لا تبطلوا اعمالكم

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} صدق الله العظيم.

يدعو القرآن الكريم وتعالى في هذه الآية الكريمة المؤمنين إلى أن يطيعوا الله ورسوله، بأداء الواجبات والقيام بالمسؤوليات، لكن التحذير جاء بعد ذلك من الله سبحانه لهم بأن لا يضيعوا ما أنجزوه من الطاعات بارتكاب المعاصي أو بظلم الناس والإساءة إليهم بحيث لا يجدونها لدى حاجتهم يوم يقفون بين يديه..

وهذا ما حذّر منه رسول الله(ص) عندما قال: “من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنّة”. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال: “نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، ذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}“.

وقد أشارت الأحاديث إلى بعض ما قد يؤدي إلى ضياع الأعمال وخسارة النتائج المرجوة منها عند الله، فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): “لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا”. فقيل له: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا”.. فقد أشار الحديث إلى هذا الصنف من الناس الذين يتجرأون على المعاصي عندما يكونون بعيدين عن أعين الناس فيما لا يرتكبوها عندما يكونون تحت أعينهم..

وقد ورد في ذلك: “إياك أن تكون صديقاً لإبليس في السر عدواً له في العلانية”..

وفي حديث آخر: ” اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك”..

وفي حديث آخر: “أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي؟”، قَالُوا: “الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ”، فَقَالَ رَسُولُ اللهُ (ص): “الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْتَصُّ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”.

وقد ورد في الحديث: ” يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي! فإني لا أرى فيها طاعتي؟! فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي! فإني ما عملت هذه الطاعات! فيقال: لأن فلاناً اغتابك فدُفعت حسناته إليك”..

لذا ورد: “أن رجلاً قد سمع أن أحداً قد اغتابه.. فأرسل إليه طبقاً من الرطب، وقال: “بلغني أنك أهديتَ إليَّ حسناتِك، فأردتُ أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام”..

أيّها الأحبّة، هي مصيبة ليس بعدها مصيبة، أن يكدح المرء في الدنيا بأنواع العبادات والمستحبات ويجاهد ويتصدق ويتعلم، حتى إذا جاء يوم القيامة ليستوفي أجره وينجو من النار بذلك ويدخل الجنة يقال له قد ذهبت حسناتك أدراج الرّياح، في وقتٍ لا مجال للتعويض، إلا أن يشمله سبحانه وتعالى برحمته.

فيكون حاله في ذلك حال التاجر الذي كسب مالاً كثيراً من تجارته بعد كد وتعب، لكنه بعدما حصل عليه ضيع هذا المال أو بذَّره ولم يجده وقت حاجته إليه، أو حال تلك المرأة التي كانت تعيش في مكة والتي أشار إليها القرآن بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}.. فقد كانت هذه المرأة تعمل مع عاملات في غزل الصوف من الصباح وحتى المساء لكنها، وما أن تنتهي من عملها معهن، تأمرهن وبدون أي سبب بنقض ما غزلن..

ومن هنا أيها الأحبة، نحن مدعوون إلى أن نتابع أنفسنا جيّداً، أن نراقبها ونحاسبها ونلومها، أن نتأكد أن ما صدر عن أسماعنا وأبصارنا وما جرى على أيدينا ومن كل جوارحنا.. لم نعص به الله ولم نظلم أحداً ولم نسيء به إلى أحد، حتى لا نتفاجأ بما أشار إليه سبحانه عندما قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.. ممن أضاعوا وفرطوا بكل رصيدهم من الخير والحسنات..

إن هذا ما ينبغي أن نستحضره في كل وقت وزمان، وبعد كل عبادة وطاعة نقوم بها وبذل نؤديه وجهاد وتضحية نقوم بها، حتى نحفظ جهداً بذلناه وتضحية قدمناها وثواباً نستحقه..

ودعاؤنا في ذلك: “اللَّهُمَّ ثَبِّتْنا عَلى دِينِكَ ما أَحْيَيْتَنِا، وَلا تُزِغْ قَلوبنا وأبصارنا وأسماعنا وجميع جوارحنا… واجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين، يا أرحم الراحمين”.

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}..

هي دعوة من الله لعباده إذا كانوا يخشون من شيء، فلتكن خشيتهم من ذلك اليوم الذي لا بد أنه آت والذي ينشغل فيه كل بنفسه ولا يغني فيه أحد عن أحد حتى الأب لا يغني عن أولاده ولا تغني الأم عن أولادها ولا الأولاد عن آبائهم وأمهاتهم، ما يغني في ذلك اليوم هو تقوى الله وطاعته، من عاش هذه التقوى في حياته ولم تخدعه الدنيا بشهواتها ولذاتها ولا الشيطان بوعوده وأمانيّه المعسولة ولا أحد عن نفسه..

إننا أحوج ما نكون إلى الأخذ بهذه الوصية حتى نقي أنفسنا مما توعدنا الله  به  في ذلك اليوم ونكون أكثر وعياً ومسؤولية في هذه الحياة وأكثر قدرة على مواجهة التحديات..

والبداية من فيروس كورونا الذي لم تتوقف أعداد المصابين به من الوافدين من الخارج أو المقيمين عن الازدياد، ما يستدعي التذكير مجدداً بضرورة التقيد التام بالإجراءات المطلوبة واعتبار ذلك واجباً دينياً وإنسانياً..

وهنا ندعو الدولة ألتي قررت الاستمرار باستقبال اللبنانيين المتواجدين في الخارج والبدء بفتح المؤسسات العامة والخاصة لتسيير العجلة الاقتصادية إلى التشدد بتطبيق الإجراءات المتخذة بحق الوافدين والمقيمين وعدم التهاون فيها..

وهنا لا بد من أن ننوه بما لمسناه لدى المصلين في هذا المسجد والمساجد الأخرى من التزام بإجراءات الوقاية، لتكون هذه العودة كما نريدها آمنة ولا تنعكس سلباً على سلامة المصلين وعائلاتهم..

وإلى جانب العمل لمواجهة الوباء وكل تداعياته وآثاره، تبدو الحاجة ماسة إلى معالجة جادة للوضع المعيشي وعدم الاكتفاء بالمسكنات، حيث لا تزال أسعار السلع الضرورية والدولار وآخرها أسعار الخبز والمازوت تزداد ارتفاعا وكذلك نسب البطالة ومعدلات الفقر، والتي تركت آثارها على لقمة عيش المواطنين وأمنهم الاجتماعي وتلبية أبسط احتياجاتهم..

ومن هنا، فإننا نعيد دعوة أجهزة الدولة إلى العمل بكل جدية ومسؤولية لدراسة كل السبل الكفيلة بمعالجة هذا الواقع الصعب لتجنب آثاره الخطيرة، ولمعالجة مختلفة تتعلق بدعم فعلي يحرك عجلة الزراعة والصناعة والحِرَف والمؤسسات والشركات التي تضررت، واستثمار كل الموارد المتاحة والتي تساهم في تأمين سبل عيش كريم للمواطنين..

ومن هنا، فإننا في الوقت الذي لا نزال ندعو كل القوى الموالية والمعارضة إلى تسهيل عمل الحكومة للقيام بالمهمة التي جاءت لأجلها، ندعو الحكومة إلى تفعيل دورها والثبات على أهدافها المعلنة والاستمرار بالنهج الإصلاحي، وعدم الوقوع في مهاوي المحاصصات في الملفات المطروحة التي أودت بصدقية الحكومات السابقة وأوصلت البلد إلى ما وصل إليه.. وأن عليها أن تعي أن ما يمنحها الشرعية والقوة والقدرة على الاستمرار هو مكافحتها الفساد والقيام بالإصلاحات الجدية وتقديم معالجة جادة للوضع الاقتصادي فضلاً عن دعم كل القوى السياسية والشعبية المخلصة التي تريد خروج لبنان من هذا النفق المظلم إلى حال من التعافي والاستقرار..

في هذا الوقت يترقب اللبنانيون مآل المسيرة التي أعلنت عنها مجموعات الحراك الشعبي في السادس من هذا الشهر، تحت عنوان مواجهة الواقع الاقتصادي القائم..

ونحن في هذا المجال، في الوقت الذي نقف مع كل صوت يرتفع للضغط على الحكومة وعلى كل القوى السياسية لاستنفار جهودها لمواجهة هذا الواقع الاقتصادي الصعب والمضي في المسار الإصلاحي، إلا أننا نحذر من إخراج هذا التحرك عن طابعه السلمي ومطالبه المحقة وإدخاله في إطار الصراع السياسي الداخلي، أو توظيفه في سياق الضغوط الخارجية التي تمارس على البلد للنيل من سيادته وحريته..

وفي هذه الأيام نستذكر ذكرى النكسة في العام 1967، فإن أهم عبرة نأخذها هو التنبّه إلى غدر هذا العدوّ فهو عدوّ غادر، ينتظر الفرصة السّانحة لتحقيق مشاريعه في المنطقة، ومواصلة اعتداءاته كما فعل بالأمس في استهداف جديد لسوريا من سماء لبنان، ولذلك لا بد من التصدي لهذا العدو من خلال المقاومة والوحدة حتى نسقط أطماعه ومخططاته.

وأخيراً نستعيد في هذه الأيام ذكرى رحيل الإمام الخميني(قده)، الفقيه المجدد الذي أعاد للإسلام حيويته وتألقه وروحانيته ، وقدم تجربة إسلامية رائدة في تبنيها لهموم المستضعفين وقضاياهم، وخصوصاً قضية فلسطين، وأولى الاهتمام الأكبر للوحدة الإسلامية ولكل قضايا الحرية في العالم..

إننا وامام هذه المناسبة نشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتق كل الذين يحملون الهم الإسلامي بأن يحفظوا هذه القيم ليكون للإسلام حضوره في الساحة الحضارية والفكرية أمام كل التحديات التي يتعرض لها العالم.