مواقفُ مشرقةٌ في حياة عليّ (ع)

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }. صدق الله العظيم.

في الثّالث عشر من شهر رجب، كانت الولادة المباركة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، هذه الولادة التي شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون في أقدس بقعة وأشرف أرض، في بيته الحرام، وهي ولادة لم تحصل لأحد قبله، ولن تكون لأحد بعده.

وهذه المناسبة ككلّ مناسبات أهل البيت (ع)، هي فرصة لنتعرّف أكثر إلى ما تضمنته سيرة هذا الإمام، لنقيس من خلالها أنفسنا، ونرى مدى التزامنا بهذا الإمام العظيم، فلا يكفي حتى نتولّى علياً أن ننتمي إليه، أو نبدي مشاعر الحبّ له، أو أن نزوره، بل لا بدّ من أن يظهر ذلك في السّلوك والعمل والمواقف.

وهذا ما عبّر عنه الإمام الباقر (ع)، عندما قال: “أحسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولّاه! فلو قال إني أحبّ رسول الله، ورسول الله خير من عليّ، ثم لا يعمل بعمله، ولا يتبع سنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئا”.

ونحن لا نستطيع في هذا الحديث، مهما طال، أن نحيط بكلّ جوانب سيرة عليّ (ع)، وهو الذي ملأ الآفاق علماً وشجاعة وبطولة وكرماً وتضحية وعدلاً وتفانياً في ذات الله وإعلاءً لكلمته… وإنما سنتوقف في هذه الذكرى عند بعض مواقفه بشكل موجز.

أخلاقه (ع) مع أعدائه

الموقف الأوَّل: حصل في معركة صفّين، فقد ورد أنه في هذه المعركة، أحاط جيش معاوية بن أبي سفيان عند قدومه إلى أرض هذه المعركة بالماء (ماء الفرات)، ولم يسمحوا لعليّ (ع) وجيشه من الشّرب منه، وقالوا لعليّ (ع): لا والله حتى تموت أنت وأصحابك. فلما بدأت المعركة، حمل أصحاب أمير المؤمنين (ع) على عسكر معاوية، فأبعدوهم عن ماء الفرات، وصار الماء تحت أيديهم. فلما جاء معاوية وجيشه يطلبون الماء من عليّ (ع)، قال له قادة جيشه: لا يا أمير المؤمنين، امنعهم الماء كما منعونا، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لك بعد ذلك إلى الحرب، فقال لهم الإمام (ع): “لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشّريعة…”.

هنا يُطرح السّؤال: ماذا لو كنّا مكان عليّ (ع)؛ هل نأخذ بأخلاقه وتعامله، أم موقفنا هو ما كان عليه معاوية وجيشه؟!

موقفه (ع) من السّباب

موقف آخر له في هذه المعركة، عندما مرّ على بعض من كان من جيشه، فسمعهم يسبّون معاوية وأصحابه، فقال لهم: “إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ”.

لا تفرقة بين مسلم ومسيحيّ

موقف آخر له، عندما كان الإمام (ع) يسير في أيَّام خلافته في شوارع الكوفة، فرأى رجلاً يتسوّل، فقال: ما هذا؟ رجل يتسول في الكوفة؟! فقد كان مستغرباً عند عليّ (ع) أن يكون هناك في الكوفة من يتسوَّل، وهو من كان يقول: “ما أصبح في الكوفة أحد إلّا ناعماً (مرفَّهاً)، وإنّ أدناهم منزلةً ليأكل من البرّ، ويجلس في الظلّ (أي له سكن)..”ويشرب من ماء الفرات”. فقيل له إنّه نصرانيّ، فغضب الإمام (ع) من ذلك وقال: “أنفقوا عليه من بيت المال”. فلا يوجد فرق عند عليّ (ع) في الحقوق بين أن يكون الإنسان مسلماً أو نصرانياً أو منتمياً إلى أيّ دين من الأديان، فعنده يجب أن يتوافر لكلّ أحد سبل الحياة الكريمة، أيّاً كان دينه أو مذهبه.

موقفه (ع) من المتزلّفين

موقف آخر له عندما سمع من يثني عليه اعتقاداً منهم أنّهم بذلك يتقرّبون إليه، فقال: ” كَرِهتُ أن يكونَ جالَ في ظنِّكُم أنّي اُحِبُّ الإطراءَ واستِماعَ الثَّناءِ، ولَستُ بحَمدِ اللهِ كذلكَ، ولَو كُنتُ اُحِبُّ أن يقالَ ذلكَ، لَتَرَكتُهُ انحِطاطاً للهِ سبحانَهُ” (فهو من مَنَحني الوجود وكلّ هذه النّعم)… بعدها دعاهم إلى أن لا يتعاملوا معه بمنطق التملق والتزلّف، فقال: “فلا تُكَلِّموني بما تُكَلَّمُ بهِ الجَبابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظوا مِنّي بما يُتَحَفَّظُ بهِ عِندَ أهلِ البادِرَةِ (أهل الغضب)، ولا تُخالِطوني بالمُصانَعَةِ (المجاملة)، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، فَإِنَّهُ مَنِ اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلّا أَنْ يَكْفِيَ اَللهُ مِنْ نَفْسِي”.

قمّة الرّساليّة والإنسانيّة

هذا هو عليّ (ع)، وهذه هي مواقفه التي لم ينطلق فيها من هوى أو مصلحة أو انفعال، بل من وحي إيمانه وقيمه ورساليّته، ولذلك لم يبادل الآخرين السبّ بالسبّ وسوء الخلق بمثله، ولم يجامل أحداً على حساب الحقّ.. وهذا ما أوصى به ابن عمّه عبد الله بن العباس: “فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ، وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ”.

لقد كان عليّ (ع) في كلّ حركته رساليّاً إنسانيّاً، ولذلك عانى، ولكنّه استطاع بذلك أن يبلغ العقول والقلوب، وأن يتجاوز بذلك حدود الطّوائف والملل إلى رحاب الإنسانيّة، حتى قال فيه الشّاعر بولس سلامة:

لا تَقُـل شيعةٌ هواةُ علــيٍّ إنَّ في كلِّ منصفٍ شيعـيّ

هُوَ فخرُ التّاريخِ لا فخرُ شعبٍ يَصطَفِيهِ ويَدَّعِيهِ وَلِـيَّ

جَلجَلَ الحقّ في المسيحيّ حتّى صَارَ مِن فَرطِ حُبّهِ عَلَويّ

الخطبة السياسية

أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستهدي بالسيّدة زينب (ع)، ونحن نستعيد ذكرى وفاتها في الخامس عشر من هذا الشّهر؛ أن نستهديها عندما خرجت مع أخيها الحسين (ع) لتشاركه في الثّورة على الحاكم الظّالم والفاسد، رغم أنها تعرف حجم التحدّيات التي ستواجهها، والمعاناة التي قد تتعرّض لها. أن نستهدي صبرها وقوّة عزيمتها وهي تشاهد بأمّ عينها كلّ ما حصل في كربلاء، حين فقدت أعز الناس لديها، فلم تخمش وجهاً، ولم تشقّ جيباً، ولم تدع بالويل والثّبور، بل اكتفت عندما وقفت أمام الأجساد الطّاهرة، بأن تتوجَّه إلى ربِّها قائلةً: “اللّهمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان”؛ أن نستهدي عنفوانها، عندما وقفت أمام يزيد المنتشي بنصره، لتقهر كبرياءه، وتقول له: “خسئت يا يزيد وهزمت، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فإنَّك، والله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا”.

لم يهدأ صوت زينب (ع) بعد ذلك في المدينة، رغم عمق الآلام والجراح، وبقيت إلى أن انتقلت إلى رحاب ربّها، وهي توجّه وتحفّز، وتبعث الهمم في النفوس، لتحفظ الأهداف التي لأجلها كانت ثورة أخيها الإمام الحسين (ع).

هذه الرّوح التي أطلقتها السيّدة زينب (ع)، هي الّتي ساهمت في صنع انتصارات الماضي، وهي الّتي تساهم في انتصارات الحاضر. ومن خلال تمثّلها، نمتلك القدرة على مواجهة كلّ التحدّيات.

لبنان في دائرة الانهيار

والبداية من لبنان الّذي يزداد الوضع فيه سوءاً على كلّ الصعد مع كلّ تأخير في تأليف الحكومة، حيث إن كلّ يوم يمرّ من دون أن تبصر الحكومة النور، يتناقص فيه ما تبقّى من احتياط مالي في البنك المركزي، يُقال إنّه هو الباقي من أموال المودعين، ويرتفع فيه سعر صرف الدّولار، وتتضاعف معه أسعار السِّلع والموادّ الغذائيّة الضروريّة، وتزداد أعداد العاطلين من العمل ونسب الفقر ومعدَّل السّرقات والحوادث الأمنيّة.

فقد أصبح واضحاً للجميع أنّ تأليف حكومة إصلاحات هو الباب الّذي ينبغي العمل له لوضع حدّ للانهيار المتواصل، وهو الشّرط الّذي تصرّ عليه الدّول التي تريد مساعدة لبنان للخروج من أزماته، والّتي لا تزال تؤكّد استحالة دعم لبنان من دون تأليف حكومة.

ومن المؤسف القول إنّ كلّ المواقف الصّادرة عن القوى السياسية المعنيّة بالتأليف تشير إلى أن لا حكومة في الوقت القريب، بعدما لم يبدِ أيّ منها استعداداً للتّنازل عن شروطه لحلّ عقد التّأليف، تعزيزاً لموقعه الشخصيّ في إطار طائفته، أو انتظاراً لمتغيّرات قد تأتي من الخارج لتعزّز موقعه في عمليّة التّأليف هذه، وكلٌّ يتسلّح في معركته هذه بعناوين دستوريّة وطائفيّة، من دون الأخذ بالاعتبار تداعيات ذلك على هذا البلد وعلى إنسانه.

ومن هنا، فإنّنا نعيد دعوة القوى السياسية إلى أن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم تجاه الناس الذين أودعوهم مواقعهم، فكفى تسويفاً في الوقت وتلاعباً بمصير الناس وبمستقبلهم، وعليهم أن لا يراهنوا على سكوت هذا الشّعب الذي لن يظلّ ساكتاً إلى ما لا نهاية. وإذا كانوا يراهنون على دغدغة غرائزه الطائفيّة والمذهبيّة وإثارة مخاوفه وهواجسه حتى يسكت ويصمت ويقبل بكلّ ما يملوه عليه، فهذه اللّعبة باتت مفضوحة، ولم تعد تنطلي عليهم، ولن يلدغوا من الجحر الذي طالماً لدغوا منه مراراً.

إنّنا نقول لكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة في هذا البلد، سواء أكانوا في المواقع السياسيّة أم الدينيّة، إنّ الوقت ليس وقت إثارة طروحات تؤدّي إلى المزيد من الانقسام، بقدر ما هي مرحلة توحيد الجهود وتضافرها لمنع الانهيار في هذ البلد.

محسوبيّات توزيع اللّقاح

وفي مجال آخر، وبعد أن استبشر اللّبنانيون ببدء عملية توزيع اللّقاح، وهم وعدوا بأن يتمّ ضمن آليّات بمنتهى الشفافيّة، لكنّهم فوجئوا بالخرق الّذي حصل، وإدخاله في الحسابات السياسية والمحسوبيات، والّذي قد لا تقف تداعياته على حرمان من لهم الأولويّة في توزيع هذا اللّقاح، بل على استمرار وصوله إلى هذا البلد، وشكّل دليلاً إضافياً على مدى سقوط من هم في مواقع المسؤوليّة.

لقد كنّا نأمل أن تصدر توضيحات ممن تسبّبوا بهذا الخرق أو استفادوا منه، تطمئن اللّبنانيّين بعدم تكرار مع حصل في عمليّة التّوزيع، بدلاً من تبريرات تجعلهم يخشون من أن يستمرّ ما حصل ويتكرّر، ويزدادون يأساً من هذا الواقع السياسيّ وممن أودعت لديهم المسؤوليّة.

انفجار المرفأ.. والدّولار الطّالبيّ

ونبقى في قضيّة انفجار المرفأ، وبعد تعيين محقّق عدليّ جديد، نعيد الدّعوة إلى الخروج من حالة البطء في التّحقيق، والإسراع في تبيان الأسباب التي أدَّت إلى ما حصل، بعيداً من أيّ اعتبارات أو أيّ ضغوط سياسيّة أعاقت التّحقيق سابقاً، لإزالة خوف أهالي الضّحايا، وطمأنتهم إلى أنّ ما جرى ليس تمييعاً للتحقيق، بل تعزيزاً له، وسيراً نحو العدالة التي يتطلّع إليها اللّبنانيّون بفارغ الصّبر، وحتى لا تتكرّر المأساة مرّة أخرى.

ونبقى مع المماطلة في تأمين الدّولار الطالبي للطلّاب الذين يدرسون في الخارج، لندعو إلى ضرورة حلّ هذا الأمر، وعدم إبقاء الأهالي يتسكّعون على أبواب المصارف دونما نتيجة.

إنّ الدولة بكلّ أجهزتها معنيّة بهؤلاء الطلاب، ولا ينبغي أن يقف الأمر عند أهاليهم، وإذا كان هناك من يتحدّث عن أزمة سيولة تعيق ذلك، فإنّ لهؤلاء الأولويّة على الدّعم الذي يذهب كثير منه إلى كبار التجّار ومن وراءهم.

الحذر من العدوّ

وأخيراً، إنّنا أمام التّهديدات الإسرائيليّة، والتي تكرّرت كثيراً في الآونة الأخيرة، وتلويح مسؤولي العدوّ باستهداف المدنيّين مباشرةً في أيّ عدوان جديد، فإنّنا في الوقت الّذي نشير إلى أن هذا يدخل في إطار حرب الأعصاب وتخويف اللّبنانيّين، ولكن هذا لا يعني عدم الحذر من عدوّ غادر. ولذلك، ندعو اللّبنانيّين إلى مزيد من العمل على تعزيز مناعتهم في مواجهة هذا العدوّ، بتعزيز مواقع القوَّة في البلد، وعدم التّفريط بها وبالوحدة الداخليّة.