مواجهة الضلال بالوعي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

كلّ يوم.. وعند كلّ صلاة.. قراءة لسورة الفاتحة.. نردّد الدعاء {اهدنا الصراط المستقيم.. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.. }

والضلال تعريفا، هو التيه والضياع، والضال هو من حاد وتاه ولم يهتد إلى الطريق الذي يوصله إلى شاطىء الأمان في الدنيا والآخرة ، {… وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }

وقد حذّرنا الله سبحانه من اتباع الشيطان والهوى والنفس الامارة، وممن يمتهنون من الناس مهنة التضليل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ…} ومما قاله لرسوله (ص): {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } . ولننتبه ها هنا الى ان القرآن لا يعول على الاكثرية ابدا( أكثر من في الارض يضلوك )

وعندما ينقلنا القرآن إلى مشهد يوم القيامة يُحدّثنا عن بعض المُضلّين: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * }

والإمام علي(ع) يُحذّرنا من صنف آخر: «أحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، والزّالّون المزلّون.. ».

وعندما مرّ(ع) بقتلى الخوارج يوم النهروان قال(ع): «لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل له من غرّهم يا أمير المؤمنين. فقال: الشيطان المضلّ والنفس الأمّارة بالسوء… ».

ايها الاحبة.. حين تتراكم المعاصي ، وتأخذ شكل الضلال، تفقد النفس قوّة المقاومة والأمل في الشفاء من هذا الوباء … بينما، لو بقي الإنسان متمسكاً ولوبخيط واه من الايمان، ولم يهدم آخر جسر بينه وبين الله تعالى، فإنّ الأمل بالتوبة يظلّ مفتوحاً : {… فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، وحين أخرج الله سبحانه عَبْدَيْه آدم وحواء من الجنة إلى معترك الحياة على الأرض، كانت هذه وصيّته لهما. كانت وعداً، وحصانة واقية من كلّ ضلال: لا ضلال مع هداي.

……

ان دروب الحياة، ايها الاحبة، ليست دائماً آمنة أو مزروعة بالخير والورد. عند كلّ كوع أو أزمة، أو مصيبة أو حاجة ملحّة ، أو لذّة معروضة مجّاناً، هناك تجار ضلالة وشياطين غواية بانتظار العابرين والسالكين. وما أكثر الذين يتوقفون لعقد صفقة مع هذا أو ذاك، وحدهم، المتمسّكون بحبل الله من لا تغويهم البضائع المعروضة، عملاً بوعد الله: {… لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ …} هم لا يستوحشون في طريق الحق لقلة سالكيه ابدا ..فلديهم من الايمان ما يؤنسهم .. وشعار حياتهم: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

ايها الاحبة :

ان نقطة انطلاق منهج التعامل مع الضال وظاهرة الضلالة، هي ان نرفع الغفلة ونتحلى باليقظة الدائمة لهذا يتساءل الإمام الصادق(ع) فيقول: «إن كان الشيطان عدواً فالغفلة لماذا». ان الدواء هو في نشر الوعي، والتركيز على القيم الأخلاقية وحسن الخلق، والساحة الاولى هي على مستوى التربية في العائلة والمجتمع..

ان المسؤولية كل المسؤولية تقع على عاتق الاهل . وعلى الاب و الام، باعتبار ان من اولوياتهما التفرغ للقيام بمسؤوليتهما هذه بكل وعي وجدية، وان لا يتكل الواحد على الآخر، انما يقتضي تعاونهما معا لحماية الجيل، مما تبثه وسائل الاعلام على مدار الساعة، خصوصاً اقنية التلفزيون عبر برامج الضحك والتسلية او البرامج الاجتماعية او الدعايات، من موادّ تخلط عسل المعارف والمعلومات بسموم الضلال والانحراف والفساد… لقد بات الاعلام للاسف ضلالا واضلالا من فرط سخافته وانعدام المعنى فيه، ومن تنافسه غير الشريف وغياب المهنية والرقي والذوق .. انه تضليل وتفكيك وتمييع متوفر في جهاز يتقاسم الأهل البيت ويحاضر فيه وللأسف شغّال طيلة الوقت..

وعلى الاهل مسؤولية الانتباه الى ما يُبث لاولادهم الكترونيا عبر شبكة الانترنت، ولعلها الاخطر، لما تتمتع به من سرعة وخصوصية، والحل طبعا ليس المنع بالقوة، بل ان يعرف الاهل هذا المجال ليفهموا ما يجري وليواكبوا اولادهم وليس ليستغرقوا هم انفسهم في برامج الدردشة والتسلية وتتبع اخبار الناس.. المطلوب من الاهل ان يكونوا قدوة وان يقوموا بتعويض اولادهم من خسارة الكثير بالمسايرة والاصطحاب، وتأمين اجواء أسرية واعية تحقق لهم المناعة ضد اخطبوط الضلال..

ايها الاحبة

ـ ان الحد الأدنى للتحصين أن يدرك أبناؤنا استحالة التعايش بين منهج الله في الحياة ومنهج المفسدين.

ـ و الحد الأدنى للوعي المطلوب، أن يعرف أبناؤنا، ونحن قبلهم من هم المُضلّون، وكيف نعرفهم حتى وهم يضعون الأقنعة على وجوههم.

ـ والحد الأدنى لتحصين الإيمان بمقولة درهم وقاية خير من قنطار علاج، فالابتعاد عن الذنب أهون بكثير من طلب التوبة. ومن حام حول الحمى اوشك ان يقع فيه..

ـ والحد الأدنى للتحصين هو في تعويد أبنائنا طلب الحقيقة،  ومساندة الحق، والتمسّك بممارسة الإيمان عملاً وقولاً.

وحتى في هذه الحال، قد لا تكون الجهود الفردية للعائلة كافية وحدها . هنا يحتاج التحصين إلى تعاون جماعي، تقوده أندية وجمعيات، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بظواهر كتعاطي المخدرات والانحراف الخلقي والجنسي .

إنّ تشجيع الجمعيات الرياضية والكشفية والثقافية، ومراكز تعليم القرآن، من الحلول التي أثبتت نجاعتها، لإبعاد شبابنا وشاباتنا، عن كثير من أوبئة الضلال، من خلال نشر الوعي وتكريس تربية إيمانية عصية على الكسر والاهتزاز.

هي دعوة لمسؤولي هذا البلد، ولبلدياتنا ولمن يرعى اجيالنا: اهتموا بهذه المجالات وهذه الفضاءات لتوفير انشطتها مجاناً، واعداد البرامج والمباريات والفعاليات المختلفة لا الخجولة. وفوق هذا هي دعوة للمقتدرين ان يسهموا بمساعدة الاهل على أداء دورهم بان يلتفتوا الى هذا الجيل بتأمين وسائل اللعب الخارجية التي ينفسون من خلالها، ولا يتسمرون امام الشاشات فيصبحون فريسة سهلة لها..

ايها الاحبة:

المسؤولية كبيرة والعمل كثير وعلينا ان نسعى ولا نتوقف عن السعي ،علينا ان لا ننتج للحياة شباباً ضالين او مضلين، لأن  مع الضال لا مكان للحديث عن إنسان، وإنسانية بمفهوم القرآن ، فالضال يصبح واحداً من ذلك القطيع الذي يقول الله تعالى فيهم: {… لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}

تلك هي مشكلة الحياة مع هؤلاء. يراكمون خسائرهم وخسائر من حولهم، ورغم ذلك يدّعون جهلاً وصلفاً وعناداً أنّهم الأكثر معرفة، والأكثر حرصاً على مسيرة الحياة، والأكثر خبرة، هذا إذا لم يدّعوا أنّهم الأكثر تمسّكاً بحبل الله: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا}

بالطبع هم الضالون، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}

 

أعاننا الله واياكم وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التقوى أن نُحسن استقبال السّنة الهجريَّة الَّتي ستهلّ علينا بعد أيام؛ السّنة الألف وأربعمئة وخمسة وثلاثين لهجرة النبي(ص)، فاستقبال سنة هجرية جديدة ليس، كما يعتبره البعض، مناسبة للهو وتجاوز حدود الله، كما يحدث عند استقبال السنة الميلادية الجديدة، بل هو مناسبة للتفكّر في مدى أدائنا للمسؤوليات التي ألقاها الله على عاتقنا، فنستغفر الله سبحانه وتعالى إن كنّا قد قصَّرنا فيها، ونقرّر أن تكون السّنة الجديدة أفضل من سابقاتها، وأن تكون محطة لاستحضار كلّ المعاناة والآلام التي تحمَّلها رسول الله(ص) منذ بداية دعوته وحتى هجرته، حيث واجه أعداء الإسلام بكلّ صبر وثبات، إلى أن تحقّق النصر بعد سنوات من الجهد المضني ومواجهة التحديات.

إنَّنا نريد لهذه السّنة أن تكون مناسبة لنؤكّد على أنفسنا وأبنائنا والناس من حولنا، ضرورة الاهتمام بالتاريخ الهجري أسوةً بالتاريخ الميلادي، ونسأل الله أن تكون هذه السنة الجديدة سنة خير وبركة، فنرتاح فيها من معاناتنا، بعد أن كثرت التحديات واشتدَّت في واقعنا، فلا يزال لبنان يعيش تداعيات ما يجري في محيطه، ولا سيما في طرابلس، التي نأمل أن تستعيد مسيرة الأمن فيها، بعيداً عن الحوادث الأمنية المتنقّلة التي باتت تتكرر كل يوم.

إنَّ أوضاع هذا البلد قاسية ومهدّدة بالانهيار، فمشروع الدولة في الداخل تراجع، والحكومة لم تؤلَّف بعد، وحكومة تصريف الأعمال لم تجتمع حتى لمعالجة أوضاع لا يمكن التغاضي عنها، والنصاب في المجلس النيابي لم يكتمل، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية إلى تفاقم وتدهور، بعد أن تجاوز الدين العام الستين مليار دولار، وثمة من يقول إنه بلغ حافة الثمانين مليار دولار، فضلاً عن الأزمات الاجتماعيَّة والمعيشيَّة التي لا حلول لها، وكأنّ البلد ينتظر مصيره بعد أن وُضِع في العناية الفائقة، من دون أن يسعى الأطراف السياسيون لإيجاد حلول جذرية لأزماته.

إنَّنا أمام هذا الواقع الصَّعب، نطلق الصَّرخة عاليةً لتتحرك كلّ الهيئات والجمعيات والشَّخصيات والفاعليات ومؤسَّسات المجتمع المدني، لرفع الصوت عالياً ودفع المسوؤلين إلى الخروج من حالة الفراغ والجمود حيال الاستحقاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والمعيشيَّة الملحّة.

وفي هذه المرحلة، نشدّد على أن يكون استقرار الوضع الأمني عنوان إجماع سياسي، فتبقى عين الدولة ساهرة بكل أجهزتها على مسيرة السلم الأهلي وأمن الوطن، ولا تتهاون مع أي شخص من الذين أساؤوا إلى الوطن وفرّطوا في أمنه، تحت أي اعتبار، سواء فيما جرى من تفجيرات سابقة، أو الاستهدافات الأمنية الحالية، حيث ينبغي أن ينال هؤلاء جزاءهم، بصرف النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، أو المنطقة التي يستهدفونها، وأن لا يكون في ذلك من هو ابن ست وابن جارية أمام القضاء، الذي نريده نزيهاً وعادلاً مع الجميع، من دون خلفيات أو تصفية حسابات.

وفي الوقت نفسه، ندعو اللبنانيين إلى عدم نسيان الخطر الصّهيوني الذي يبقى التهديد الأساسي لهذا البلد، وقد لاحظنا مؤخراً خروقاته البرية والجوية، إضافةً إلى سعيه لسرقة الثروة اللبنانية من البحر، في ظل استمرار التراخي اللبناني الرسمي وغيره إزاء ملف النفط تحديداً.

أما سوريا، فإننا نأمل أن تتكلّل الجهود الَّتي تجري لإخراج هذا البلد من معاناته بالنجاح، بعدما شعر الجميع بأنَّ الحائط بات مسدوداً أمام كلّ المحاولات العسكرية للحسم من هنا وهناك، وبأن أقصر الطرق لاختصار أمد الأزمة يتمثَّل في الذهاب مباشرةً إلى التفاوض والحوار، سواء عبر جنيف اثنين أو غيره.

وهنا، ندعو الجميع إلى الخروج من حساباتهم الخاصة أو الفئوية، لحساب الوطن الجريح ومستقبله ومستقبل مواطنيه، والذي ينبغي أن يكون الأساس في كلّ هذه الحركة السياسيّة، ولا سيّما في ظلّ التدخّل الصهيوني المستمر على خطّ هذا البلد، من خلال الحديث عن عدوان صهيوني جديد على اللاذقية، لإضعاف قدرات سوريا العسكريّة، ومنعها من تحقيق أي توازن مع هذا العدو، أو الدفاع عن نفسها، فهذا هو الهدف الأساس من كل ما يجري في هذا البلد وغيره.

ونحن نأمل أن تساهم معالجة المسألة السورية في ترك آثارها الإيجابية في محيط هذا البلد، سواء العراق، حيث بات ملفه مرتبطاً بالملف السوري، أو لبنان، الذي تزداد معاناته الأمنية والاجتماعية بسبب هذا الملف، ولا سيما أزمة النازحين.

وعلينا الالتفات إلى ما يجري في اليمن من فتن واضطرابات أمنية وسياسية، وإلى المخاطر التي تطلّ من زاوية الانقسام المذهبي الذي نخشى أن يتحوّل بفعل التداعيات الكثيرة إلى اقتتال وصراع متفاقم، وهو ما تشهده منطقة صعدة وجوارها، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول توقيت هذه الأحداث، ومن يقف خلفها، ومن يريد للوضع اليمني كله أن يبقى في دائرة الاهتزاز الأمني والسياسي وحتى المذهبي.

أما فلسطين، فلا يزال شعبها يتعرض لحملات متواصلة من الاحتلال الصهيوني، الذي يمارس القتل والاعتقال والاستيطان والقلع المتكرر لأشجار الزيتون من قبل المستوطنين، فضلاً عن الغارات الأخيرة على أطراف قطاع غزة المحاصر.

إنَّ فلسطين في ظل هذه الظروف القاسية، في أمس الحاجة إلى موقف عربي وإسلامي موحّد، يرفع عنها كاهل الاحتلال، وعدوانه المستمر على المسجد الأقصى الشريف، وعلى الوجود الفلسطيني داخل أراضي الـ 48 وخارجها.

إنَّ علينا متابعة ما يجري في فلسطين، والوقوف مع هذا الشعب، والشعور بآلامه ومعاناته، لإحباط أية تسوية شكلية يأخذ فيها العدو ما يريد، لأننا نخشى أن تكون أحداث العالم العربي كلّها، وهذه الفوضى المتنقلة، جزءاً من المؤامرة الكبرى لتضييع القضية الفلسطينية أو ما تبقى منها.

وأخيراً، إننا في الوقت الذي نهنّئ المسلمين بحلول السنة الهجرية الجديدة، نريد لموسم عاشوراء الآتي أن يكون مناسبة لتعزيز روح العزة والمقاومة والعنفوان في النفوس، وأن يساهم في تعميق أواصر الوحدة بين المسلمين، لمواجهة التحديات التي يتعرضون لها في الداخل والخارج.

 

 

 

 

 

Leave A Reply