مواقع التواصل الاجتماعي واثرها على المجتمع

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

 

{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف: 13].

متابعةً لما تحدّثنا به سابقاً عن دور الشّباب، ونظرة الإسلام إلى أهميّة هذا الدّور وفعاليّته، كان لا بدّ من وقفة أخرى بناءً لطلب العديد من الشّباب والأهل، كي نوسّع من هذه الإطلالة. ونركّز اليوم على سلوكيّات هذه الفئة مع مواقع التّواصل الاجتماعي، هذا المجال الحيويّ الّذي فرض نفسه بقوّة في هذا العصر، فرض نفسه وفرض أعرافاً وثقافةً ومفاهيم وقيماً، هي ليست بعيدة عن ثقافة الاستهلاك السّائدة.

ونحن في طرحنا لموضوع مواقع التّواصل، لن نتحدّث من موقع الفتوى بالحليّة أو الحرمة، لأنّ الحليّة والحرمة أمر يحدّده كلّ شخص حسب استعماله لهذه الوسيلة أو تلك؛ فإن استعملها في ما هو محرَّم حرمت، وان كانت في الحلال حلّت له، لا بل تصبح واجباً إذا كانت سبباً لتطوّر المرء، وسبيلاً لتنويره وإبعاد شبح الجهل عنه.

إلا أنّ ما يشكّل علامةً فارقةً في هذا الشّأن، هو الوازع الدّاخليّ، أو الرّقابة الداخليّة، فهي اليقظة الّتي يفترض أن يتسلّح بها الشّباب في الحياة بشكل عام، خلال الإبحار في هذا العالم الواسع والمكشوف لبرامج التّواصل الاجتماعيّ، الملأى بالغثّ والسّمين الّذي يأتيه من كلّ حدب وصوب.

محاذير استخدام مواقع التّواصل

إنّ أوّل محذور يجب الإشارة إليه، أنّ قضيّة استحواذ هذه البرامج على الشّباب، وصلت إلى حدّ الإدمان. نعم، بات هناك إدمان مخيف، وعلماء التّربية يحذّرون، والإحصاءات تؤكّد ارتفاع الآثار السلبيّة الّتي تطالعنا كلّ يوم، وعلى رأسها التشتّت، عدم التّركيز، تضييع الوقت، الانعزال، فقدان الصّبر، تفكّك الرّوابط الأسريّة، المخاطر الصحيّة والأمنيّة، وإلى ما هنالك من أمراض قد تتكشّف، ولكن بعد فوات الأوان.

راقبوا حجم الأوقات الّتي يصرفها الشّباب على مواقع التّواصل، وكيف يُسلّم نفسه بغباء إلى شاشاتها (الّتي صُنِّفت ذكيّة) في أيّ مكان يحلّ فيه، حتّى باتت هي المحرّك الأساس لأوقات الكثيرين، والنّقطة التي يعودون إليها مراراً وتكراراً. وفي بعض الإحصاءات، هناك من يتفحّص صندوقه البريديّ أو الأخبار على حسابه لمئات المرّات في اليوم، ومن دون ضرورة: أثناء العمل، وأثناء القيادة، وأثناء تناول الطعام، وربما الآن في المسجد… حتّى بتنا مؤخّراً نشهد خراب بيوت، بكلّ ما للكلمة من معنى، جرّاء الاستعمال المفرط وغير المتوازن لهذه البرامج، من حيث الاستغراق واستهلاك الوقت والطّاقة، ناهيك بالمضامين الّتي يتمّ تبادلها في هذه المواقع، والانخراط فيها، والتورّط في أمور تجرّ معها المشاكل إلى واقع الحياة اليوميّة، ولا سيّما مع توفّر تقنيّة التّصوير التي يستعملها مرتادو "النت"، بسبب ومن دون سبب، بحيث صارت تستعمل لكشف حرمات البيوت والنّاس، ولاستغلال الأخطاء واقتناص الزلاّت وتعميمها. وما أكثر الفضائح والمآسي الّتي ترتّبت وتترتّب على هذا الأمر! علماً أنّ المبدأ في الدّين هو السّتر لا الكشف، وخصوصاً بالنّسبة إلى الفواحش. والمبدأ في الدّين هو الحمل على الأحسن وليس الأسوأ، ولا يحقّ لك أن تنقل ما سمعت، ولا ما قرأت ولا ما قيل لك، فكيف بك تصوّر وتنقل وتنشر، وينقل عنك العشرات والمئات ومرّات الآلاف؟! إنّ الله يقول إنّ عليك وزرها إلى يوم الدين ..

هنا، وبالمناسبة، لا يحقّ لك، بحجّة الإصلاح ومحاربة الفساد، أن تنشر الفاحشة، لأنّك بذلك تشيعها وتقرّب فكرتها من النّاس، وتكسر الحاجز أمام استسهال ارتكابها {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النّور: 19]. نعم، علينا العلاج وليس التستّر ووضع رؤوسنا في الرّمال كالنّعامة، ولكن ليس إلى حدّ الفضح والإشاعة. أليس هذا ما يفعله اليوم الإعلام المرئي والمسموع والرّقمي، الّذي يشيع الأفكار الخاطئة، والقيم السلبيّة، ويشيع التّحريض والتعصّب بحجّة انتقاده لهما وبحجّة المعرفة.

مسؤوليّة استخدام الإنترنت

والسؤال اليوم: إلى أين سنصل؟ ما هذا الجنون الّذي أصاب النّاس في كلّ مكان؟ ما هذا الهوس الّذي لا يوفّر أحداً؟

والمشكلة أنّ هذه السلوكيّات لا تخضع للرّقابة، لأنّها تنشئ لكلّ مرتاد عالماً خاصّاً به يخفيه عن أيّ رقابة، مع تقنيّة كلمات السّرّ، وبعض الشّباب، حتّى المتديّن، ينسى فكرة الرّقابة، ظنّاً منه أنّ هذه الساحات لا شأن  للأحكام الشرعيّة والأدبيّات الدينيّة فيها، لهذا ترى الإقبال عليها والتّعامل معها من غير قيود، وبالتّالي، يكتبون ما يشاؤون من دون تدبّر، وينشرون أشياء بطعم، وأشياء من دون طعم ومن دون حذر، والمهمّ بالنّسبة إليهم، أن يصبح لديهم محطّات إعجاب، وأصحاب وأحباب. وللأسف، هناك من يشتري الإعجاب والمحبّة. ومرّات كثيرة ينشئون حسابات وهميّة يتلطّون خلفها. صحيح أنّ موقع التّواصل هو عالم افتراضيّ، لكنّ الرّسالة التي ينقلها لا تظلّ افتراضيّة عند من يرسل صورةً أو تعليقاً وعند من يتلقّاها، الاثنان يؤثّران ويتأثّران، ومن هنا الحاجة الملحّة لتشديد الرّقابة وتعزيزها.

إنّ أخذ الحريّة الكاملة في عالم الإنترنت من دون ضوابط ولا رقابة، لا يعني أنَّك غير مسؤول أمام الله: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36].

فلا فرق بين حرمة الغيبة والنّميمة في الواقع أو على النّتّ، ولا فرق في حرمة اللّغو والثّرثرة والإسراف والكلام البذيء والكلام الفاحش في أيّ موقع حصل فيه،  وصولاً إلى انفلات ضوابط علاقة الرّجل بالمرأة، فنجد الميوعة والخفّة والتصنّع والتكلّف، ونجد ضياع هويّة المرأة المحجّبة، لتميل وتنجرّ نحو ما هو سائد ودارج، انطلاقاً من خلفيّة عقد نقص تجاه ما عند الآخر، مع أنّ المنطق القرآنيّ واضح بخصوص الحجاب الّذي كما قلنا مراراً، هو ليس قطعة قماش نبرّئ بها ذمّتنا، بل هو سلوك ورصانة وحشمة وحياء.. ولا فرق بين أن يكون ذلك على أرض الواقع أو أن يكون مع جمهور مجهول في واقع افتراضيّ.

ويبدو أنّ على الأهل والمربّين، وعلينا نحن أيضاً، أن نعيد شرح مفهوم الحجاب والسّتر، وكيف أنّه منظومة متكاملة لا يمكن اجتزاؤها. وهذا الأمر بات ملحّاً اليوم. لماذا؟ لأنّ مواقع التّواصل باتت معرضاً للخفّة والخضوع بالقول، ورفعاً للكلفة والثّرثرة، فيما الآية واضحة، وهي موجّهة إلى نساء النبيّ، ومن خلالهنّ إلى النساء المؤمنات التقيّات: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا}[الأحزاب: ٣٢].

إيجابيّات وحسنات

أيّها الأحبّة: في الوقت الّذي نتناول السلبيّات الّتي تنشأ من سوء استخدام مواقع التّواصل الاجتماعيّ، لا بدّ من أن نشير إلى الإيجابيّات الكامنة في هذا التطوّر، وقد تكون أكبر، فقد ساهمت هذه المواقع في تعزيز التّواصل بين مختلف فئات المجتمع، بعيداً عن انتماءاتهم الدينيّة أو الوطنيّة، وبعيداً عن مواقعهم الاجتماعيّة، فالكلّ له الفرصة في أن يبدي رأيه بكلّ حريّة وأمانة، وبهذا يتحقّق ما أشار إليه القرآن الكريم عندما قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: ١٣].

إيجابيّة أخرى يجب الإشارة إليها، وهي أنّ هذه المواقع أخرجت الكثيرين عن صمتهم أو من عزلتهم، ودفعتهم إلى اهتمامات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة وإيمانيّة لم تكن جزءاً من عالمهم، ولم تكن أساساً تشغل بالهم وتفكيرهم، هذا إلى جانب الدّور الّذي حقّقته في فتح منافذ للحوار، حتّى في أشدّ الأوقات تعقيداً، وعلى مستوى العالم، وهي فرصة لكلّ من يحمل قيم الإيمان، أن يدخل غمار هذا العالم، ويحوّله إلى مجال للتّقريب والحوار وإزالة الكثير من الأوهام.

إنّنا مدعوّون، وانطلاقاً من إيماننا وقيمنا ومبادئنا، إلى أن نعكس صورة القيم الّتي نحملها على هذه المواقع، أن لا يحكمنا في ذلك تقليدنا للآخرين لنفعل كما يفعلون، ونتصرّف كما يتصرّفون، وتكون ردود أفعالنا كما هي ردود أفعالهم، فلنا قيمنا ومبادئنا الّتي نعكسها حيث نكون، نعكسها في نوعيّة كلماتنا، في أسلوب حياتنا، في تقديمنا الأحسن والأنفع والأكثر فائدةً، ولنخرج أفضل ما لدينا، ولْنجعلها ساحةً نبثّ من خلالها الحقائق، ولا شيء غير الحقائق، نتعصّب للحقّ وليس للأشخاص، ولقضايا الحقّ والعدل ومقارعة الظّلم.

ومن هنا، ندعو شبابنا وهم في مواقع تواصلهم: كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً علينا.. ازرعوا سنابل الخير، وورود المحبّة، وعنفوان الانتماء.. لا تنسوا في أيّ لحظة أنّ الله في قلوبكم، عند كلّ كلمة أو همسة أو تغريدة. تذكّروا قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:١٧-١٨].

ليكن شعاركم في كلّ حوار وحديث: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: ٥٣].

لا تبادلوا سوء كلام الآخرين برددود فعل مماثلة، وليكن عنوان ردّكم: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[فصّلت: ٣٤].

كونوا العادلين حتّى مع من تختلفون معهم، وتذكّروا قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ}[المائدة: ٨].

لا تغالوا في مدح من تمدحون، ولا في ذمّ من تذمّون.. قيّموا الأمور بموازين دقيقة.. قولوا الحقيقة كلّها لا بعضها.. حوّلوا مواقع التّواصل إلى مواقع للوعي، وليس للثّرثرة.. اجعلوا مواقع التّواصل مواقع لوأد الفتن لا لتأجيجها.. والأهمّ، أن احسبوا حساباً لكلماتكم ومواقفكم وآرائكم، وتذكّروا:

  "‏‏إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".

أيّها الأحبّة: لم تعد الكلمة محدودة بحدود المكان والجدران.. الكلمة تتمدّد إلى الفضاء الواسع.. فإن أُحسن انتقاؤها واستعمالها، قد تحيي قضيّة حقّ، أو ترسّخ رسالة عدل، وإلاّ قد تخلق فتنة أو تخمدها.. وقد تفتح الأبواب أو توصدها. لهذا فإنّ المسؤولية كبيرة على عاتق الجميع الّذين يكتبون ويتفاعلون وينشرون، ويغرّدون ويتابعون، ويحبّون ويكرهون، ويؤيّدون ويخالفون. الحذر كلّ الحذر، من كلمات تنطلق بكبسة إعجاب، وتتكدّس لتصبح حملاً ثقيلاً ووزراً تجده حاضراً في كتاب أعمالك.. يوم ينادي المنادي: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}[الصّافّات: 24].

والحمد لله ربّ العالمين

.  

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي زادنا في الدّنيا والآخرة. ولبلوغ التقوى، علينا أن نستهدي بهدي بضعة رسول الله(ص)، وسيّدة نساء العالمين، السيّدة الزّهراء(ع)، وأن نقتدي بها قولاً وفعلاً، فلا نغفل عن ذكر الله قطّ. وفي حديث نقلته الزّهراء(ع) عن أبيها رسول الله(ص)، قالت(ع): "دخل عليّ أبي رسول الله(ص)، وقد افترشت الفراش وأردت النّوم، فقال: يا فاطمة، لا تنامي حتّى تعملي أربعة أشياء: حتى تختمي القرآن، وتجعلي الأنبياء شفعاءك، وتجعلي المؤمنين راضين عنك، وتعملي حجّة وعمرة. فقلت له: يا رسول الله، أمرتني بأربعة أشياء لا أقدر في هذه السّاعة على أن أفعلها. فتبسّم رسول الله(ص)، وقال لي: لكنّك تستطيعين أن تفعليها، وبوقت قصير. فقلت: كيف؟ فقال: "إذا قرأت بعد الفاتحة: "قل هو الله أحد" ثلاث مرّات، فكأنّك ختمت القرآن، وإذا صلّيت عليّ وعلى الأنبياء من قبلي، فقد صرنا لك شفعاء يوم القيامة، وإذا استغفرت للمؤمنين والمؤمنات، فكلّهم راضون عنك، إذا قلت: اللَّهُمَّ اغفِر لِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ، الأَحيَاءِ مِنهُم وَالأَموَاتِ، َتَابِع اللّهمّ بَيْنَنَا وَبَينَهُم بِالخَيرَاتِ. اللَّهُمَّ اغفِر لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، ذَكَرِنَا وَأُنثَانَا، صَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا. وإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقد حججت واعتمرت".

أيّها الأحبَّة، لقد التزمت الزّهراء(ع) بوصيّة أبيها(ص)، فما كانت تغمض عينيها إلا بعد أن تطمئنّ إلى أنها وفت ما وعدت رسول الله(ص) به. فلتكن الزّهراء قدوتنا في ذلك، فلا نبدأ نهارنا إلا بالثّناء على الله تعالى، ولا ننهيه بتغييب الله عنّا. فليبق الله حاضراً في قلوبنا وعقولنا وألسنتنا وأبصارنا وكلّ جوارحنا، لا نكلّ ولا نملّ ولا نهدأ حتّى نطمئنّ إلى أنّه راضٍ عنا. بهذا الصّدق مع الله نصل إلى أعلى المواقع، ونحقّق أهدافنا، ونواجه التَّحدّيات، وما أكثرها!

القمّة العربيّة دون مستوى التحدّيات

والبداية من القمّة العربيّة في الكويت؛ هذه القمّة الّتي توجّهت نحوها الأنظار، لعلّها تساهم في رأب الصّدع في العالم العربي، وتعالج الأزمات التي يُعانيها الكثير من بلدانه، وتدرس الوسائل الكفيلة بإيقاف نزف الدّم المستمرّ في سوريا والعراق والبحرين واليمن ولبنان والصّومال وليبيا ومصر وغيرها، وتوجّه رسالة قويّة إلى الكيان الصّهيوني ومن يقف معه، وهو الّذي يستمرّ في استباحته للقدس والمسجد الأقصى، ويواصل سياسته الاستيطانيّة، وحصاره لغزّة، وتهويده لفلسطين.

ولكن رغم الهدوء الّذي اكتنف أجواء هذه القمّة، جاءت النتائج لا تتناسب مع تحدّيات هذه المرحلة ومخاطرها، رغم بعض الإيجابيّات المتمثّلة برفض القمّة المطلق للاعتراف بيهوديّة الكيان، ودعوتها إلى معالجة الوضع في سوريا من خلال الحوار، ودعمها للجيش اللّبناني وقواه الأمنيّة، وتوجيهها التحيّة إلى المقاومة في لبنان وصمود الشّعب اللّبناني في مواجهة الاحتلال.

ونحن لانزال نعتقد أنَّ عدم صدور القرارات الحاسمة ورسم الآليّات لتنفيذها، لا ينطلق من عدم قدرة العالم العربي على ذلك، فهو قادر على أن يفعل الكثير لمعالجة قضاياه الأساسيّة، لو قرّر أن يكون له مكان في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، ولو عمل على أن يتكامل ويتعاون فيما بينه، بحيث يشدّ بعضه أزر بعض، ويقويّ قويّه ضعيفه، ويساعد غنيّه فقيره، ويخرج من منطق استضعاف نفسه، ويستعيد قدراته، وإمكاناته الماديّة، وثرواته الطبيعيّة، وطاقاته البشريّة والحيويّة… ولكنَّه تفرَّق وتشاجر، وراح بعضه يكيد للبعض الآخر ويسعى إلى تدميره، وسمح للّذين لا يريدون له خيراً، أو يريدونه بقرة حلوباً لمصالحهم، بأن يجدوا مجالاً ليعبثوا بأمنه واستقراره، ويمسكوا بزمام أموره.

لهذا، وانطلاقاً مما جرى ويجري في هذه القمّة، وفي داخل العالم العربي، نعيد دعوة الدّول العربيّة إلى أن تكون في مستوى طموحات شعوبها وأحلامها، فمن حقّ هذه الشّعوب أن تتطلَّع إلى عالم عربي موحّد؛ عالم متكامل مع العالم الإسلامي، ومنفتحٍ على العالم كلّه، أسوةً بالعالم الآخر الذي بات يبني سياساته واقتصاده على قواعد الوحدة، لا على أسس الانفصال بين الدّول.. وبذلك، نكون منسجمين مع قيمنا ومبادئنا الّتي يعدّ عنوانها الأساس: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}.

وهنا، نأسف كثيراً ونحن نستمع في القمّة إلى أحد القادة العرب، حين يتحدّث عن الوضع في سوريا، فيقول إنَّ تغيير الواقع فيها لا يتمّ إلا بالحسم العسكريّ، وكأنَّ سوريا من خارج هذا العالم العربي، وكأنّ الدّم الذي ينزف هناك ليس دماً عربيّاً، وكأنّ سوريا ليست أرضاً عربيّة، أو جزءاً من المستقبل العربي. كما نأسف لما جرى أخيراً، من سحب سفراء وغير ذلك، ما يعمّق الانقسام حتى في الدوائر العربيّة التي كانت لفترة طويلة بمنأى عنه.

لبنان: عنف يستدعي المعالجة

ونعود إلى لبنان، حيث لا يزال هذا البلد يعيش العنف المتصاعد في العديد من مناطقه، والّذي بات لا يقتصر على الحوادث الأمنيّة المتكرّرة في طرابلس أو البقاع أو بيروت، بل امتدّ إلى داخل الأسر والمدارس، التي يفترض فيها أن تكون محاضن تربويّة ومواقع سكينة واطمئنان. وقد هالنا ما شاهدناه في الأسبوع الماضي من مشاهد العنف الدّامي، في قتل رجل لزوجته الحامل، أو القسوة في التعامل مع تلامذة المدارس.

 إنّنا أمام هذا الواقع الذي ينطلق من أسباب قد تكون نفسيَّة أو اقتصاديَّة أو معيشيَّة أو تربويَّة، ندعو الدولة ومؤسّسات المجتمع المدني، وكلّ المعنيّين بالتربية، وعلماء الدّين على وجه الخصوص، إلى أن تتضافر جهودهم من أجل معالجة هذا الواقع بمعالجة أسبابه، أو التّخفيف من تداعياتها، إن لم نتمكّن من حلّ المشكلة أو إزالتها، فلا نكتفي بتشديد العقوبات القاسية على الفاعلين، رغم أهميّة ذلك. وفي الوقت نفسه، فإنّنا نؤكّد أهميّة الخطوات الأمنيّة الّتي أقرّتها الحكومة في جلستها الأخيرة، والّتي نأمل أن تكون هذه المرّة جدّية ومتوازنة وعادلة، بعيداً عن كلّ الحسابات الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، بما يساهم في تخفيف معاناة أهلنا في طرابلس والبقاع وغيرها من المناطق اللّبنانيّة، كما ندعوها إلى مواكبة ذلك بسعي مستمرّ لتنمية المناطق الفقيرة المستضعفة، والتّخفيف من حدّة المشاكل الاقتصاديّة والمعيشيّة الّتي تعصف بهذا البلد.

ونحن نعتقد أنّ تسيير عجلة المؤسّسات الدستوريّة، بدءاً بالمجلس النيابي والحكومة، وصولاً إلى تأمين مناخ للاستحقاق الرّئاسي، في ظلّ حرص الجميع على مصلحة الوطن كلّه، سيؤدّي إلى تأمين الاستقرار، ولو النسبي، لهذا البلد، فقد آن الأوان لإنسانه أن يرتاح، ويتفرّغ لمواجهة تداعيات محيطه، وخطر العدوّ الصّهيوني، وكلّ الاستحقاقات القادمة.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 27جمادي الأول 1435هـ الموافق : 28 آذار 2014م

Leave A Reply