مفهوم الابتلاء وأنواعه

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. صدق الله العظيم.

ارتبط مفهوم البلاء في الأذهان بالمرض والضّعف والفقر والحاجة وفقدان الأحبّة والأعزاء، لذلك يقال عن الإنسان إنّه مبتلى، عندما يفقد مالاً أو عزيزاً، أو يصاب في صحّته، أو يفقد وظيفة أو أيّ سبل من سبل عيشه الكريم، فيما لا يرتبط مفهوم البلاء بمن امتلك ثروة، أو وصل إلى موقع مرموق، أو وهبه الله ولداً أو صحّة، أو صار له شأن وحظوة، فلا يقال إنّه مبتلى.

فهل صحيح هذا الفهم للبلاء؟!!

مفهوم البلاء

لم يأخذ القرآن الكريم بهذه النّظرة إلى البلاء، فالبلاء عنده لم يقتصر على المصائب والنّكبات والأحزان، بل وسَّع دائرته ليشمل أصحاب النّعم، وهذا ما أشارت إليه الآية التي تلوناها: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وقوله في آية أخرى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى في آية أخرى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.. فقد اعتبر إكرام الإنسان من قبل الله سبحانه ابتلاءً، كما هو البلاء عند التقتير بالرزق.

وقد عبّر عن ذلك النبيّ سليمان في نظرته إلى النعم التي أنعم الله بها عليه، فبعدما وهبه ملكاً لم يعطه أحداً بعده؛ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ}.

فالبلاء، إذاً، ليس هو الصّورة التي ارتسمت في أذهاننا وأذهان الكثيرين من النّاس التي تعني الشرّ وفقدان الفرص والمعاناة، بل أيضاً هو يحصل عند امتلاك الفرص والخير، ولذلك يقال إن البلاء يعني الامتحان والاختبار.

فالإنسان في منطق الله سبحانه يمتحن عندما يصاب بالشّرّ، أي بالمكاره والمصائب والشّدائد، ويمتحن عندما يحصل على الخير، أي على المزايا والنعم، وعلى أساس هذا الامتحان، يتحدّد مدى صدق إيمان الإنسان وموقعه عند الله سبحانه.. وهذا ما عبَّرت عنه الآية: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.

وإلى هذا أشار الحديث الوارد عن الإمام عليّ (ع)، “أمّا بعد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعل الدّنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملاً”.

وقد اعتبر القرآن الكريم أنّ نجاح الإنسان في امتحان الشّدائد والمصائب يتحقّق بالصّبر والثّبات والحفاظ على رباطة الجأش وعدم الجزع.

وإلى هذا أشار الله بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

امتحان النّعم!

فيما اعتبر الله سبحانه أنّ نجاحه في امتحان النّعم، مرهون بمدى شكره على نعمه عليه وعطاءاته، وعدم التكبّر والتجبّر واستغلال القدرات في الفساد والإفساد، كما فعل فرعون وقارون وهامان وأمثالهم، وأن يرى بلوغ النّعم والحصول عليها مسؤوليّة وليس امتيازاً، بل سيُسأل عنها بين يدي الله سبحانه، وهو الّذي قال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم}.

وقد ورد في الحديث: “إنَّ الله لم ينعم على عبدٍ بنعمةٍ، إلا وقد ألزمهُ فيها الحجَّة من قبله، فمن منَّ الله عليه فجعله قويّاً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته ماله، ثمّ تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في نسبه، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله على ذلك، وألا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضّعفاء لحال شرفه وجماله”.

أمر المؤمن إلى خير

ولذلك، اعتبر رسول الله (ص) أنّ المؤمن أمره كلّه إلى خير في كلّ الأحوال؛ في حالة العسر وحالة اليسر، وفي حالة الشدّة وحالة الرّخاء.. فقال: “المؤمن أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له”.

فالمؤمن عندما يبتلى بالمصائب والأحزان والتحدّيات، يصبر وهو خير له، لأنّه بالصّبر يحقّق أهدافه من الدّنيا التي لا تدرك إلا بالصّبر، فعن رسول الله (ص): “إنّكم لا تدركون ما تحبّون إلا بصبركم على ما تكرهون، وإنّ النّصر مع الصّبر”. وبه يزداد موقعاً عند الله سبحانه الذي يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

وهو عندما يبتلى بالنّعم، يكون ذلك خيراً له، لأنه يشكر الله سبحانه، فيحصل على نتائج ذلك بما وعد الله به الشّاكرين عندما قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.

الأمور بأسبابها

وهنا قد يرد السؤال: هل إنّ الله سبحانه هو الّذي يفرض على الإنسان المصائب والشّدائد والمحن أو الخير والشرّ؟ ليس الأمر كذلك، بل إنّ الله أجرى الأمور بأسبابها، فمن اتّبع الأسباب التي تؤدّي إلى الخير، بأن عمل واشتغل بالشّكل الصّحيح، يصل إليه، ومن اتّبع الأسباب التي تؤدّي إلى المشاكل والمحن، بأن قصَّر وفرَّط وابتعد عن السّير في الاتجاه الصّحيح، فهو سيصل إليها، أمّا سبب نسبتها إلى الله، فلأنّ كلّ حركة الحياة بيده، ولا تجري إلا من خلاله.

فلنكن، أيّها الأحبّة، في مستوى تحدّي البلاءات التي تواجهنا، سواء كانت بلاء العسر أو بلاءات اليسر، لننجح في امتحان الحياة بكلّ ظروفها، ولنبلغ ما وعد الله به الصّابرين في مواضع الصّابرين، والشّاكرين في مواقع الشّكر.

وليكن دعاؤنا: “رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.

لقد أراد الله من خلال وصيَّته هذه أن نكون العادلين، وأن نقول الحقَّ، وأن نحكم بالعدل ونشهد به، حتّى لو كان ذلك على حسابنا أو حساب الوالدين أو الأقربين أو من نحبّ ونهوى.

وبذلك نحقّق منطق الله الذي أراد العدل في الحياة، ولم يرد أن يكون هناك مظلوم فيها، وقد تكفَّل بأن يكون نصير المظلومين، وتوعّد بالعقاب الآثم للظالمين.

بهذا المنطق، تبنى الحياة وتعمر وتستمرّ، ونستطيع أن نواجه التحدّيات.

هل تفشّى كورونا؟!

والبداية من فيروس الكورونا، الذي عاد الخوف منه يزداد بعد الارتفاع المخيف والمفاجئ بنسبة أعداد المصابين، ما يستدعي التّذكير مجدّداً بضرورة التقيّد التامّ بالإجراءات المطلوبة من قبل المواطنين، ومن المقيمين والوافدين من الخارج، وعدم التّهاون فيها، وندعو الدّولة إلى التشدّد في الرّقابة على تقيّد المواطنين، والتزامهم بهذه الإجراءات في الأماكن العامّة والتجمّعات التي تحصل، كما ندعو المواطنين للتّواصي فيما بينهم بالإجراءات والصّبر عليها.

تدهور في الأوضاع!

وفي هذا الوقت، تستمرّ معاناة اللّبنانيّين على الصعيد المعيشي، بفعل استمرار الارتفاع المستمرّ لأسعار صرف الدّولار والسّلع والموادّ الغذائيّة، وزيادة التقنين في الكهرباء وصولاً إلى العتمة، واستمرار أزمة المحروقات، وقد تصل إلى صحّة المواطنين بعد إعلان المستشفيات أنها قد لا تستطيع استقبال المرضى، لعدم قدرتها على متابعة عملها في ظلّ الواقع الحاليّ.

وهنا تأتي مسؤوليّة الحكومة التي عليها الإسراع في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج البلد من أزماته هذه، وقد أصبح واضحاً مدى المخاطر التي تترتّب على استمرار تدهور الواقع المعيشي على الاستقرار الداخلي، وحالات الإحباط واليأس والتي وصلت إلى حدّ إقدام البعض على الانتحار.

وهذا لا يعني أنّنا نتنكّر للجهود التي تبذلها الحكومة في هذا المجال. وهنا ننوّه بالخطوة التي أقدمت عليها بدعم السلّة الغذائيّة والموادّ الأوليّة للصّناعة، وإن كنا نريدها أن تشمل كلّ السّلع الضروريّة، ونخشى أن يجهض جشع التجّار والمحتكرين الكبار هذه الخطوة، إذا تراخت الحكومة في مراقبة هؤلاء ومحاسبتهم، الأمر الذي سوف ينعكس عليها سلباً.

 لكنّ هذه الخطوة، رغم أهميّتها، وأيّ خطوات من هذا القبيل، تبقى غير كافية، وهي من قبيل المسكّنات.

فهي لا تعالج الأسباب العميقة للأزمات التي يعانيها البلد، حيث يبقى الأساس والمطلوب من هذه الحكومة وبالتّعاون مع المجلس النيابي، هو الإسراع في الإصلاحات التي تعيد ثقة المواطنين بدولتهم، وثقة الدّول المؤثّرة في العالم التي تريد بلبنان خيراً.. وقد سمعنا أخيراً تلك الأصوات التي تناشد اللّبنانيّين أن يساعدوا أنفسهم حتى يساعدوهم.. وهنا نريد لهذه الحكومة في إدارة الدّولة، أن لا تكرّر على مستوى التّعيينات ما قامت به الحكومات السّابقة باعتمادها المحاصصة.

وإذا كانت الحكومة تعتبر أنّها أخذت بالمعايير في هذه التّعيينات، وأنها كانت شفّافة، فإنّ عليها أن تظهر ذلك أمام مواطنيها، لمواجهة كلّ التّشكيكات التي أثيرت من هنا وهناك.

الضّغوط حافزٌ للعمل

لقد أصبح واضحاً أنّ هناك ضغوطاً، ولكنّ هذه الضّغوط لا ينبغي أن تكون هاجس الحكومة، بل أن تكون حافزاً لها لمزيد من العمل. ونحن على ثقة بأنّ اللّبنانيّين الذين تعوّدوا في السابق على مساعدة الخارج لهم، لن ينتظروا الخارج لعلاج أزماتهم، عندما تكون على حساب عزّتهم وكراماتهم.

إنّنا نعتقد أنّ اللّبنانيّين رغم جراحهم وآلامهم، لن يتنازلوا عن أيّ شيء ينال من عزّتهم وكرامة وطنهم مقابل أيّ نوع من المساعدات، وهذا ليس خياراً، بل هو واجب عليهم، قاموا به في الماضي، ولم يدّخروا سبيلاً لتحقيقه، وقدموا من أجله التّضحيات الجسام.

نحو الاقتصاد المنتج

ونبقى في المجال الاقتصاديّ، لنؤكّد أننا مع الاستفادة من كلّ دولة في هذا العالم تقدّم للبنان ما يخرجه من واقعه، من دون أن تبتزّه في أمنه وسيادته واستقلاله، ويبقى الأهمّ الاعتماد على الذات من خلال الاقتصاد المنتج.

ونحن في هذا المجال، نقف مع كلّ الدعوات التي تدعو إلى تعزيز الزّراعة والصّناعة، ولكن هذا لن يتحقّق إلا بتأمين البنية التحتيّة لهما، من الماء والكهرباء، ودعمهما بالموادّ الأوليّة التي تقلّل من الكلفة، وحمايتهما من الأسواق الخارجيّة وتأمين أسواق لهما، وهو ما لم يحصل حتى الآن.

لقد أصبح واضحاً أنّ اللّبنانيّين قادرون على الخروج من أزماتهم، لكنّ هذا لن يحصل إلا بدولة تخرج من عقليّة المزرعة والمحاصصة، إلى عقليّة الدّولة؛ دولة الإنسان، ودولة المؤسّسات.