لنجعلْ من شهرِ رمضانَ شهرَ البذلِ والعطاءِ

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 268]. صدق الله العظيم.

من أخطر الظَّواهر

إنَّ أخطر ما يصيب المجتمعات والأوطان، أن لا يجد النّاس فيها ما يسدّ حاجاتهم من ماءٍ وطعامٍ وصحّةٍ وتعليمٍ وبنى تحتيّة وفرص عمل… وهي أمور تُفقِد المجتمعات والأوطان قوّتها وحضورها وأمانها، وهي مدخل للمسّ بكرامة الإنسان وإذلاله واستعباده، وباب لتفشّي الفساد والانحراف وتنامي الأحقاد.

وقد أشارت الأحاديث الشّريفة إلى مدى خطورة تفشّي ظاهرة الفقر وانتشارها، حيث ورد في الحديث عن رسول الله (ص): “كاد الفقر أن يكون كفراً”.

وفي حديث له: “اللَّهمَّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر”. فقال رجل: أيعدلان؟ قال: “نعم”.

وقد رأى الإمام عليّ (ع)، أنّ التّعامل مع الفقر ينبغي أن يكون كما التّعامل مع المجرمين الّذين يقتلون النّاس ويفسدون في الأرض، فقال (ع): “لو تمثّل ليَ الفقرُ رجلاً لقتلته”. وقد برّر الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاريّ (رض) للفقراء أن يشهروا سيوفهم، ويعلنوا الحرب على المتسبّبين بالفقر أو المساعدين عليه، فقال: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على النّاس شاهراً سيفه!”.

تصدّي الإسلام للفقرِ

إذاً، الفقر هو مشكلة الحياة، ولذلك، منعاً لتداعياته، وحدّاً من مخاطره، عمل الإسلام، ومن خلال أحكامه وتشريعاته، على التصدّي له. وهو في ذلك عمل من أكثر من طريق:

الطريق الأوّل: هو إيقاظ أحاسيس الأغنياء وتحريك مشاعرهم الوديّة تجاه الفقراء، بحيث يشعرون بما يعانيه هؤلاء الفقراء، وليس هناك أقوى من الإحساس بألم الجائعين ومن يعانون في الحياة، ليكون دافعاً لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وهذا ما أشار إليه بكلّ وضوح الإمام الصّادق (ع) عندما قال: “إنما فرض الله عزّ وجلّ الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك أنّ الغنيَّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضّعيف فيرحم الجائع”.

الطريق الثاني: هو أنّه دعا كلّ من يملك مالاً زائداً عن حاجاته إلى بذل بعض ما عنده لمساعدة الفقراء وسدّ احتياجاتهم، واعتبر ذلك فريضةً وواجباً من خلال الخمس والزكاة وليس خياراً، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذّاريات: 19].

وقد ورد في الحديث: “إنّ الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلّا بما متِّع به غنيّ، والله تعالى سائلهم عن ذلك”.

وفي حديث آخر: “إنَّ الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، فحقّ على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذّبهم عليه”.

وهو لم يكتف في ذلك بالواجبات الماليّة، بل حثَّ على بذل الصَّدقات ودعا إليها، وفي ذلك قوله سبحانه: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ }[التّوبة: 103]، وقد أشارت الأحاديث إلى أهميّة الصّدقة، فقد ورد أنّ: “الصّدقة جنّة من النّار”.. “إنَّ الصّدقة تطفئ غضب الربّ”، وأنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقراء، فقال: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التّوبة: 104]، واعتبرتها باباً لدفع البلاء وردّ القضاء ولو أبرم إبراماً، وتزيده في الرزق وفي العمر وتستنزل الرّزق.

أما الطّريق الثّالث: فهو أن تتحمل الدولة مسؤوليّتها، فقد جعل دورها أن تؤمّن احتياجات مواطنيها الفقراء ومدّ يد العون إليهم ومساعدتهم، وهي إن لم تقم به، ينبغي أن تسأل عنه. وقد عبَّر عن ذلك أمير المؤمنين (ع) في عهده إلى مالك الأشتر عندما ولّاه مصر: “الله الله فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ: مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَ والزَّمْنَى؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً (الذي لا يسأل)، واحْفَظِ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ (خزينة الدولة)، فإِنَّ لِلاْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأدْنَى… وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه، ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ (الطغيان بالنّعمة)”.

ولم يكتف الإمام (ع) بذلك، بل كان موقفه حاسماً إزاء كلّ من امتدّت يده إلى المال العام وساهم في إفقار الناس ولم يتهاون معهم، حتى قال: “والله لو وجدته قد تُزوّج به النّساء ومُلكَ به الإماء لرددته”.

ولذلك، ورد عنه في سيرته: “ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعماً، وإن أدناهم منزلةً ليأكل البرّ”.

مسؤوليّة الجميع

أيّها الأحبَّة: من الطبيعيّ أن تحدث هناك تنوّعات في المجتمع، وأن يكون هناك تفاوت بين النّاس في أقواتهم وأرزاقهم، وأن لا يجد منهم ما يسدّ به حاجته أو يحصل على قوته، نظراً إلى اختلاف الإمكانات التي تتوفّر للأفراد، وللظّروف التي قد يعيشون فيها، والتي أشار إليها الله عزَّ وجلَّ عندما قال: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }[الزّخرف: 32].

ولكن هذا لا يبرّر، سواء للدولة أو للمجتمع، ترك الفقراء يعانون ويواجهون ظروف الحياة الصّعبة وحدهم، ففي منطق الإسلام، لا بدّ لكلّ إنسان يعيش تحت قبّة سماء هذه الأرض، أن يحصل على عيش كريم، وأن يجد قوت يومه. وهنا، لا بدَّ أن تقوم الدولة بدورها في معالجة أزمة الفقر، وأن يبادر الناس، أفراداً أو جمعيّات أو لجاناً، إلى القيام بهذا الدور، أو بمدّ يد العون إلى من يقوم به إن هي لم تقم بهذا الدّور، وإلّا فليتحمّل الجميع المسؤوليّة بين يدي الله عمّا يعانيه هؤلاء من حاجة، فعدم تحمّل المسؤوليّة ينزع عنهم صفة التديّن، فلا يمكن للمؤمن أن يكون مؤمناً حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وليس منا من بات شبعان وجاره جائع.

شهر البذل والعطاء

أيها الأحبة: لقد قرن الله سبحانه وتعالى بين شهر رمضان والبذل والعطاء، فهو شهر الفقراء والأيتام، فإلى ذلك دعاء رسول الله عندما قال: “وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم.. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ”؛ وعندما جعل الله سبحانه وتعالى إطعام الفقراء والمساكين وذوي الحاجة بديلاً من الصيام في هذا الشّهر لمن لا يقدر عليه: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }[البقرة: 184]. أي يجب دفع الفدية، وهي إطعام مسكين عن كلّ يوم عن الذين يجهدهم الصّيام ولا طاقة لهم على تحمّله. ولذلك، لا يكفي حتى نؤدّي حقّ شهر رمضان علينا بالاكتفاء بالصّلاة والصّيام والذكر وقراءة القرآن، بل لا بدّ من أن نبذل الخير، ونمدّ يد العون والمساعدة إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين.

وبذلك تكتمل معاني هذا الشّهر، ليكون شهراً لتمتين العلاقة بالله، ولمدّ يد العون إلى عياله.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالأخذ بما ورد عن رسول الله (ص)، فهو عندما سمع امرأةً تسبّ جاريةً لها وهي صائمة، دعا لها النبيُّ (ص) بطعام فامتنعتْ، فاستغربت، وقالت: يا رسول الله إني صائمة، فقال (ص): “كيف تكونينَ صائمةً وقد سبَبتِ جاريتَك؟! إنّ الصّوم ليس من الطّعام والشّراب، وإنما جعل ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من العمل والقول يفطر الصّائم”. ثم قال: “ما أقلّ الصوّام وأكثر الجواّع!”.

لقد أراد رسول الله (ص) بذلك أن يبيّن حقيقة الصّوم، فلا يكفي حتى يكون الإنسان صائماً أن يمتنع عن الطّعام والشّراب وبقيّة المفطّرات، بل لا بدّ أن يصوم مع ذلك لسانه وسمعه وبصره وجلده وجميع جوارحه عن الحرام، وإن لم يفعل، لن يكتب صائماً، بل جائعاً وعطشان.

إنّنا أحوج ما نكون إلى الصّيام الذي أراده رسول الله (ص)، حتى يكون الصّيام تربية لنا على ترك كلّ ما يسيء إلى أنفسنا وإلى الآخرين، ومتى حصل، سنكون أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

ذكرى الحرب الأهليّة

والبداية من لبنان الّذي مرّت عليه قبل أيّام الذّكرى 46 للحرب الأهليّة التي اندلعت في العام 1975، والّتي يستعيد فيها اللّبنانيون المآسي والويلات التي تركت آثارها التدميريّة على الحجر والبشر والاقتصاد، ولا يزال لبنان يعاني تداعياتها.

إننا نستذكر هذه الحرب الدامية، لا لنكء الجراح التي اندملت، أو لإثارة الأحقاد والضّغائن التي لا نريد لها أن تبقى، بل لمزيدٍ من الوعي لدى اللّبنانيّين، وأن لا يكرّروا الأخطاء التي أدّت إلى نشوبها، أو أن يقعوا مجدداً فريسة من استفادوا من هذه الأخطاء وحوّلوا لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليميّة والدوليّة.

لقد بات واضحاً دور الأيادي الخارجية في صناعة الحرب الأهلية وتغذيتها وتسعيرها، ولكن هذه الأيادي ما كانت قادرةً على العبث بالواقع اللّبناني لولا الانقسام الداخلي بين الطوائف والمواقع السياسية، وعدم اعتماد لغة الحوار لمعالجة الهواجس الموجودة لدى هذه الطائفة أو تلك، أو هذا الموقع السياسي أو ذاك، ما جعل الجميع ينخرطون فيها ويعانون. لذا، نرى أنّ من حقّ اللّبنانيّين أن يخشوا تجدّد هذه الحرب، وهم يرون كلّ التوتّر الحاصل على الصّعيد السياسيّ، أو في علاقة الطّوائف بعضها ببعض، والذي نشهده عبر المنابر الإعلاميّة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ، والذي إن استمرّ، قد يأتي من يستفيد منه ويغذّيه لمن يرى مصلحته في إشعال حرب.

إننا نريد للّبنانيين أن تبقى مآسي هذه الحرب في ذاكرتهم وماثلةً أمامهم، حتى لا يلدغوا من جحرها مرة أخرى.

الهمّ المعيشيّ والسياديّ

في هذا الوقت، تزداد وطأة الهمّ المعيشي على اللّبنانيين بفعل تدني القدرة الشرائيّة لديهم، وارتفاع الأسعار بشكل جنونيّ، ووقوفهم طوابير أمام محطّات المحروقات لعدم توفّر مادة البنزين والمازوت، أو ما حصل أمام الأفران والنّقص في الدواء وزيادة التّقنين في الكهرباء، وفي الحديث المتزايد عن قرب رفع الدعم من دون بديل، فيما لا يبادر من بيدهم القرار بأيّ خطوات جادّة وسريعة وفعّالة لمعالجة هذا الواقع، سوى في مسكّنات لا تسمن ولا تغني من جوع المواطن وحاجاته.

وفي ظلّ هذا الواقع، لا يكاد اللّبنانيون ينامون على عنوان سجاليّ حتّى يستفيقوا على آخر، وكأنّ الهدف لدى المسؤولين هو إشغال النّاس عن تقصيرهم، بدلاً من استنفار جهودهم على مختلف المستويات للتخفيف عنهم ومعالجة مشاكلهم المستعصية وجوعهم القاتل.

ومن المؤسف، وفي هذا المجال، أن تُدَخل العناوين الإصلاحيّة والسياديّة لتكون مادّةً للسّجال، كالذي طرح سابقاً حول التّدقيق الجنائيّ، وهذا ما نخشى أن يتكرّر في الحديث عن ترسيم الحدود البحريّة، والتي تتعلّق بسيادة لبنان وثروته المائيّة، وما قد يكون فيه من غاز أو نفط يتحدّث المعنيّون بأنها كفيلة لمعالجة مشاكل لبنان الاقتصاديّة، حيث سيؤدّي استمرار مثل هذا السّجال إلى إضعاف الموقع التفاوضي للبنان في ثروته.

ومن هنا، وأمام هذا الاستحقاق، ندعو الجميع إلى موقف موحَّد، وأن لا يفرّطوا بمصالح اللّبنانيّين وبمستقبلهم وحرّيتهم، وأن تتمّ كلّ الإجراءات التي تضمن قدرة لبنان على تثبيت حقّه في مياهه وفي الاستفادة من ثروته، وأن لا يتوقّف بفعل الضغوط الدوليّة أو المماحكات الداخلية، فاللبنانيون الذين بذلوا الدماء لتحرير أرضهم، لن يغفروا لمن يفرّط بنقطة ماء منها.

الحكومة رهينة القوى

ونعود إلى تأليف الحكومة التي من الواضح أنها هي الأساس في حلّ مشاكل هذا البلد، إن قامت على أسس صحيحة، وكان هاجسها هذا البلد وإصلاح مؤسّساته، فهي لا تزال رهينة القوى المعنيّة بتأليفها، حيث لا يبدي أيّ منها استعداداً للتّنازل عن مواقفه وحساباته ومصالحه، ما يوحي بأن لا أحد منهم يريد تشكيل حكومة في ظلّ الوضع الحاليّ، ولذلك، لم تنجح كلّ المبادرات الداخلية والحركة الدبلوماسية الخارجيّة في تحقيق اختراق على هذا الصّعيد، أو أن تُقرب وجهات النظر بين المتنازعين على الحصص والمواقع.

إننا أمام ذلك، نعيد دعوة كلّ الذين لا يزالون يقفون حجر عثرة أمام التّأليف، أن يرأفوا بهذا البلد الذي يخسر بهذا التّأخير ماله وثرواته واقتصاده وصورته أمام العالم، وأن يرأفوا بإنسانه.

لقد آن الأوان لكلّ هؤلاء أن يعوا أن لا خيار لهم إلّا الحوار والجلوس وجهاً لوجه للتّفاهم، فالبلد لم يبن ولا يبنى إلا بالتّوازن والتّفاهم والتنازلات المتبادلة لحسابه.