مسؤوليّة نصرة المظلومين ومواجهة الفاسدين

السيد علي فضل الله

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. صدق الله العظيم…

يشير القرآن الكريم في سورة يس إلى رسولين أرسلهما الله سبحانه وتعالى إلى أهل مدينة، يرجّح المفسّرون أنها مدينة أنطاكية التي تقع اليوم في تركيا، لهداية الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، ورفع الظّلم والطّغيان عنهم، فووجها من أصحاب المال والنفوذ والسلطة بالتكذيب، وألّبوا الناس عليهما، فعزّزهما الله برسول ثالث لإتمام الحجّة عليهم.. ولكن معاناة هؤلاء الرّسل من قومهم استمرّت حتى هدّدوهم بالموت: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

رجل من أقصى المدينة

وصل الخبر آنذاك إلى رجل آمن بما يدعو إليه هؤلاء الرّسل، آلمه تكذيب الناس لهم، فجاء مسرعاً من أقصى المدينة، تاركاً عمله ليمنع الظّلم عنهم، وليوضح للناس الذين خضعوا للجوّ العام الذي كان يسيطر عليه أصحاب السلطة والمال، حقيقة ما جاء به المرسلون: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. لكنّ هذا الرّجل تعرّض لما تعرّض له هؤلاء الرّسل ورجم حتى الموت. 

بعد ذلك، ينقلنا القرآن الكريم إلى ما جرى له بعد أن فاضت روحه وغادر الحياة الدنيا، وإلى التّكريم الذي حظي به وتبشيره بالجنّة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}.. لكن هذا النعيم الذي بلغه لم ينسه قومه، وتمنى آنذاك لو يعلمون بالنعيم الذي وصل إليه، حتى يهتدوا بما اهتدى به، ويصلوا إلى ما وصل إليه.. 

 {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.. قال ذلك رغم كلّ التعذيب الذي تعرَّض له منهم.. فهو لم يعرف في قلبه حقداً ولا عداوة ولا بغضاء. وهذه الصّورة هي صورة المؤمن، وهي التي عبَّر عنها رسول الله (ص) بعدما رجع من الطائف، وقد أثخن بالجراح من المشركين، هناك قيل له، ادع عليهم ودعاؤك مستجاب من الله تعالى، قال: “إني لم أبعث لعّاناً، وإنما بعثت رحمة مهداة”.

مواجهة الظّلم

والملفت أنّ هذا الرّجل ـ ويرجَّح أنّ اسمه حبيب النجّار نسبةً إلى مهنته ـ الذي خلَّد القرآن ذكره، لم يكن بارزاً على مستوى الحضور الاجتماعيّ في قومه، لكن ما ميّزه وجعل له هذا الشّأن عند الله، أنه كان غيوراً على الحقّ وعلى نصرة المظلومين، فهو لم يسكت عن قول الحقّ وعن الوقوف في وجه الظّلم والطّغيان، رغم معرفته بمدى الأخطار التي قد تحدق به، فقد كان بإمكانه أن يبقى بعيداً عن التوتر الحاصل في المدينة مع هؤلاء الرّسل، وكان يمكنه أن يقول: فخّار يكسر بعضه، ومالي والسّلاطين والدخول في هذا الأمر؟! لكنّه لم يفعل ذلك، بل جاء مسرعاً، ورفع صوته لتوعية الناس لمواجهة الواقع الفاسد والمنحرف، فاستحقّ بذلك أن يخلّد الله سبحانه وتعالى ذكره، كي يكون نموذجاً وقدوةً للناس. فالله يريد لهذا المنطق أن يحكم في الحياة، ولا يريد للناس أن يكونوا على هامش ما يتعرّض له الدين أو الأخلاق، أو ما يحدث في الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي من مفاسد، هو يريد لهم أن يرفعوا أصواتهم، أن لا يسكتوا على باطل.

 ومن هنا، كان التأكيد على واجب المؤمن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإطلاق كلمة الحقّ في وجه سلطان جائر.. واعتبر ذلك واجباً لا بدّ من التزامه، كما أشار تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ}.

وقد ورد عن رسول الله (ص): “من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله”. 

وقد علَّم الإمام زين العابدين (ع) كلّ مسلم أن يعتذر، لا لتركه واجباً من واجباته الدينيّة من صلاة أو صوم أو حجّ أو زكاة أو خمس، بل لتقصيره في نصرة غيره: “اللّهُمَّ إِنّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلوُمٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أنصُرْهُ”.

وهذا السلوك لم يرده الله أن يبقى في دائرة الأفراد، بل أراد للمجتمع أن يقوم به، لأنّ من القضايا ما تحتاج إلى تعاون وتضافر الجهود، ولذلك قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

لتعميم روح المسؤوليّة

أيّها الأحبّة، إننا أحوج ما نكون في هذه المرحلة القاسية إلى تعزيز الاهتمام بالشّأن العام ومشكلات المجتمع وحاجاته، والانتقال بالمجتمع من عقليّة الاستقالة أو ذهنيّة اللامبالاة، إلى الموقع الّذي يشعر فيه كلّ فرد بالمسؤوليّة تجاه كلّ ما يعانيه المجتمع، وكلّ ما يحقّق طموحاته، والاستعداد للتّضحية لبلوغ ذلك.

إنّ تحمّل مسؤوليّة الانخراط في الشّأن العام، طريق ليس مفروشاً بالورود، فهناك تضحيات وبذل جهود، ولكن وراء ذلك سعادة ليس بعدها سعادة، عندما يرى الإنسان نتائج عمله وآثارها فيما أدخله من سرور على النّاس، أو خفَّف من معاناتهم، أو أزال ظلماً، أو رفع جهلاً، أو حين تتعمّم روح المسؤوليّة في المجتمع، وأن يرى ثواب ذلك كلّه عند مليك مقتدر {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نقتدي بأمير المؤمنين عليّ (ع) فيما قام به، عندما جاء إلى المسجد فقير في وقت كان (ع) مشغولاً بالصّلاة، فراح الفقير ينادي بمن في المسجد أن يعينوه، فلم يستجب له أحد، وكاد يغادر المسجد بحسرته، فأشار عليه عليّ (ع) وهو راكع في صلاته أن ينزع من أصبعه خاتمه، وأن يستعين به في أموره.. فنزلت عندها الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، لتبيّن من خلالها أنّ الصفة الأبرز التي ميّزت عليّاً (ع) عند الله، وجعلت له الشّأن والموقع عنده وعند رسوله (ص)، هو حرصه على مساعدة الفقراء وإعانتهم حتى وهو مشغول في صلاته، فما كان يطيق أن يكون هناك فقير ولا يسعى لسدّ حاجته.

وفي ذلك دعوة للّذين يتولّون عليّاً (ع)، أن يتولوه في هذه الصّفة، فلا يمكن لمن يتولى عليّاً (ع) أن يدير ظهره للفقراء ولا يبالي بفقرهم وحاجتهم، بل أن يبادر إلى سدّها أو يسعى إلى من يسدّها.

ونحن إن وعينا ذلك، فإنّنا نستحقّ الانتماء إلى عليّ، لنبني مجتمعاً متعاوناً متكافلاً قويّاً وقادراً على مواجهة التحدّيات.

لبنان: آثار الكارثة

والبداية من لبنان، حيث لا يزال اللّبنانيّون يعيشون تحت وقع الصّدمة وهول الكارثة التي حلّت بهم، وتركت تداعياتها على الحجر والبشر، وخلّفت وراءها آلاماً وأحزاناً.

ولا بدّ أن نقدّر مجدّداً المبادرات التي قامت وتقوم بها جمعيّات ومؤسّسات من مختلف المناطق، لتقديم يد العون والمساعدة، وإبداء التعاطف مع من فقدوا أحبّتهم وأصيبوا وتضرّروا من هذه الكارثة، وبعيداً من الاعتبارات الطائفية والمذهبية والسياسية.. وفي الوقت نفسه، لا بد من تقدير المساعدات التي قدَّمتها العديد من الدول، من خلال المؤتمر الذي عقد أخيراً في باريس برئاسة الرّئيس الفرنسي، والتي أظهرت الموقع الذي يحتلّه لبنان في العالم، وإن لم يحجب ذلك المصالح السياسيّة لهذه الدّول.

ويبقى الدور الأساس المنتظر للدّولة اللّبنانيّة التي عليها القيام بمسؤوليّتها تجاه مواطنيها، في احتضانها لآلامهم وبلسمتها جراحهم، والإسراع في إعمار ما تهدَّم من ممتلكاتهم، حيث لا يعفيها ما يقوم به المواطنون والخارج عن القيام بمسؤوليّاتها.

في انتظار نتائج التّحقيق

في هذا الوقت، ينتظر اللبنانيون بفارغ الصبر نتائج التحقيقات من القضاء اللبناني، الذي أخذ على عاتقه مسؤوليّة جلاء الصّورة عمّا حدث في الرابع من آب، ومن تسبّبوا فيه، والذي يريده اللّبنانيّون أن يكون جدّياً وشفّافاً، وبعيداً من الاعتبارات والغطاءات السياسيّة والطائفيّة الّتي كانت تجهض أيّ صورة من صور العدالة.

إنّ على القضاء أن يعيد إلى اللّبنانيين الثقة به والمصداقية بأحكامه، حتى لا يرتفع بعد ذلك صوت يدعو إلى تحقيق دوليّ في هذه الكارثة أو أيّ جريمة قد تحصل، أو إلى الاستعانة بهذه الدّولة أو تلك، فالقضاء يمتلك كلّ الكفاءة والقدرة على تحقيق العدالة ورفع الظلم عن المظلومين، إن قرّر ذلك، ولم يخضع إلا لسيف واحد، هو سيف العدالة القاطع.

إنّ اللّبنانيّين الذين عانوا ويعانون من نتائج هذه الكارثة، لن يغفروا لهذا القضاء إن لم يصل إلى نتائج حاسمة تطال كلّ من قصّروا، وتحاسب كلّ من أجرموا.

تداعيات خطيرة!

وإلى تداعيات ما جرى على الصّعيد السياسي، حيث كنّا ننتظر مع كلّ اللّبنانيّين، أن يساهم ما حدث في دفع القوى السياسيّة بكلّ عناوينها وأطيافها، إلى رصّ صفوفها، والتعاون فيما بينها للملمة جراحها من أجل إنقاذ البلد من هذه الكارثة، ولكن بدلاً من ذلك، رأينا كيف تغلّبت المصالح السياسية الفئوية، وعقليّة الثأر وتصفية الحسابات على المصلحة الوطنيّة، وأدت إلى خطاب سياسي وإعلامي، وإلى مواقف كادت تفضي إلى فتنة داخليّة تتجاوز حدود الغضب المشروع على الفساد والإهمال، والحزن الكبير على الضحايا، وإلى هدم كلّ أركان الدولة، والوقوع في فراغ قاتل، في ظلّ عدم توفّر البديل، ما يجعل الوطن في مهبّ العواصف الداخليّة والخارجيّة، بما يهدّد وجوده ومصيره.

ومن هنا، فإننا ندعو كلّ من هم في المواقع السياسيّة، أو من يتحركون في الشارع والساحات، أن يعوا جيّداً مخاطر وتداعيات أيّ خطوة تتّخذ في مرحلة هي من أصعب المراحل التي يمرّ بها هذا البلد، وفي ظلّ كلّ التجاذبات التي تحصل في داخله وخارجه.

ومن هنا، إنّنا وبعد استقالة الحكومة، ندعو كلّ القيادات الفاعلة إلى تجاوز كلّ الاعتبارات، والإسراع في تشكيل حكومة قادرة على قيادة البلد في هذه المرحلة الصّعبة، أولويّتها تنفيذ الإصلاحات في كلّ القطاعات الأساسيّة، وأن تتشكّل من عناصر تحمل الكفاءة والنّزاهة والمصداقيّة والهمّ الإصلاحي، حتى لا يكون الإصلاح شعاراً، بل سلوكاً وممارسة..

ذكرى نصر تمّوز

وفي مجال آخر، نستعيد في هذا اليوم النّصر الذي حظي به اللّبنانيون في العام 2006، عندما وقفوا وساندوا جيشهم ومقاومتهم في مواجهة العدوّ الذي أراد أن يثأر لهزيمة العام 2000، وأن يحوّل لبنان إلى منصة لبناء شرق أوسط جديد، ما أوقعه في هزيمة جديدة، وسقط معه مشروع الشرق الأوسط الجديد.. وتأكّد معها للّبنانيين أنهم أقوياء إن توحدت جهودهم وقدراتهم، ولم يكد بعضهم للبعض، ولم يسمحوا لشياطين الجن والإنس أن يدخلوا بينهم أو أن يتلاعبوا بوطنهم..

تطبيع الإمارات!

ونتوقّف عند التطبيع الذي يحصل بين دولة الإمارات والكيان الصهيوني، والذي ما كنا نريد له أن يحصل، ونراه إضعافاً للموقف العربي والإسلامي والفلسطيني، وهديّة مجانية للكيان الصهيوني وتعزيزاً له، في وقت لا يزال هذا العدوّ يتابع مخطّطه التهويدي الكامل لفلسطين.

ذكرى عاشوراء

وأخيراً، تطلّ علينا في الأيام القادمة ذكرى عزيزة تحمل معها الألم والحزن، لكنّها في الوقت نفسه تعني الثّبات والصّمود والعزّة والعنفوان، لأجل تحقيق الإصلاح ومواجهة الفساد والاستئثار بالمال العام، وهي ذكرى عاشوراء.. ونحن يعزّ علينا أن لا نقيم مجلس عاشوراء هذه السّنة ككل سنة، منعاً لتفشّي كورونا، ولكن نقول إنّ إحياء هذه الذّكرى لا يقف عند إقامة المجالس، بل بإحياء القيم والمعاني الّتي لأجلها استشهد الإمام الحسين (ع)، ولأجلها كانت كلّ التضحيات، والتي عبَّر عنها عندما قال: “إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”. 

فالحسين (ع) يحيا ويبقى ما دام هناك من يسعون إلى الإصلاح، وما دام هناك رجال يواجهون الفساد.