من دروسِ الإمامِ الصّادقِ (ع): رفضُ الاحتكارِ

العلامة السيد علي فضل الله خطبة العيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشّورى: 23].

مرّت علينا في الخامس والعشرين من شهر شوّال، ذكرى وفاة أحد أئمة أهل البيت (ع) الّذين أمر الله سبحانه وتعالى بمودّتهم، وهو الإمام جعفر بن محمد الصّادق (ع).

والمودّة لأهل البيت لا تقف عند حدود التّعبير العاطفيّ وإبداء المشاعر والأحاسيس، بل لا بدّ من أن نتمثّلهم في عبادتهم وأخلاقهم وتواضعهم، وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي كلّ ما بذلوه من تضحيات من أجل إبقاء الإسلام حيّاً في القلوب والعقول، وأن يبقى صافياً من كلّ تحريف وتزييف وغلوّ.

ومن هنا، أيّها الأحبَّة، وانطلاقاً من هذه الذّكرى، سنتوقّف عند أحد مواقف الإمام الصّادق (ع)، لنتعلّم من سيرته، ولنقيس من خلالها أنفسنا، لنرى هل نحن فعلاً من شيعته ومن الموالين له سلوكاً وموقفاً؟!

رفضُ الاحتكارِ!

حيث تذكر سيرته (ع)، أنه دعا إليه يوماً أحد عمّاله، واسمه “مصادف”، وقال له: إنّ عيالي قد كثروا، وأحتاج إلى مال لتدبّر شؤون معيشتهم، فتجهّز يا مصادف للخروج مع قافلة من التجّار إلى مصر، وأعطاه بذلك ألف دينار يستعين بها في تجارته مع هؤلاء.

وفي الطريق، التقى مصادف والتجّار الذين خرج معهم بقافلة خرجت للتوّ من مصر تريد العودة إلى بلدها، بعدما انتهوا من تجارتهم، فسألوهم عن حال السّوق ومدى حاجة الناس إلى البضاعة الّتي جاؤوا بها، فقالوا لهم ليس بمصر منها شيء، والنّاس فيها بأمسّ الحاجة إليها. عندها اتّفق التجّار، ومعهم “مصادف”، أن يستفيدوا من فقدان هذه البضاعة في مصر، وأن يضاعفوا الرّبح الذي كانوا سيبيعون فيه، وهذا ما حصل.

فلما عادوا، دخل “مصادف” إلى الإمام الصّادق (ع) وهو فرح مسرور بما أنجز، وقال للإمام (ع) هو يحمل كيسين؛ هذا كيس فيه ألف دينار، وهو رأسمالك الّذي أعطيتني إيّاه قد عاد إليك، أمّا هذا، فكيس آخر يحوي ألف دينار، وهو الرّبح الّذي حصلت عليه.

استغرب الإمام (ع) وقال لمصادف: هذا ربح كثير، وما أظنّ أنّ البضاعة التي بعتها تؤدّي إلى هذا الرّبح. فأخبره “مصادف” بما جرى، وكيف تواطأ مع باقي التجّار كي يحصلوا على هذا الرّبح.

هنا، غضب الإمام (ع)، وقال لمصادف: تتحالفون على قوم ألّا تبيعوهم إلّا بربح دينار بدينار؟ لا والله لا آخذ هذا الربّح، آخذ الكيس الذي فيه رأس مالي، أمّا الكيس الآخر، فتدبّره وأرجعه إلى من أخذته منه، ولو كلّفك ذلك السّفر إلى مصر، فأنا لا آكل مالاً بالباطل وهو على حساب الآخرين.

أيّها الأحبَّة: لقد أراد الإمام (ع) من خلال موقفه هذا، أن يشير إلى المنهج الإسلاميّ الّذي يرى، أوّلاً، أنَّ من يعمل في التّجارة أو أيّ كسب لتحصيل المال، لا ينبغي أن يتجرَّد صاحبه من المشاعر الإنسانيَّة والقيم الأخلاقيَّة، بحيث يكون الهدف منه هو الرّبح والرّبح فقط، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح النّاس وحاجاتهم.. ولذا ورد في الحديث: “إنّ الله يحبّ سمح البيع، سمح الشّراء”.

ثانياً: لقد كان موقف الإسلام حاسماً من الاحتكار، لما فيه من الإضرار بمصالح الناس وحاجاتهم، ولأنّه يعبّر عن أنانيّة وجشعٍ وحبٍّ للمال. والاحتكار يعني أن يستغلّ التّاجر حاجة الناس إليه ليرفع أسعاره أو أجر خدماته.

إدانةُ الاحتكارِ

ولذلك، تشدّدت الأحاديث الشّريفة في النّهي عنه، وأكثرت من الإشارة إلى مخاطره، واعتبرت أنّ المحتكر خائن لقومه ومجتمعه، ومطرود من رحمة الله.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) في عهده لواليه مالك الأشتر لما ولاه مصر – وكتابه (ع) يجب أن يكون دستوراً لكلّ من يتصدّى للشّأن العامّ -: “واعلم مع ذلك، أنَّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك بابُ مضرّةٍ للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه، فنكّل به، وعاقب في غير إسراف”.

ثالثاً: لقد جعل الله من سنّته في الرّزق أو الكسب أن لا يتمّ عبر التحايل، ولا أن يكون في الحرام، ولا أن يصل إليه من لا يعبأون بظروف النّاس وحاجاتهم ويعملون على استغلالهم، وهذا ما أشار إليه رسول الله (ص) عندما قال: “لا تموت نفس قبل أن تستكمل رزقها، فاتّقوا الله عزّ وجلّ، وأجملوا في الطّلب، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرّزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله، فإنَّ الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسمها حراماً. فمن اتّقى الله – عزّ وجلّ – وصبر، أتاه الله برزقه من حلّه، ومن هتك حجاب السّتر وعجّل فأخذه من غير حلّه، قصّ به من رزقه الحلال، وحوسب عليه يوم القيامة”.

التَّعاطفُ لا الاحتكارُ

أيُّها الأحبَّة: إنّنا أحوج ما نحتاج إليه في مجتمعنا، ولا سيَّما في هذه الظّروف القاسية التي نعيشها، وفي ظلّ غياب الدولة وتقاعسها عن أداء مسؤوليّاتها، تجّاراً وعمّالاً وأصحاب مصالح بمختلف تنوّعاتها، أن نكون ممن يعيشون القيم الأخلاقيّة، ويتحسَّسون الرأفة بالنّاس والرّحمة بهم، فلا يستغلّون حاجة النَّاس إليهم في ما يملكون من بضاعة، أو ما يمكن أن يقدّموه من خدمة أو عمل، فيرفعون أسعار بضاعتهم أو خدماتهم، لأن لا أحد غيرهم في السّوق، أو لا أحد يستطيع القيام بما يمكنهم القيام به، ويرون أنّ من حقّهم ذلك، ففي ذلك تعبير عمليّ عن عدم إنسانيّتهم، وعدم التزامهم بالصّورة التي أراد الله للمجتمع المؤمن أن يبنى عليها، فهو يريده متكافلاً متعاوناً، يحسّ كلّ من فيه بآلام البعض الآخر وبحاجاته، ويرى أنّ ما يصيب الآخرين يصيبه، وما يعانيه الآخرون يعانيه. وبذلك يكونون من أصحاب رسول الله (ص)، ممن قال الله عنهم: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}[الفتح: 29].

ولذلك، أيُّها الأحبّة، من أراد الرّزق فليسع من الباب الذي دعا الله إليه، فمن حقّ التّاجر أن يربح، وحتى أن يرفع الأسعار، في ظلّ غلاء الموادّ الأوليّة ولوازم العيش الكريم، ولكنّ شرط ذلك، أن يكون الربح في شكل مقبول، حتى لا يكون في ذلك محتكراً وأنانياً ومستغلاً يأكل أموال الناس بالباطل. {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْر}[الطّلاق: 2 – 3].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام الصادق (ع) الّتي توجَّه بها إلى شيعته: “يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا مَن لم يملك نفسه عند غضبه، ولم يُحسن صحبة مَن صحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة مَن صالحه، ومخالقة مَن خالقه. يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ، اتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ”.

لقد أراد الإمام (ع) من خلال وصيّته هذه، أن يبيّن أنّ التشيّع ليس انتماءً إلى أهل البيت (ع) فحسب، أو حبّاً لهم، بل يتجلّى في السّلوك والعمل والموقف، والتي أشار إليها الإمام (ع).

إننا أحوج ما نكون إلى هذه الصّفات، والتي بها وحدها نكون زيناً لأئمّتنا لا شيناً عليهم، ونكون بها أقوى وأقدر على مواجهات التحدّيات.

لبنان: انسداد الأفق!

والبداية من لبنان الَّذي تتفاقم فيه معاناة اللّبنانيّين على كلّ الصّعد، ويكفي للتّعبير عن ذلك، مشهد الإذلال المتكرّر لطوابير السيّارات التي تصطفّ أمام محطّات المحروقات، لتجد ما تستعين به على تأمين حاجاتها من البنزين، وقد لا تجده، والانقطاع المتزايد في الكهرباء، وصولاً إلى العتمة التي يبشَّر بها اللّبنانيّون قريباً إن لم تتأمّن الاعتمادات اللازمة لها، وفقدان العديد من أصناف الأدوية والموادّ الضروريّة الّتي تحتاج إليها المستشفيات والمختبرات، يأتي هذا في وقت يستمرّ نزيف أموال المودعين، من خلال عدم ترشيد الدّعم والتّهريب الذي لم يوجد حتى الآن له حلّ.

وهذا يأتي في وقت يستمرّ تدني سعر صرف اللّيرة أمام الدولار الأمريكي، والارتفاع المتزايد في أسعار السِّلع والموادّ الغذائيّة والخدمات، ما جعل أزمة لبنان، وكما جاء في تقرير البنك الدّولي، من أسوأ ثلاث أزمات عالميّة.

ومع الأسف، لم يدفع كلّ هذا الواقع المأساوي للإسراع في تأليف الحكومة القادرة على إخراج البلد والنّاس من هذا الواقع الّذي لا قدرة لهم على تحمّله، حيث لا تزال أيّ مبادرة للحلّ تصطدم بالمصالح الخاصّة والفئويّة وحسابات المستقبل السياسي لهذا الفريق أو ذاك، وبالتعامل مع تأليف الحكومة من زاوية أنها حكومة انتخابات تحتاج إلى شدّ العصب، في وقت ينبغي أن يكون التأليف لحكومة إنقاذ، مع الأخذ بالاعتبار التّداعيات الخطيرة للانهيار الكبير المرتقب إن استمرّ الواقع على هذه الحال، أو ما قد يحدثه الشّحن الطائفي والمذهبي الّذي تؤدّي إليه البيانات والبيانات المضادّة الّتي تأتي من هذا الفريق أو ذاك على الوضع الدّاخليّ، أو على استقرار اللّبنانيّين في بلدهم وشعورهم بالأمان فيه، أو على صورة البلد في الخارج.

إنّ انسداد الأفق أمام الحلول، وإصرار الأطراف على مطالبهم في تشكيل الحكومة، ورفع السّقوف العالية، يوحي بأن لا نيّة لدى الأطراف بتأليف الحكومة في الوقت الحاليّ، بل ترقّب لظروف أفضل قد تحملها الأيّام القادمة، وما على اللّبنانيّين إلّا الانتظار!

لعبٌ بمصيرِ البلدِ!

إنّنا أمام ما يجري، نقول لكلّ من هم معنيّون بالتأليف، إنكم لستم أحراراً في مواقفكم، فما تقومون به هو لعب بمصير الإنسان وبلقمة عيشه وبمستقبل هذا البلد ومصيره.. واللّبنانيّون لن يغفروا لكم، ولن يقبلوا أن يستمرّ هذا اللّعب، فالذين لم يناموا على ضيم الاحتلال، وقدّموا التضحيات لإخراجه، لن يناموا على ضيم الإذلال الذي يعانونه في كلّ يوم، ولن ينجح رهانكم مجدَّداً على تخويف هذا الشّعب بعضه من بعض، أو دغدغة غرائزه الطائفيّة أو المذهبيّة، فقد بات واعياً لطبيعة اللّعبة التي أدمنتموها. لذلك نقول لكم، من وحي وجع اللّبنانيين وآلامهم ومعاناتهم، إنّ عليكم أن لا تتباطأوا في إيجاد حلّ والتقاط أيّ فرصة للحلّ، والسّير بمبادرة رئيس المجلس النيابي، والتي أخذت بمضمونها هواجس الجميع ومطالبهم، وإزاحة العقبات التي لا تزال تقف أمامها، وأن تتضافر كلّ الجهود لإنجاحها، بعدما أصبح واضحاً أنها المبادرة الوحيدة المطروحة في الدّاخل وانكفاء الخارج.

غطرسةٌ مستمرّةٌ

وعلى الصّعيد الفلسطيني، لا يزال الكيان الصهيوني يستمرّ في اعتداءاته على الفلسطينيّين في القدس، واقتحامات مستوطنيه للمسجد الأقصى، ليحاول أن يفتَّ من عضد الفلسطينيّين، وأن يفوِّت عليهم الاستفادة من استثمار إنجازهم الأخير والمراكمة عليه.

إنّنا على ثقةٍ بأنّ هذا لن يمنع الفلسطينيّين من مواصلة الصّمود والثبات، وتوحيد صفوفهم لمواجهة غطرسة هذا العدوّ واستفزازاته، وهذا يدعو إلى استمرار الوقوف مع هذا الشّعب، وتأمين كل مستلزمات الصّمود له.

الوفاءُ للإمامِ الخميني (رض)

ونتوقّف أخيراً عند ذكرى وفاة الإمام الخميني (رض)، هذا الإمام الّذي أعاد الاعتبار إلى صورة الإسلام المنفتح على العصر وعلى الحياة، ودعا المسلمين إلى الوحدة، والأديان إلى التّعاون فيما بينها، والمستضعفين إلى أن تتكتّل قواهم في مواجهة المستكبرين والظّالمين والطّغاة، ونبّه العالم العربي والإسلاميّ إلى مخاطر وجود الكيان الصّهيونيّ في قلبه، ودعاه إلى التوحّد في مواجهة هذا الكيان، والعمل لإعادة الشعب الفلسطيني إلى أرضه المغتصبة، وأن لا يسمح للاعبين بتمزيقه والعبث بثرواته، وعمل في الوقت نفسه على أن تقف إيران مع كلّ الشّعوب المظلومة والمقهورة، رغم الأعباء التي قد تتحمّلها في سبيل ذلك.

إنَّ هذه الذّكرى ستبقى حافزاً لنا للعمل بكلّ الأهداف التي عمل لها، وستبقى حاضرةً في الوجدان، وهذا هو الوفاء له.