز هذا عندما تكتب من الذين عتقت رقابهم من النار واستحقوا الفوز بالجنة.
وليكن دعاؤنا: "اللهمّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، واجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين".
 
 
 
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما قاله أمير المؤمنين(ع): "واعلموا عباد الله أنَّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممن كان أطول منكم أعماراً، وأشدّ بطشاً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً. فأين هم؟! أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة والنمارق الممهّدة الموسّدة، الصخور والأحجار المسنّدة والقبور الملحّدة. وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من الوحدة والبِلى في دار الموتى، وارتهنكم ذلك المضجَع، وضمّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، وبُعثرت القبور، وحُصّل ما في الصّدور، وهُتكت عنكم الحجب والأستار، وظهرت منكم العيوب والأسرار، ووقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل، فطارت القلوب لإشفاقها من سلف الذنوب". آه هناك من قلّة الزاد وعظيم المورد!
 
أيّها الأحبّة، لننظر في كلّ أمورنا وفي كلّ قراراتنا وأعمالنا وأحكامنا، لننظر إلى البعيد لا إلى القريب، حيث الأهل والأصدقاء والمناصرون، لأننا سوف نترك كل هؤلاء، ونغادر الحياة بأعمالنا، لنقف بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. إذا فعلنا ذلك، وحسبنا لذلك الزمن حساباً، وكنا أكثر حذراً في كلماتنا، وأكثر دقةً في تصرفاتنا، وأكثر وعياً لمسؤولياتنا، عندها لن نكون إلا حيث يريدنا الله أن نكون..
 
العراق
والبداية من كلّ هذا الواقع الأليم الّذي بات يغطّي مساحات واسعة من العالم العربيّ والإسلاميّ، وقد يمتدّ إلى مساحات إضافيّة، بفعل المنطق التّدميريّ الجاثم على بلادنا، الَّذي لم يعد له اسم واحد، بل مسمّيات عديدة، وقد شهدنا أخيراً مشاهد مروعة له في العراق، الّذي شهد قبل أيام واحدةً من أكبر مجازر العصر في حي الكرادة، تلتها مجزرة طاولت مقام السيد محمد ابن الإمام الهادي(ع) في بلد، وذلك في سياق الجرائم الإرهابية المتواصلة على الشعب العراقي الذي عانى هذا الإرهاب ما لم يعانه أيّ شعب آخر.
 
إنّنا أمام هذه الجرائم الرهيبة التي أصابت الجميع، وخصوصاً العراق، لم يعد من المجدي عملياً أو من المقبول أخلاقياً، أن نتلطّى وراء ذرائع هنا أو حسابات ضيّقة هناك، للتهرّب من مسؤوليّتنا في التصدي لها، بل لا بدّ من بذل كلّ الجهود العربيّة والإسلاميّة، واستنفار كلّ الطاقات السياسيّة والأمنيّة، من أجل الخروج من هذا النفق الدامي، وإنهاء هذا الملفّ الأسود من تاريخ الأمة.
 
وليس بعيداً من هذا الأمر، ما يجري في بريطانيا من تحقيق حول المسؤوليّة عن الغزو الّذي حصل للعراق، وما انطوى عليه من نقد ذاتيّ لقرار بريطانيا المشاركة في الحرب. وإذا كان التّحقيق يحمل بعض الإيجابيّة، كما يرى البعض، بفعل هذه المراجعة للذات، فإنّ الكثيرين يعتبرون أنه محاولة لتبرئة النّفس أو تقديم الاعتذار الَّذي يأتي، وفي كلّ مرة، بعد ارتكاب الجريمة، حيث تنطلق الاستنكارات بعد نزف الدماء وسقوط مئات الآلاف من الضحايا، فضلاً عن الدّمار الذي أصاب البلد، فما صدر لن يعيد للضّحايا حياتهم، أو يخفّف من آلام الناس الّذين لا زالوا يعيشون المعاناة، ولن يعيد إعمار الوطن، وبناء البيوت المهدّمة، وتأهيل بناه التحتيّة.
 
إنّ الاعتراف البريطاني بأن قرار الحرب على العراق كان قراراً غير مبرّر، يؤكّد ما كنا نعلمه عن الأسس اللاأخلاقية للسياسات المتبعة، والنابعة أولاً وآخراً من المصالح التي تحكم قرارات الدول الكبرى التي تطاول بلداننا. وعسى أن يتعظ الكثيرون من العرب والمسلمين الذين لا زالوا يراهنون على هذا الغرب، مما جرى.
 
لبنان
ونصل إلى لبنان، حيث نحمد الله سبحانه وتعالى على مرور هذا العيد بسلام وأمن، كما كانت دعوات المؤمنين، ونريده دائماً أن يكون بعيداً عن التّشنّجات والعصبيّات والحساسيّات الّتي قد ينتجها الاختلاف في الرأي حول بداية العيد.
 
وفي هذا الوقت، لا يزال اللبنانيّون ينتظرون ما قد تنتجه الحركة السياسيّة الّتي شهدتها الأيام السّابقة في الدّاخل والخارج، ويأملون أن تساهم في تحريك العجلة السياسيّة، وإزالة حالة الفراغ والتّعطيل، لتعزيز المناعة في مواجهة تحدّيات الخارج والداخل، وإن كنّا لا نرى حتى الآن الأجواء مهيأة لتحقيق ما يصبو إليه اللبنانيون وما يريدونه، ولكنّنا لا نعدم فسحة أمل نأمل من السّياسيين بلوغها.
 
وفي هذا المجال، فإنّنا نأمل أن يكون التقدّم الّنسبيّ الّذي شهدناه في معالجة موضوع النفط، بداية لمرحلة جديدة عنوانها الاستثمار النّزيه لهذه الثّروة الطبيعيّة، التي يمكن أن تشكل فرصة ثمينة لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي، ومن ثقل الدّيون.. واللبنانيّون هنا يتمنّون بعد أن يئسوا من الفساد المستشري وتقاسم الحصص في كلّ شيء، أن لا يتمّ العمل على تقسيم هذا القطاع حصصاً لحساب المواقع السياسيّة، كما هي العادة، فيتحوّل إلى نقمة بدل أن يكون نعمة.
 
ذكرى السيّد(رض)
وأخيراً، مرَّت علينا في الرابع من تموز ذكرى ارتحال سماحة السيد(رض) إلى بارئه؛ هذه الذكرى الّتي تعيدنا إلى كلّ العمر الذي عشناه معه. إنّ السيّد لم يترك بصماته في هذا العصر فحسب، بل سيمتدّ إلى العصور القادمة، وسيبقى هذا الاسم عنواناً تقتدي به الأجيال، ونستهدي منه كلّ القيم والتطلّعات الإنسانيّة الّتي جسَّدها في الفكر والممارسة.
 
وسنبقى نستهدي منه الحبّ الَّذي كان يكنّه للنّاس جميعاً، فقلبه لم يعرف أيّ حقد أو بغضاء تجاه أحد، حتى الّذين وجّهوا إليه الإساءات، فقد سامحهم قائلاً: "لن أكون عثرة في طريق مؤمن إلى الله". 
 
إنّنا نستهدي من سماحته الرحمة، ونستلهم فكره اليقظ وإنسانيّته وانفتاحه على الآخر، وجهاده وحبه للضعفاء من الناس، وسعيه للارتقاء بهم نحو حياة أفضل. لقد ترك السيّد(رض) إرثاً كبيراً على مستوى الفكر والاجتماع والتربية والفقه والأصول، ودعا إلى دراسته، وحتى إلى نقده، لكن بعيداً من الأفكار المسبقة والعصبيات والحساسيات.
 
لقد غاب السيّد عن أعيننا، لكنّه لم يغب عن الساحات وعن الميادين، وسوف يثبت الزّمن كم كان سماحته استشرافياً ورؤيوياً ومستقبلياً في كلّ طروحاته، حيث قدّم معالجات شافية لكثير من معضلاتنا المذهبية والفكرية والسياسية، في محاولةٍ لحماية الأمة من الفتن والمآسي.
 
إن إخلاصنا للسيّد(رض)لم يكن، ولن يكون، إخلاصاً لشخصه أو لذاته التي لم تكن تعني له شيئاً إلا بمقدار كونها عوناً له على رسالته، بل هو إخلاص للإرث الذي تركه، والذي لم يتركه في عهدة أشخاص، بل في عهدة الأمّة كلّها، التي آمن بها وكانت وفيَّة له.

Leave A Reply