واقعة الحرة بداية السقوط الأموي

السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}. صدق الله العظيم.

ما أن انتهت معركة كربلاء حتى أخذت زينب قرارها بأن عليها أن تجمد عاطفتها رغم كل مشاعر الحزن التي كان تعيشها في قلبها على الدماء الغالية التي نزفت في كربلاء لأن الوقت ليس لإبداء العاطفة بل للعمل أولاً، التزاماً منها بوعدها لأخيها عندما قال لها: “إذا أنا مت.. لا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور”..

وثانياً لأنها رأت أن مسؤوليتها أن لا تسمح ليزيد ولا لعبيد الله بن زياد ولا لعمرو بن سعد أن يشعروا بنشوة النصر وأن يحققوا أهدافهم التي كانت تتمثل بدفن ثورة الإمام الحسين(ع) في صحراء كربلاء ومعها الأهداف والشعارات التي لأجلها انطلق الحسين(ع) بثورته ولأجلها استشهد هو وأصحابه وأهل بيته..

كانت ترى أن من واجبها أن تُعرف الناس بما جرى وأن تزيل من أذهانهم كل التشويه الذي عمل له بنو أمية منذ انتهاء المعركة.. وأن تفضح للناس حقيقة يزيد ومشروعه التدميري للإسلام وللمسلمين بمواجهة الدعاية الأموية.. هذا ما فعلته طوال طريق السبي في الكوفة عندما اجتمع الناس إليها أو في مجلس ابن زياد وفي الطريق من الكوفة إلى الشام وفي مجلس يزيد، وبعد أن حطت رحالها في المدينة المنورة..

ولقد استطاعت زينب(ع) أن تحدث تغييراً في كل مكان توجهت فيه أو خطبت..

حتى بلغ تأثيرها أن والي المدينة ضج منها وأرسل إلى يزيد أن زينب بنت علي وأخواتها يؤلبون الناس لمواجهة حكم بني أمية والمدينة سائرة إلى الثورة لا محال إن بقيت، فكتب إليه يأمره بإخراجها من الحجاز وأن يفرّق بينها وبين الناس، وعندما عرض عليها الوالي أمر يزيد بن معاوية قالت له: “قد علم الله ما صار إلينا، قُتِل خَيرُنا، وانسَقنا كما تُساق الأنعام، وحُمِلنا على الأقتاب من بلد إلى بلد، فوالله لا أخرج من حرم جدي”..

وتلاقى دورها مع دور الإمام زين العابدين(ع) الذي عمل على بناء الوعي من خلال دعائه وكلماته وعلى إثارة العاطفة والتذكير بالجريمة التي حصلت في كربلاء كلما سنحت له الفرصة..

وقد أثمرت كل هذه الجهود نقمة على يزيد وعلى الحكم الأموي، لذا حاول تغيير سياسته شكلياً، فعزل واليه الوليد بن عتبة لقساوته، وعين والياً قريباً من أهل المدينة. وطلب يزيد من الوالي أن يرسل له وفداً من زعمائها لاستمالتهم إليه، فذهب الوفد إليه وكان برئاسة عبد الله بن حنظلة والذي كان يسمى بغسيل الملائكة…

وعلى طريقة بني أمية كان يزيد يعتقد أنه بالمال يستطيع أن يكسب قلوب زعماء المدينة وأن يقربهم منه ليسكتوا على جريمته، ولكن خاب ظنه.. فبعدما عاد الوفد من الشام وبعدما رأوا بأم أعينهم الحقيقة، حقيقة يزيد هذه التي أشار إليها الحسين(ع) عندما قال: “يزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثلك”..

عندها قالوا: لقد وجدنا رجلاً لا يعرف الدين ولا الإسلام وليس أهلا لخلافة المسلمين، وإنا نشهد أننا خلعناه فاخلعوه.. وفعلاً قرر أهل المدينة خلع يزيد وإعلان البراءة منه..

كان هذا الكلام إعلاناً من أهل المدينة الثورة على يزيد وعلى الأمويين وأعلنوا خروجهم على حكم يزيد.. فعزلوا والي يزيد على المدينة وحاصروا الأمويين الذين اجتمعوا آنذاك في منزل أحد زعماء بني أمية مروان بن الحكم.. واشترطوا لفك الحصار عنهم أن يغادروا المدينة مسالمين وأن لا ينضموا إلى من يقاتلهم في المستقبل، ولكن هؤلاء نقضوا العهد بمجرد أن خرجوا من تحت الحصار..

وهنا نشير إلى أن مروان بن الحكم هذا الذي كان يقود الأمويين في المدينة لما أراد الخروج من المدينة راح يبحث عمن يضع عنده عائلته، فلم يقبل أن يودعها عنده سوى الإمام زين العابدين(ع)، وكان عدد أفرادها ثلاثمائة نفر.. فقال له: اجعل عيالك مع عيالي، ففعل ذلك.. رغم كل أفعال مروان اتجاه أهل البيت(ع) وكراهيته لهم، فمروان بن الحكم شارك في الحرب على علي(ع) في الجمل وصفين وفي منع الحسين(ع) من دفن أخيه الحسن(ع) إلى جنب جده رسول الله(ص).. وهو من أشار إلى والي المدينة عندما استدعى الإمام الحسين(ع) ليبايع يزيد بقوله له: لا تدعه يخرج حتى يبايع وإلا فاضرب عنقه.. لكن الإمام زين العابدين(ع) ما كان يريد أن يحمل عائلته مسؤولية جرائمه..

وقد أشارت إحدى  بنات مروان بن الحكم إلى مدى الرعاية التي حظوا بها عند الإمام زين العابدين، فقالت: والله لقد وجدنا من الرعاية من الإمام زين العابدين(ع) وتفقده لنا ما لم نجده من أبينا..

لما وصل خبر ثورة أهل المدينة إلى يزيد وخلعهم لواليه وإخراجهم بني أمية منها، أرسل لذلك جيشاً من الشام بقيادة مسلم بن عقبة تجاوز عديده الخمسة عشر ألف فارس.. فهاجموا المدينة واستباحوها لثلاثة أيام، وقد ارتكبوا خلالها أبشع الجرائم واعتدوا على الأعراض والأموال واعملوا القتل في الرجال والنساء والشيوخ.. وقد سقط نتيجة ذلك عدد كبير من الشهداء يذكر المؤرخون أنهم أحد عشر ألف وسبعماية شخص منهم سبعون رجلاً من حفاظ القرآن وثمانون من صحابة رسول الله الأجلاء..

لقد شكلت هذه الواقعة التي سميت بواقعة الحرة، وحدثت بتاريخ 13 من شهر محرم عام 63 للهجرة، أي بعد ثلاثة سنوات من استشهاد الإمام الحسين(ع) استمراراً للنهج الأموي، وأظهرت مجدداً مدى طغيان يزيد وجبروته..

صحيح أن هذه الفاجعة انتهت بهذه الصورة الأليمة، لكنها أكدت على قوة الإرادة والعزيمة التي تجذرت في النفوس بعد كربلاء في مواجهة الحاكم الظالم رغم قلة العدد والقدرات، وهي مهدت لثورات لاحقة هزت أركان الحكم الأموي وأسقطته في نهاية المطاف، وأشارت بذلك إلى الحقيقة القرآنية التي تقول: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}..

الخطبة الثانية

عباد الله عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله سبحانه عندما قال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}..

حذر الله سبحانه وتعالى من أولئك الذين عندما تردهم الأخبار التي تتعلق بالسلم أو الحرب، سرعان ما ينشرونها من دون بحث وتدقيق..

فيما لو رجعوا إلى رسول الله(ص) أو إلى الذين يملكون معرفة حقائق الأمور وخفاياها، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء أو من مواقف تركت تأثيراتها عليهم أو على مجتمعهم.. فالله يريد من المجتمع المؤمن أن يكون متأنياً ومتثبتاً قبل أن يتحدث بأي خبر أو يكتبه، وبذلك يكون أكثر وعياً وقدرة على مواجهة كل من يبث الأخبار الكاذبة أو الإشاعات المغرضة وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان الذي أنهى مئويته الأولى وهي مناسبة تكون عادة لتعداد الإنجازات التي تمت طوال هذا التاريخ وإظهار التميز الذي عبر عنه أبناؤه، ولكن ما يؤسف له أن يأتي الاحتفال بهذه المئوية ولبنان على ما هو عليه من التردي على المستوى الاقتصادي والمالي والاجتماعي ومن الفساد على المستوى الإداري والسياسي ومن الانقسام بين طوائفه ومذاهبه والذي تسبب في كل الكوارث التي يعاني منها اللبنانيون وليس آخرها ما جرى في المرفأ ما جعله مشرعاً على تدخلات الخارج وأرضاً خصبة لطموحاته وصراعاته..

إننا لا نريد لهذه المحطة الزمنية أن تكون مناسبة احتفالية كما يتعامل مع كل محطات الزمن بل مناسبة لإعادة النظر في كل المسار الذي أوصل البلد إلى حال الانهيار هذه، وهو ما لا يكون بإعادة النظر في النظام السياسي فقط كما يتم الحديث الآن عنه، بل بتغيير عقلية الحاكمين الذين عليهم أن لا يحولوا الدولة إلى بقرة حلوب لهم..

إن هناك مسؤولية على اللبنانيين في أن يبقوا هذا البلد رسالة وأنموذجاً يحتذى في قدرة الأديان على التعاون والتكافل فيما بينها، وأن لا يكونوا سبباً في إفشال هذه التجربة الفريدة بتطييف الدين وإفراغه من مضمونه القيمي والأخلاقي وتوظيفه في الصراعات الداخلية والخارجية..

وفي كل هذه الأجواء القاتمة التي يعيشها اللبنانيون جاء تكليف رئيس للحكومة والطروحات التي صدرت بعد ذلك من الرئيس الفرنسي في زيارته الأخيرة للبنان بضرورة الإسراع بتأليف حكومة.. والقيام بإصلاحات وإحداث تغيير في الأداء السياسي والتعامل مع الملفات الكثيرة العالقة والأسلوب الذي قارب فيه الواقع السياسي اللبناني.. كل ذلك يؤشر إلى بداية مرحلة جديدة يأمل اللبنانيون أن تخرجهم من النفق المظلم الذي أدخلتهم فيه المنظومة السياسية القائمة..

ونحن أمام ما جرى نقدر أي جهد لمساعدة لبنان على تجاوز محنه ومعالجة أزماته، وإن كنا واعين جيداً أن للخارج مصالحه، فهو ليس جميعه خيرية، ولا يقدم شيئاً بالمجان.. وهنا نأسف أشد الأسف أن المعالجات لم تأتِ من خلال القوى السياسية التي كان بإمكانها أن تقوم هي بذلك لو تجاوزت قدراً من أنانياتها، ولكانت تجنبت كل الإذلال الذي تعرضت له من الرئيس الفرنسي والإملاءات التي مارسها عليها..

أما الآن وبعدما وضعت الكرة في ملعب القوى السياسية.. فإننا ندعوها إلى الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على القيام بمسؤوليتها سواء لجهة تركيبتها أو لجهة نوعية الوزراء وكفاءاتهم بحيث تراعي الأولويات ومصالح مواطنيها.. فلا يعمل على إفراغها من مضمونها الإصلاحي أو أن تغرق في لعبة المحاصصة أو التناحر بين مكوناتها.

إننا نرى أن الأجواء الدولية الحالية تشكل عاملاً مساعداً للبنانيين، إن لم يكن للحل الكامل، فعلى الأقل للدخول في مرحلة من مراحل التبريد التي قد تقود إلى الحلول.. وهنا لا بد من العمل لقطع الطريق على كل من يعمل للدخول على خط التخريب ممن يضيرهم استقرار البلد، أو بعض المتضررين من الإصلاح أو العاملين لحساباتهم الفئوية ممن قد يعمل لتعطيل أي إصلاح لا يتناسب مع مصالحه وغاياته..

ونبقى في ملف المرفأ لندعو إلى الإسراع في التحقيقات لكشف غموض الملف والذي يخشى في هذا البلد أن لا يقف عند حدود الانفجار وذلك بعد اكتشاف مواد جديدة قابلة للانفجار، كان من الممكن أن تؤدي إلى كارثة جديدة.. فاللبنانيون يخشون أن تميع القضية وأن لا تصل التحقيقات إلى نتيجة..