مسؤليَّتنا في شهر رمضان المبارك

حديث الجمعة

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}…

من نعم الله علينا الّتي تستوجب منّا حمداً وشكراً، أن بلَّغنا الله سبحانه وتعالى شهر رمضان، لنحظى ببركاته وخيراته وعطاءاته، والّتي أشار إليها رسول الله (ص) عندما قال: “هو عند الله أفضل الشّهور، وأيّامه أفضل الأيَّام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضل السّاعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب…” “فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشَّياطين، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم”.

“أيّها النَّاس، قد أظلَّكم شهر عظيم، شهر مبارك…هو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النّار”.

ولذلك، وعلى الرّغم من كلّ ما نعانيه وصعوبة الصّيام في هذه الظروف، إلا أننا سندخل إلى هذا الشّهر دخول الفرحين المستبشرين بقدومه، المتشوّقين إليه، إقبال المتهيّئين الَّذين جهّزوا أنفسهم للقيام بكلّ مسؤوليّاتهم فيه، حتى يخرجوا منه بزاد وفير.

المعنى الحقيقيّ للصّوم

ومسؤوليّات هذا الشَّهر ـ أيّها الأحبّة ـ لا تقف، كما يعتبر الكثيرون، عند الصّيام، بحيث يرون أنفسهم قد أدّوا قسطهم للعلى بالامتناع عن الطّعام والشّراب والشّهوات، رغم أهميَّة ذلك، بل تتعدَّاه إلى وظائف أخرى من المطلوب تحقيقها في هذا الشَّهر المبارك، منها ما أشارت إليه قصّة جرت مع رسول الله، عندما سمع في شهر رمضان امرأةً تسبُّ جاريةً لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام، فقال لها: “كلي”، فقالت: إنِّي صائمة، فقال: “كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ إنَّ الصَّوم ليس من الطّعام والشّراب ـ فقط ـ وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول… ما أقلَّ الصوّام وأكثر الجوّاع!”.

فالصيام اجتناب المحارم، وفي الحديث: “ما يصنع الصّائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه؟!”.

شهر الخير والعطاء

لذا، فإنَّ رسول الله (ص) عندما تحدَّث عن هذا الشَّهر في خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان، أضاء على مسؤوليّات أساسيّة مهمّة للصّائم، فدعا إلى أن يكون شهر رمضان شهراً لبذل الخير والتصدّق على الفقراء والمساكين، ولإكرام الأيتام والتحنّن عليهم.. شهراً لتوقير الكبار والرّحمة بالصّغار، شهراً لصلة الأرحام والجيران والمؤمنين، شهراً لتحسين الأخلاق، شهراً لحفظ اللّسان من الكذب والغيبة والنَّميمة والكلام البذيء، وغضّ الأبصار عن كلّ ما حرَّم الله، ونهي الأسماع عن كلِّ ما نهى، شهراً يخفَّف فيه عن العمَّال وضعاف النَّاس، شهراً يعبّر فيه المؤمنون عن حبِّهم لله، بذكره وأداء الفرائض والنَّوافل، وعن حبّهم لرسول الله (ص) وأهل بيته (ع)، بذكرهم والتأسّي بهم والصّلاة عليهم..

وقد حثّنا رسول الله (ص) على طرق كلّ هذه الأبواب، والقيام بكلّ هذه المسؤوليّات، وقد بيَّن ما تحمله لنا من خيرات وعطاءات عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، عندما قال: “أيّها الناس، من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشَّهر، كان له بذلك عند الله عزّ وجلّ عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه… أيّها النّاس، من حسَّن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفَّف في هذا الشَّهر عمّا ملكت يمينه، خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه، كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً، أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه، قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوَّع فيه بصلاة، كتب الله له براءة من النَّار، ومن أدّى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور، ومن أكثر فيه من الصّلاة عليّ، ثقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور”.

إعداد برنامج روحيّ

ومن هنا، فإنَّنا مدعوّون أن نعدَّ برنامجاً يتَّسع لكلِّ ذلك لتلبية كلِّ حاجاتنا الروحيَّة والإيمانيّة والثّقافيّة والعلميّة، حتى لا يمرّ هذا الشَّهر علينا كغيره، كما قال أمير المؤمنين (ع): “انظر أن لا تكون باللّيل نائماً، وبالنَّهار غافلاً، فينقضي شهرك وقد بقي عليك وزرك، فتكون عند استيفاء الصَّائمين أجورهم من الخاسرين”.. أن نحضِّر برنامجاً مدروساً، بأن نعدَّه حسب ظروفنا، ومن الآن، برنامجاً عباديّاً روحيّاً نحرص فيه على الصّلاة في وقتها، والدّعاء وذكر الله والصّلاة وأداء النَّوافل، ونركِّز على القرآن الكريم، فهذا الشَّهر شهر القرآن، وربيع القرآن شهر رمضان، وننقّي من خلاله فكرنا وسلوكنا، ونعيش به انسجامنا مع الحقّ، مع الإيمان، مع الدّين… أن نعدّ برنامجاً للتَّواصل؛ التواصل مع أرحامنا وجيراننا والنّاس من حولنا.. وهذا متيسَّر في ظلّ وجود وسائل التّواصل الحديثة، وأن يكون لنا برنامج لإعانة الفقراء والمساكين والأيتام وكلّ من يحتاج إلى رعايتنا، بأن نساعده مباشرةً أو عبر دفع الميسورين إلى المساعدة.

إنَّ هذا الشَّهر هو فرصة عظيمة لإعادة صياغة شخصيَّتنا على هدى من الإيمان والنّور والطّهر، فهو شهر الطّهور من الكفر الّذي يتسلَّل إلينا من حيث لا ندري، ومن النِّفاق ومن الانحراف… لذا، لا بدَّ لنا من توفير برنامجٍ خاصٍّ يسمح لنا بأن نقف فيه وقفات طويلة مع أنفسنا، كي نحاسبها ونغربلها وندقِّق في نيّاتها وفي تطلّعاتها، لتطهيرها مما علق بها من شوائب وعيوب وذنوب، حتى نحقِّق الفلاح في الدّنيا والآخرة، فقد أفلح من زكّاها وصوَّب مسارها، فلا ندع أحداً يأخذنا إلى برامج أعدّوها لنا من خلال عنوان إراحة الصَّائمين والرغبة في ترفيههم.

إنّنا لا نمانع في أن يكون للصّائم فرصة للرّاحة، ولكنَّنا لا نريد لهذه الأجواء أن تكون على حساب روحيّة الصّيام وأهدافه ومعانيه.

لنملأ الشَّهر عبادةً

أيُّها الأحبَّة: إنَّ علينا أن نعتبر أوقات هذا الشَّهر، بأيّامه ولياليه وساعاته ودقائقه وثوانيه، ثمينةً وغاليةً وعزيزة، لأنّنا قد لا ننعم بها بعد ذلك، فما يدرينا إذا لم نستغلّ هذه الأوقات، ما يفوتنا من منحٍ وعطاءات، ومما تفيضه في حياتنا من خير وتوفيق!

فكما أنَّنا مأمورون عندما نقف بين يدي الله للصَّلاة، بأن نتوجَّه إليه كما لو أنّها آخر صلاةٍ لنا، وكما لو أنّنا على إثرها ملاقو ربّنا، فكذلك الحال بالنّسبة إلى شهر رمضان، فما أدرانا بما هو مكتوب في آجالنا من عام إلى عام.

فلنملأ هذا الشَّهر عبادةً وابتهالاً وخيراً لأقربائنا وفقرائنا وللنَّاس من حولنا، وتسامحاً ومحبَّة وألفةً تفيض من القلوب وتبدو على صفحات الوجوه، فلا يمكن أن يكون الشَّهر شهر الله، إلا وفيه تباشير الفرح والخير والعطاء.. فطوبى للصَّائمين والقائمين والتَّالين كتابَ الله، والباذلين الخيرَ في ألسنتهم وقلوبهم وكلّ ما يجري على أيديهم…

ولنتوجَّه إلى الله لنسأله بقلوبٍ طاهرة ونيّات صادقة، أن يوفّقنا لذلك.. “فإنَّ الشَّقيَّ من حُرم غفران الله في هذا الشَّهر”.

“اللّهمّ أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، والعافية المجلَّلة، والرّزق الواسع، ودفع الأسقام، والعون على الصَّلاة والصِّيام والقيام وتلاوة القرآن. اللّهمّ سلّمنا لشهر رمضان وتسلّمه منا وسلّمنا فيه، حتى ينقضي عنّا شهر رمضان وقد عفوت عنّا وغفرت لنا ورحمتنا”.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الموقف السياسيّ

تحدّث سماحة العلامة السيّد علي فضل الله في حديث الجمعة، عن مفهوم التقوى التي أراد الله للإنسان بلوغها في شهر رمضان، والتي تعني أن لا ينطق الإنسان بأيّ رأي، ولا يتخذ أيّ موقف، أو يقوم بأيّ خطوة، إلا إذا كان في ذلك لله رضا، ما يحوّل الحياة إلى ساحة أمن وسلام لكلّ الناس.

الاستمرار بسبل الوقاية

وقال سماحته: ينبغي أن تبقى مخاطر فيروس كورونا حاضرة في البال، رغم قلّة عدد الإصابات، خشية أن يؤدّي أيّ تهاون من قبل المواطنين بالتقيّد بإجراءات الرقابة والسّلامة، إلى ضياع الجهود التي بذلت حتى الآن، فلنصبر حتى ننجو من هذا الوباء وننتهي منه بأقلّ قدر من الخسائر…

 ودعا إلى أن يكون الانضباط في الأخذ بالإجراءات عامّاً وشاملاً لكل ّالمناطق، وعلى كلّ الأراضي اللّبنانيّة، بعدما أصبح من الواضح أنّ أيّ خلل في أيّ منطقة ينعكس على بقيّة المناطق، وأنّ الكلّ في مركب واحد، وأيّ عبث فيه قد يغرق السّفينة كلّها.

معاناة المواطنين

وتناول سماحته معاناة المواطنين على المستوى الحياتي والمعيشي، مع الارتفاع المتزايد وغير المسبوق في سعر صرف الدّولار أمام اللّيرة اللبنانية، بعدما ناهز الصرف الأربعة آلاف ليرة لبنانيّة، ولا يبدو أنه سيقف عند هذا الحدّ، بل قد يتجاوزه إن لم تُتَّخذ الإجراءات الفعّالة لكبح جماح المتلاعبين بسوق صرف الدّولار.

وأضاف أنّه من الطبيعيّ أن يترك ارتفاع سعر صرف الدّولار تأثيراته على أسعار السِّلع والموادّ الغذائيَّة، وعلى القدرة الشرائيَّة للمواطنين، حتّى تكاد رواتبهم تصبح من دون قيمة في بلد كلّ شيء فيه “مدولر”، مطالباً الدولة وكلّ أجهزتها بالتحرّك، وأن تقوم بواجباتها لإيقاف هذا النَّزف، فلا يمكن أن تكون غائبةً عن هذا الانحدار، أو أن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يمسّ بلقمة عيش مواطنيها، ما يهدّد صورتها وهيبتها، وهي لا تعوزها السّبل لتحقيق ذلك، وهي قادرة إن امتلكت الشَّجاعة.

محاسبة المحتكرين

وحثَّ سماحته الحكومة على محاسبة المتلاعبين بلقمة عيش النَّاس من المحتكرين والتجّار الجشعين، رافضاً مقولة التذرّع بقلَّة عدد المراقبين، مادام ثمّة جيش من موظّفي الدولة من دون عمل، فهؤلاء يمكن الاستفادة منهم بعد تأهيلهم للقيام بمهمّة الرّقابة.

وأبدى سماحته أسفه لعدم إقرار المجلس النيابي مشروع شبكة الأمان الاجتماعي، والبالغ ألفاً ومئتي مليار ليرة لبنانيَّة، وهو ما يلبي حاجات أعداد كبيرة من المواطنين، والذي تعثَّر بسبب شكليّات ظرفيّة، أو بفعل التجاذبات السياسية والبعيدة كلّ البعد عن مصالح المواطنين، والذين هم من كلّ الطوائف والفئات السياسيّة.

جلسةٌ عكس التوقّعات

ورأى أنَّ الجلسة النيابيَّة الأخيرة لم تكن على مستوى توقّعات اللّبنانيّين في مواجهة التحدّيات الّتي تداهمهم في واقعهم الصحّي والمعيشي والحياتي، أو في استرداد أموالهم المنهوبة، بفعل عدم طرح القوانين التي تساهم في حماية ودائعهم في المصارف، ومنع أيّ اقتطاع منها مادامت الشّكوك لا تدور حولها، أو تحويلها من دون العودة إليهم، أو بفعل عدم إقرار القوانين التي ترفع الغطاء عن الفاسدين والنّاهبين للمال العام، أو الفاسدين من الوزراء والنوّاب.

وتساءل سماحته عن الأسباب التي تقف خلف التلكّؤ في رفع الحصانة عن السياسيّين، إن في عدم إقرار قانون محاكمة المسؤولين من الوزراء والنوّاب في القضاء العاديّ، أو رفع السريّة المصرفيّة عن السياسيّين، أو إنشاء هيئة مكافحة الفساد، بذريعة أنَّ القوانين بحاجة إلى مزيد من الدراسة في اللّجان التي يعرف اللّبنانيّون جميعاً أنّها في هذا البلد مقبرة المشاريع.

هل تعود التحرّكات؟!

واعتبر سماحته أن ما حدث أحبط آمال المواطنين بإمكان أن تنجح الحكومة في إقرار خطّة إصلاحيّة تنقذ البلاد من الفساد، فكيف يمكن مواجهة الفساد مادام المسؤولون لا يخضعون للمساءلة والمحاسبة وتطبيق القانون عليهم؟! ما يجعل هذه الطبقة السياسيّة في واد والشّعب في واد آخر، لافتاً إلى أنَّ هذا الحدث وغيره قد يدفع النّاس إلى النّزول إلى الشّارع مجدَّداً، والمطالبة بحقوقهم، ومواجهة الفاسدين بأنفسهم، بعدما غرق ممثّلوهم في الحسابات الضيّقة والمصالح الشخصيّة، ونسوا مصالح من انتخبوهم وجعلوهم في مواقعهم.

ورأى سماحته أنّ التحرّكات الشعبية ضرورية ومطلوبة، لأهميتها في فرض إرادة التّغيير على من هم في مواقع المسؤوليّة، منبّهاً إلى أن تكون هذه المطالب والتحرّكات بعيداً من التّسييس، أو أن تستغلّ لحسابات سياسيّة داخليّة وخارجيّة، وأن تبقى نقية صافية تعبّر عن آلام المواطنين ومعاناتهم.

 تحالف صهيونيّ خطر

وعلَّق سماحته على تشكيل الحكومة الصهيونيّة، محذِّراً من خطورة التحالف الذي جرى في الكيان الصّهيوني بين اللّيكود وحزب أبيض أزرق، والّذي جعل من أهدافه تطبيق صفقة القرن من خلال ضمّ الضفّة الغربيّة وغور الأردن إلى الكيان الصهيوني، والذي يمثل مشروع حرب على مستوى المنطقة، معتبراً أن لبنان لن يكون بمنأى عن تداعياتها، بما يستدعي الحذر من مخطّطات هذا الكيان الغادر، ولا سيّما بعدما جرى على الحدود اللّبنانية السوريّة، وفي الداخل السوري، وعلى الحدود اللبنانية الفلسطينية.

ودعا سماحته الشّعب الفلسطيني إلى الوقوف صفاً واحداً ضدّ كلّ القرارات التي تستهدفه، كما دعا الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة إلى الوقوف معه في مواجهة صفقة القرن التي جاءت هذه الحكومة لتنفيذ بنودها بالكامل.

جريمة بعقلين

وتوقّف عند الجريمة التي حصلت في بعقلين، داعياً إلى دراسة هذه الجريمة بنتائجها ودلالاتها، وإلى بذل كلّ الجهود لمنع تكرارها، وإزالة الأسباب التي تؤدّي إلى مثل هذه الجرائم بكلّ أبعادها.