من دروس الإمام الكاظم (ع): الخوف من الله

السيد علي محمد حسين فضل الله

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.

مرّت علينا في السابع من شهر صفر، ذكرى ولادة الإمام السابع من أئمّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع).

هذا الإمام الذي عاش في ظلّ أبيه الإمام جعفر الصّادق (ع) عشرين سنة، تربى في خلالها على يديه، ونهل من علومه، وأخذ منه حواريّته وانفتاحه، فكان – كما تذكر سيرته – أعبد الناس وأعلمهم وأكرمهم وأشجعهم وأكثرهم تواضعاً وزهداً ومحبة للناس، كلّ الناس.

وقد عانى هذا الإمام طوال الخمس والثّلاثين سنة من إمامته، من طغيان بني العباس وظلمهم، وقضى فترة طويلة في سجونهم.

فهم كانوا يرون في حضوره بين الناس ومحبّتهم له، تهديداً لهم ولحكمهم، لكنّ كلّ ذلك لم يمنعه من أن يقوم بدوره الرّساليّ في مواجهة طغيانهم وظلمهم، ومن تربية الناس وتوجيههم على الحقّ، وكان لا يفوّت فرصة لذلك.

موقفٌ غنيٌّ بالعبر

ونحن اليوم سنتوقّف في ذكرى ولادته المباركة عند أحد مواقفه الكثيرة والغنيّة. حيث يُذكر أنّه كان في بغداد رجل يشار إليه بالبنان لثرائه وموقعه الاجتماعي، ويقال له بِشر، وحدث يوماً أن مرّ الإمام الكاظم (ع) من أمام داره، وكانت أصوات الغناء الصاخبة تملأ الأرجاء، وصودف أنّ جارية لبشر خرجت في ذلك الوقت، وفتحت باب الدار لإلقاء بعض الطّعام، فاغتنم الإمام الفرصة ليوجّه من خلالها رسالةً إلى صاحب الدار. فسأل الجارية: لمن هذه الدار؟ فقالت: لسيّدي بشر. فقال الإمام: سيّدك هذا حرّ أم عبد؟ استغربت الجارية هذا السّؤال وقالت له: طبعاً حرّ. قال لها: صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه. قال الإمام هذه الكلمات وانصرف.

فعادت الجارية إلى الدّار، وأخبرت بشر بما جرى بينها وبين الإمام، فهزّه كلام الإمام، وخرج مسرعاً يعدو خلفه، فلما أدركه، قال له: يا مولاي، قلت لجاريتي كلاماً أعده عليّ، فأعاده الإمام، فراح بشر يبكي ويمرّغ وجهه بالتراب وهو يقول: لا يا مولاي أنا عبد. ومنذ تلك اللّحظة، تغيّرت حياة بشر، وصار ممن يعرفون بالعبادة، وممن يضرب بهم المثل في الزّهد، وبقي على ذلك حتى توفي.

المانع من الانحراف!

أيّها الأحبّة: من أبرز الأسباب التي تودي بالإنسان إلى الانحراف والوقوع في مهاوي الرذيلة، عدم الخوف من الله.  ولهذا، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى الخوف منه، عندما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}، {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، وأشار إلى عقابه عندما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}.

والله لا يريد بذلك أن يشعر المؤمنين بالرّعب منه بالمفهوم الضيّق، وهو من وصف نفسه بالرّحمة، ولكن أراد أن يكون الخوف منه، عزّ وجلّ، صمّام أمان من الوقوع في الفتن والانحراف ومهاوي الرّذيلة.

وإلى هذا، أشار الله سبحانه وتعالى: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فالتّخويف من الله، كما ورد في الآية، يدفع إلى التقوى ورعاية حدود الله.

 وقد ورد في الحديث: “رأس الحكمة مخافة الله”، “من كثرت مخافته قلّت آفته”. وفي الحديث كذلك: “الخوف من الله عزّ وجلّ سجن النفس عن الذّنوب، ورادعها عن المعاصي”.

فالإنسان ينزع بطبيعته إلى الانحراف، وإلى تجاوز الحدود، وإلى الانزلاق نحو المعاصي، ولذا تراه، إن لم يهذِّب نفسه، إذا امتلك طغى، وإذا قدَّر بطش، وإذا غني بخل، وإذا علا تكبَّر، وإذا تحكَّم تجبَّر، وإذا افتقر كفر. فالإنسان بحاجة إلى كوابح داخلية تمنعه من تجاوز حدوده.. والخوف من الله، وأن لا يكون في موقع سخطه وعقابه، هو هذا الكابح الذي دعا إليه الله.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الأثر الذي تركه الخوف من الله في حديثه عن هابيل، والّذي كانت مخافة الله حاجباً له عن قتال أخيه قابيل، فهو عندما قال له: {لَأَقْتُلَنَّكَ}، قال: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.

وهذا الخوف هو الذي منع النبيّ يوسف (ع) من أن يخضع لإغراءات امرأة العزيز له عندما راودته عن نفسه: {مَعَاذَ اللهِ…}.

استشعار الخوف!

وهذا الخوف من الله سبحانه هو الذي دعا رسول الله (ص) إلى أن يأتي إلى المسجد وهو معصوب الرأس من شدّة الألم، متوكّئاً على عليّ (ع) وابن عمه الفضل بن العباس، ليقول للناس: “معاشر الناس، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به. معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شراً، إلا العمل. أيّها النّاس، لا يدّعي مدّع، ولا يتمنّى متمنّ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت. اللّهمّ هل بلغت؟!”.

أيّها الأحبّة: إننا أحوج ما نكون إلى أن نستشعر الخوف من الله، أن نعيشه ليعيننا على أنفسنا، فلا نخضع لشهواتنا ورغباتنا وعصبيّاتنا وانفعالاتنا، وأن نضبط كلماتنا وتصرّفاتنا ومواقفنا، فلا نغشّ، ولا نكذب، ولا نخون، ولا نغتاب، ولا نسخر من الآخرين ونستهزئ بهم، ولا نؤيّد ظالماً أو نسكت على ظلم أو فساد.

علينا أن نخاف الله ونتّقيه كما أشار الحديث: “خَفِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا يَرَاكَ فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَهُ بِالْمَعْصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ”، بحيث يكون خوفنا منه أكثر من خوفنا من أيّ أحد، مهما كبر وعلا وطغى وتجبّر، {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ}.. فهذا الخوف هو علامة إيماننا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، وسبب نجاتنا في الآخرة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

هذا درس الإمام الكاظم (ع) لنا.

جعلنا الله وإيّاكم من أولئك الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الرّضا (ع) السيّد عبد العظيم الحسني، والذي يسمّى الشّاه عبد العظيم. هذا الإمام الذي تمرّ علينا ذكرى وفاته في السّابع عشر من صفر، حين قال في وصيَّته: يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي- أي شيعتي – ومحبي السلام، وقل لهم: لا تجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، وأْمرهم بالصّدق في الحديث، وأداء الأمانة، ومرهم بالسّكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فاني آليت على نفسي أنّه من فعل ذلك، وأسخط وليّاً من أوليائي، دعوت الله ليعذّبه في الدّنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين”.

هذه وصيّته (ع)، إن وعيناها وعبّرنا عنها بعملنا وسلوكنا، فسنساهم بزيادة قوّة هذا المجتمع وعزيمته، وسنكون أقدر على مواجهة التحديات

هل سدَّت آفاق الحلول؟!

والبداية من لبنان الذي سدّت فيه أفق الحلول التي كان اللّبنانيّون ينتظرونها، بعد انكفاء المبادرة الفرنسيّة التي أجمعت كلّ القوى السياسيّة على أنها تشكّل الفرصة الأخيرة للإنقاذ، ما يجعل البلد رهينة الفراغ بكلّ تبعاته، على الصّعد الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية.

إننا لا نريد الغوص في الأسباب التي أدّت إلى فشل المبادرة الفرنسيّة، بعدما أصبحت واضحة وكثر الحديث حولها، وإن كنّا ندعو الجميع، الذين يريدون العودة إليها، أو الذين يفضّلون عدم العودة، إلى أخذ العبرة منها، بأنّ هذا البلد لا يمكن أن يبنى بالقهر والاستقواء والغلبة والاستئثار، بل بالتوازن وتعزيز لغة الحوار والتواصل والثقة بين طوائفه ومذاهبه ومواقعه السياسيّة، وأن يتوافق اللبنانيون على صيغة جديدة تخرج هذا البلد من أتون الطائفية والمذهبية والعشائرية، إلى رحاب دولة المواطنة والإنسان.

إنَّ ما نريده في هذه المرحلة، هو دعوة القوى السياسيّة إلى أن تقوم بمسؤوليّتها تجاه من حملوها مسؤوليَّتهم، بإخراجهم من معاناتهم التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وألا يكتفوا بتسجيل النقاط بعضهم على بعض، أو بتحميل كلّ طرف المسؤوليّة للطّرف الآخر، بل أن يقدّم كلّ فريق خطّته لكيفيّة وقف التردّي الاقتصادي والمالي والنقدي، وكيفيّة الحؤول دون إهانة كرامات النّاس عبر تجويعهم وإذلالهم للحصول على مدّخراتهم، والتي يبشّرونهم بأنهم لن يحصلوا عليها، وكيفيّة التعامل مع الموعد الذي حدّده حاكم المصرف المركزيّ لرفع الدّعم عن الطّحين والمحروقات والدّواء.

لقد شبع اللّبنانيّون من تبادل الاتهامات ومن الردّود والرّدود المضادّة، ومن الوعود التي أغرقتهم بها القوى السياسيّة، وهم يريدون أفعالاً ومبادرات تخرجهم من واقعهم ومآسيهم.

إنّنا نخشى أن تكون القوى السياسيّة استكانت للفترة الزمنيّة التي منحها لهم الرّئيس الفرنسيّ، وكأنّ البلد بألف خير، وهو قادر على أن ينتظر.

إننا لم ولن نراهن على المبادرة الخارجيّة لملاقاتها للإصلاح والتّغيير ما لم تكن هناك إرادة جديّة في الداخل لملاقاتها والاستفادة منها.

إقرار قوانين مهمّة!

ونبقى على صعيد المجلس النيابي، لنقدّر خطوة إقرار قانون الإثراء غير المشروع، ولكننا نريده أن يكون شاملاً وعامّاً، حتى لا يتجرأ أحد على المال العام، ونقدّر إقرار الدولار الطالبي الذي نأمل أن لا يتوقّف عند أبواب المصارف، والتي يبدو أنها لن تتعامل معه بالجديّة المطلوبة… ونحن كنّا نأمل أن يؤخذ البعد الإنساني في الاعتبار عند التّصويت على قانون العفو الّذي ينبغي ألا يدخل في الحسابات الطائفيّة والصّراع السياسيّ بعد انتشار الكورونا بين المساجين، وعدم توافر إمكان علاجهم، بعدما امتلأت أسرّة المستشفيات، ولم يعد في إمكانها استيعاب كلّ هذا العدد من المرضى. وإن كنّا نؤكّد أن لا يشكّل هذا العفو خطورةً على أمن البلد وسلامة الوضعين الاجتماعي والصحي.

الحذر من العدوّ

وعلى صعيد الاتهامات الجديدة التي أطلقها رئيس وزراء العدوّ في كلمته الموجّهة إلى الأمم المتحدة حول مخازن صواريخ موجودة بين المناطق السكنيّة، فإننا نرى في ذلك محاولة جديدة للضغط السياسي على لبنان وزيادة الانقسامات الداخليّة، ما يستدعي من اللّبنانيّين المزيد من اليقظة والحذر، وعدم الوقوع في فخّ العدوّ الذي قد يدخل على الخطّ الداخليّ، ويعمد إلى اعتداءات وتفجيرات ينسبها إلى المقاومة.

ونبقى في اتفاق الإطار لترسيم الحدود مع فلسطين المحتلّة، لنؤكّد أهميّة الوصول إلى حلّ يؤدّي إلى استعادة لبنان ثروته الغازيّة والنفطيّة لمعالجة أزماته الاقتصادية. ونحن في هذا المجال، ندعو اللّبنانيّين إلى الوعي، وإلى الوحدة والتماسك في هذه المعركة الجديدة، والتي لن تكون سهلةً مع عدوّ ماكر وغادر.

أربعينيّة الحسين (ع)

وأخيراً، وفي ذكرى أربعينيّة الإمام الحسين (ع)، نتوجّه كما المسلمون جميعاً، لزيارته كتعبيرٍ عمليّ عن الحبّ والوفاء له، وهو الذي قدَّم حياته من أجل أن يوقظ النّاس من سباتهم، ويخرجهم من جهلهم ومن صمتهم، إلى فضاء مليء بالعزّة والحريّة والمواقف الكريمة، ليمتلكوا العزيمة الّتي لا تسمح لأحد بأن يستفرد بهم أو أن يستعبدهم، أو أن يعطوا إعطاء الأذلاء ويقرّوا إقرار العبيد.

وهنا ندعو الزائرين إلى الحيطة وعدم التّهاون بإجراءات الوقاية  من الكورونا، حمايةً لهم ولعائلاتهم ومحيطهم، واعتبار ذلك مسؤوليّة شرعيّة وواجباً، مع دعائنا لهم بالحفظ من كلّ سوء، إنّه سميع مجيب الدعوات.