معاني الهجرة ودروسها

السيد علي فضل الله

مع إطلالة شهر محرم نكون مع بداية سنة هجرية جديدة هي ألف وأربعمائة واثنان وأربعون..

ومع الأسف لا يشعر الكثيرون من المسلمين بقدوم هذه السنة، وهذا يعود لعدم معرفتهم بالتقويم الهجري رغم أهمية هذا التقويم بالنسبة لهم، فهو يرتبط بتاريخهم وبعباداتهم ومناسباتهم..

ومن هنا فإننا نعيد التأكيد على ما ندعو إليه كل سنة بضرورة تعزيز هذه المعرفة بالتقويم الهجري لنسترد قدراً من التوازن لمصلحة الحضارة الإسلامية التي تعمل الحضارة المعاصرة على طمس معالمها، وذلك بأن يُعرِّف المسلمون بعضهم بعضاً بقدومها والاحتفاء بها، وأن يؤرخوا بها في معاملاتهم ومحطات حياتهم ومناسبات أفراحهم وأحزانهم وكل الأحداث التي تجري في حياتهم..

وهذا لا يدعو إلى التنكر للسنة الميلادية بعد أن أصبحت أمراً واقعاً وتقويماً عالمياً، وهي التي ترتبط بولادة نبي من أنبياء الله له موقع في نفوس المسلمين وهو السيد المسيح، فيمكن أن نؤرخ به وبالتقويم الهجري.

ويعود ارتباط التقويم الهجري الذي وضعه رسول الله(ص) بالهجرة لا بولادته ولا ببيعته لأهمية الهجرة، فهي شكلت نقلة نوعية في حركة الرسالة الإسلامية، فبالهجرة انتقل المسلمون من مرحلة عاشوا فيها أقسى المعاناة وانعدام الأمن في مكة والتي وصلت إلى حد أن خططت قريش لاغتيال رسول الله(ص) وهو نائم في فراشه إلى مرحلة تأمن فيها للمسلمين الأمان والحضور والقوة التي وفرت لهم حرية العمل لنشر هذا الدين وإيصال صوته إلى كل العالم، ليعودوا بعدها ظافرين منتصرين إلى مكة التي أصبحت بذلك حضن التوحيد، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}..

ونحن اليوم وفي إطار الحديث عن الهجرة، لا بد أن نتوقف عند الهجرة والمعاني التي نستفيدها منها.

فهي أولاً؛ أشارت إلى التضحية التي قدمها رسول الله(ص) وأصحابه عندما تركوا أهلهم وكل مقدراتهم في مكة التي كانت أحب البقاع إليهم، لا من أجل دنيا أو بسبب خوف بل من أجل الله ونصرة دينه.. فكانوا موضع تقدير الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}..

وهي ثانياً؛ أبرزت معالم شخصية علي(ع) المتفاني في سبيل هذا الدين حتى الاستشهاد، وقد جاء تعبير ذلك عندما قرر رسول الله(ص) الهجرة، فجاء إليه علي(ع) وطلب منه أن يبيت على فراشه ليسهل له بذلك خروجه، لم يتردد آنذاك في المبيت رغم أن البيت الذي كان سينام فيه كان محاصراً بأربعين فارس كانوا ينتظرون قدوم الفجر حتى ينقضوا عليه.. اكتفى يومها بأن يقول لرسول الله(ص): أوتسلم يا رسول الله؟ وعندما قال له، بلى.. قال: أذهب راشداً مهدياً فإني لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت علي..

ونزلت حينها الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}..

وثالثاً: نستحضر من هذه الهجرة التسديد الإلهي والسكينة لمن يستشعر بالله حاضراً معه ويثق به.. وقد تجسد ذلك عندما لاحقه المشركون بعد اكتشافهم أمر خروجه من مكة، ووصلوا إلى فم الغار حيث كان مختبئاً فيه مع صاحبه أبي بكر، وكادوا أن يدخلوا إلى الغار.. هنا تحدثنا السيرة أن صاحبه خاف، فكان رد رسول الله(ص): {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.. فالله حاضر دوماً وهو لا يمكن أن يخذل من وثق به ويعمل لأجله..

ويحدثنا الله عما حصل نتيجة ذلك: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}..

رابعاً: لقد حددت الهجرة التي حصلت من رسول الله(ص) للمسلمين المنهج الذي ينبغي أن يعتمدوه، ومضمونه أن عليهم أن لا يبقوا في بلد أو أي مكان لا يملكون القدرة على مواجهة الظلم والطغيان أو يضعف فيه إيمانهم وعلاقتهم بربهم..

وقد أشار الله سبحانه إلى أن عدم الهجرة وقبول الاستسلام للباطل والظلم مع القدرة عليها سيحمل الإنسان تبعات خطيرة حيث سيقف أمام الله يوم الحساب: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.

وقد ورد في ذلك قوله سبحانه: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.. أي أنه إذا عُصي الله في أرض وأنت فيها فاخرج منها إلى غيرها..

وفي الحديث القدسي: “لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك، فان خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم، فإنّ أرضي واسعة”.

وقد ورد في الحديث: “من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم، ومحمد عليهما السلام”..

والهجرة أيها الأحبة؛ لا تقف عند الهجرة المكانية، بل هي أبعد من ذلك.. وقد ورد في الحديث: “أفضل الهجرة أن تهجر السوء”، “المهاجر من هجر الخطايا والذنوب”.. ومن هنا فإننا مدعوون أن نهاجر من كلّ واقعنا السيّئ الذي نعيشه، واقع التمزّق والانقسام، إلى واقع التواصل والانفتاح والوحدة، من واقع الكراهية والحقد والرفض للآخر، إلى واقع التصالح والحبّ والرّحمة، من واقع الفساد والظلم والاحتلال إلى واقع الإصلاح والعدل والحرية، من واقع التعصب إلى واقع الانفتاح، ومن الأنانية إلى الاهتمام بالآخرين، كاهتمامنا بأنفسنا.. وبذلك نستحق أن نكون من المهاجرين ونحظى ما حظي به من هاجروا الذين قال الله عنهم: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُو

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نتأسّى برسول الله(ص)، ونستلهم معاني الدعاء الذي كان يدعو به عند حلول سنة جديدة: “اللّهمّ أنت الإله القديم، وهذه

سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشيطان، والقوّة على هذه النفس الأمّارة بالسوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك، يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام”. ثم يقول: “ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهّاب”.

لقد أراد رسول الله(ص) من ذلك أن يدعونا إلى أن نبدأ سنتنا من باب الله سبحانه بأن نتوجه إليه بكلّ صفاته وأسمائه الحسنى، ليقوينا على مواجهة الشيطان الذي يترصّدنا في كل زمان ومكان ليضلنا وليغوينا، وعلى كل من يريد أن يعبث بإيماننا ومصيرنا، وعلى أنفسنا الأمّارة بالسوء، وأن نبقى ثابتين نعيش صلابة الإيمان وصلابة الموقف، حتى تكون سنتنا القادمة سنة خير وبركة على مستوى الدنيا والآخرة..

ومتى فعلنا ذلك، فإننا سنملك القدرة على أن نواجه التحدّيات الصّعبة، وهي كثيرة..

والبداية من معاناة تفشي جائحة كورونا والتي بلغت في الأيام الأخيرة أرقاماً قياسية وهي مرشحة للازدياد..

وإذا كان الإقفالُ العام هو أحد الحلول الذي عاودت الدولة اعتماده تحت وطأة الانتشار الكثيف لهذا الفيروس، إلا أنه ليس هو الحل المناسب في ظل عدم قدرة البلد على تحمل الإقفال الدائم والتام..

إننا نرى أن المواجهة الواقعية لهذه الجائحة تبقى على عاتق المواطنين بتقيدهم التام بالإجراءات المطلوبة ولبس الكمامات والتباعد الاجتماعي والاقتصار في التواصل على موارد الضرورة، والتواصي بهذه الإجراءات على مستوى الأفراد والجماعات.. على أن تقوم الدولة بالتشدد في الرقابة على المواطنين لضمان تقيدهم بهذه الإجراءات وفي العقوبات الرادعة..

ومن هنا، فإننا نجدد دعوتنا إلى التعامل بكل جدية مع هذه الجائحة وعدم الاستخفاف بتداعياتها ونتائجها، لا على كبار السن فقط بل على الشباب، بأن يعتبروا ذلك واجباً شرعياً وأخلاقياً ووطنياً وليس خياراً..

ونعود إلى تداعيات الانفجار في المرفأ التي لا تزال تلقي بثقلها الاجتماعي والإنساني والصحي والنفسي على اللبنانيين، والتي تتطلب من الدولة المزيد من العمل على معالجة سريعة لكل هذه التداعيات، في الوقت الذي نقدر كل الجهود التي يقوم بها الجيش اللبناني والبلديات والمؤسسات الصحية والجمعيات..

في هذا الجو، نريد للقضاء الإسراع بالقيام بما عليه بالكشف عن المتسببين وعدم استثناء أحد في هذا المجال، وبإظهار قدرته على مواجهة ضغوط التسييس وعدم الوقوع في فخ التمييع، حتى لا يبقى الحديث عن عدم قدرة القضاء الوطني على القيام بهذه المسؤولية..

وليس بعيداً من ذلك فإن البلد بات أمام استحقاق تشكيل الحكومة القادمة، وهنا ندعو إلى الإسراع بتأليف حكومة قادرة على النهوض بالواقع الاقتصادي المتداعي وازدياد نسب الفقر والبطالة، والقيام بالإصلاحات المطلوبة التي يتوقف عليها قيام الدولة وأية مساعدات تأتي من الخارج، والتي أصبح اللبنانيون بأمس الحاجة إليها…

وندعو في هذا المجال، القوى السياسية أن تخرج من تجاذباتها وصراعاتها ومن حساباتها الخاصة.. وتكف عن التطلع إلى ما يريده الآخرون، وتنظر إلى ما يريده الذين أودعوهم مواقعهم وأوصلوهم إليها.. والعمل بكل قوة للخروج من المآزق التي يعيشها هذا البلد، وهي مآزق لا تحل بالتراشق أو بالاتهامات، بل بحوار جدي بعيد عن الشروط والشروط المضادة والكيدية والمهاترات، وبدون ذلك سيكون هذا الوطن في مهب رياح جميع المتربصين به وأسير التجاذبات الدولية الحادة ومصالحها الخاصة، التي غالباً ما تكون على حساب اللبنانيين..

لقد أصبح واضحاً أن أية قوة سياسية أو طائفية أو مذهبية لن تستطيع أن تعالج ما يعاني منه هذا البلد، فالحل لن يتم إلا بتضافر جهود الجميع وتعاونهم، والطريق إلى ذلك هو التسامي عن المصالح الفئوية ونشدان الخلاص لهذا الوطن وإصلاح ما فسد فيه..

ونحن في الوقت نفسه، ندعو اللبنانيين إلى أن يخففوا من منسوب التوتر الذي نشهده على وسائل التواصل والوسائل الإعلامية وفي حواراتهم.. حيث باتت اللغة الاستفزازية والتحريضية ومفردات السباب والشتائم والكلام النابي هي السائدة، ما يعمق الكراهية ويزيد من الأحقاد ويدفع البلد نحو مصير أسود لن ينجو من تداعياته أحد..

إننا نريد للغة التخاطب بين اللبنانيين أن تحتكم إلى القيم السماوية التي يتلاقون عليها، بحيث يعبر كل طرف عن قلقه أو هواجسه أو يطالب بحقه بهذه اللغة، وهم بذلك سيكتشفون أن كثيراً مما يفرقهم ويباعدهم ويثير مخاوفهم نابع من تصورات غير واقعية، أو غير دقيقة وهو ما يسمح بإعادة التوازن إلى هذا البلد ويقطع الطريق على كل من يتلاعب به لحساب مصالحه الشخصية والفئوية والتي يريد تحقيقها..

وأمام العديد من الحوادث المؤسفة التي جرت، لا بد من توقي الوقوع في الفتنة التي يريد لها أن تقع بين الناس وأبناء الصف الواحد بمزيد من ضبط النفس وعدم إدخال السلاح لعلاج التوتر..

وهنا نقدر دور القيادات التي عملت سريعاً على معالجة ما حصل ومنع تماديه..