وحدة الأمة واجب ومسؤولية وعلى العلماء حمايتها

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

الدّين مسؤوليّة لا امتياز

نعيش في هذه الأيّام قضيَّة ملحَّة في ساحاتنا، ملحَّة بالنّسبة إلى أيّ فرد، ويتّسع مداها ليشمل السّاحة الإسلاميّة والعربيّة، وتتعمّق لتطاول الوجدان في الصَّميم، حيث يتصاعد الخوف من فتنةٍ مذهبيّة يُعمل على تأجيجها من الدّاخل والخارج، مستفيدة من اختلافات عقائديّة أو تشريعيّة، أو من وقائع سياسيّة، أو من خلافات على الأرض تُعطى طابعاً مذهبيّاً، ومن تزايد موجات الغلوّ والتطرّف، وبروز منطق تكفيريّ إلغائيّ.

إنّ هذا يقودنا إلى الحديث عن دور العلماء إزاء هذا المشهد المؤلم الّذي نحن فيه، حيث لم يعد خافياً هذا الأثر الكبير الّذي يتركه خطابهم ومواقفهم في واقعنا، وخصوصاً أنّ تطبيق فتاواهم وتبنّي آرائهم، يشكّل بالنّسبة إلى النّاس الّذين يتبعونهم، براءة ذمّة في أيّ تحرّك يقومون به.

فساد الفقهاء خطر على الأمّة

فالصّلاح كلّ الصّلاح إن قام العلماء بدورهم الرياديّ، والخراب كلّ الخراب إن حصل عكس ذلك، وإلى هذا يشير رسول الله(ص): "صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت أمّتي؛ الفقهاء والأمراء".

فكما أنّ الخير يأتي من الأمراء الّذين يعتبرون الإمارة مسؤوليّة لا امتيازاً، كذلك الخير يأتي من الفقهاء الّذين يعتبرون الدّين مسؤوليّة لا امتيازاً ولا سلطة.

وكما أنّ الخطر، كلّ الخطر، في فساد الأمراء والزّعماء عندما يعبثون بمصالح الأمّة ومستقبلها، فالخطر سيكون أكبر عند فساد الفقهاء. وفساد فقهاء الدّين ـ أيّها الأحبّة ـ عبارة مؤلمة ومبكية؛ فهل يُعقل لمن صنّفوا أنفسهم خدماً للدّين، أن يتحرّكوا بعيداً عن الدّين الّذي يمثّلونه، بوحيٍ من مصالحهم أو عصبيّاتهم وانفعالاتهم الّتي لا شكّ تجعلهم يفهمون الأمور فهماً منقوصاً؟! قد يقول قائل إنّ الأمور نسبيّة، وإنّ الحكم على الأمور يختلف من عالمٍ إلى عالم، هذا صحيح إذا كان الأمر اجتهاداً واختلافاً في الفهم، ولكن ماذا عن التصرّف بعيداً عن قيم الدّين؟ ماذا عن حسن الظّنّ والجدال الحسن والدّفع بالّتي هي أحسن… والتثبّت والتأكّد والقول بالعلم لا بالظنّ، والعمل بالسلوكيّات والأخلاقيّات الّتي يأمرون النّاس؟! هنا ـ أيّها الأحبّة ـ مكمن الدّاء، والخطأ الّذي يقع فيه بعض العلماء، وهذا الخطأ لا شكّ سيتحوّل إلى خطيئة بحقّ الدّين والنّاس الّذين يثقون بهم.

أليس هذا هو واقعنا؟ للأسف نعم، رغم كثرة الأحاديث الّتي حذّرت من انحراف العلماء وعدم قيامهم بدورهم، فعن الإمام عليّ(ع): "زلّة العالم كانكسار السّفينة، تغرَق وتُغرق"…"لا زلّة كزلّة العالم".

ومن مكامن دائنا، ما حذّر منه رسول الله(ص): "الفقهاء أمناء الرّسل ما لم يدخلوا الدّنيا ويتبعوا السّلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم". 

ومن مكمن الدّاء أيضاً، أن لا يعمل العالم بعلمه، أو أن يقول ما لا يفعل، وهو ما يحذّرنا الله منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}(الصّفّ: 2-3(.

وورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "من نصّب نفسه للنّاس إماماً، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس ومؤدّبهم".

هذا ومن العلماء من خافهم الرّسول(ص) على أمّته، وها هو الرّسول(ص) يقول: "ويلٌ لأمّتي من علماء السّوء، يتّخذون هذا العلم تجارةً يبيعونها من أمراء زمانهم ربحاً لأنفسهم، لا أربح الله تجارتهم".

الوحدة واجب وحاجة

أيّها الأحبّة: إنّ وحدة الأمّة ليست شعاراً مرحليّاً، ولا معزوفة للتغنّي بها في المهرجانات والمؤتمرات، الوحدة واجب وحاجة، هكذا كانت منذ عهد رسول الله(ص)، وستظلّ كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والله سبحانه يدعونا إليها، وهي دعوة رسول الله الدّائمة لنا، عندما أوصانا: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسّهر".

إنّ العلماء في هذه المرحلة مدعوّون إلى أن يرابطوا أكثر من أيّ وقت مضى لحماية هذه الثّغرة الأساسيّة من ثغور المسلمين، ثغرة الوحدة، هنا تُعرف الإرادات والنّوايا والمقاصد السّليمة؛ إنّهم مدعوّون إلى أن يلعبوا دورهم في إزالة خطوط التماس بين المسلم والمسلم، وعليهم أن يجاهروا حتّى لو سكت كلّ من حولهم، ومهما كلّفهم هذا الموقف، وإلا لماذا ينصّبون أنفسهم حماة الدّين والأدلاء عليه؟ عليهم أن يجاهروا بأن لا عدوّ لهم سوى هذا الاحتلال الّذي يحاصرنا في العقيدة واللّغة والتّاريخ والأرض والهويّة، أن لا يعلو صوت فوق هذا الصّوت الّذي ينبغي أن يكون في المرتبة الأولى. ولهذا مطلوب منهم أن يرفعوا كلمة الوحدة، أن يجاهروا بها، ولا يكون صوتهم خافتاً أو متناقضاً مع ما يقال في الأروقة والجلسات الخاصّة أو مع العرّابين، ونحن على ثقة أنّ هذا الصّوت سيكون الأبقى والأكثر تأثيراً. ألم يُسجّل هذا في تاريخنا، وفي حاضرنا، هنا يحضرني قول عليّ(ع) وهو يتحدّث عن دور العلماء المطلوب: "لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلألْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هـذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز". الفتنة داء ووباء، والوباء لا ينتقي ضحاياه، إذا انطلق من عقاله عمّ، لذلك إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يُظهر علمه، وإلا عليه لعنة الله وملائكته ورسله.

دور العلماء في وأد الفتنة

أيّها الأحبّة: إنّ وباء الفتنة كشّر عن أنيابه، فلماذا نتعامى عن نُذُره، لماذا نختبئ وراء أصابعنا؟

أيّها العلماء، حوّلوا منابركم إلى صلاة من أجل الوحدة، أدخلوا نداءاتها إلى كلّ مسجد، إلى كلّ جامعة ومدرسة ومؤسّسة تربويّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة… إلى شاشات التّلفزة والإذاعات ومواقع التّواصل الاجتماعي وإلى الصّحف، في الشّوارع وفي كلّ موقع يمكن أن يصل فيه موقفنا إلى النّاس، كلّ النّاس… أنزلوا الوحدة من بروجها العاجيّة، كفى أن نتغنّى بها شعارات ونرفعها عناوين لإبراء الذّمّة… ارجموا شياطين الفتنة أينما أطلّوا برؤوسهم.. نريد للوحدة أن تكون عملاً لا مجرّد كلام يُقال. لقد كنّا في السّابق نتحدّث كثيراً عن الإعلام الخارجيّ المضلّل، والمثير للفتن في واقعنا، لكنّ شياطين الفتنة تطلّ برؤوسها اليوم من فضائيّات الدّاخل؛ تشحن النّفوس بالحقد والبغضاء، تؤجّج الانقسامات، ومن مسؤوليّتنا أن نوقف إشعال هذه النّيران، لا أن نصبّ الزّيت على النّار، علينا أن نبدّل قاموس هذا الإعلام، أن نعزّز اللّقاء والتّواصل ومدّ الجسور بما يطلبه الله تعالى منّا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}(الفتح: 29). إنّ نقاط الاختلاف الفقهيّة والعقائديّة والفكريّة والتاريخيّة، تبقى محدودةً أمام نقاط اللّقاء الكثيرة، وهي إن وُجدت، فبالإمكان معالجتها بالحوار، بعيداً من الحساسيّات والهواجس…

تعالوا إلى الكلمة الطيّبة الّتي تجمع، فتاريخنا واحد، ونشرب من النّبع نفسه، وحاضرنا واحد ومستقبلنا واحد، وضعف أيّ موقع إسلاميّ ضعف لبقيّة المواقع، وقوّة أيّ موقع قوّة للمواقع الأخرى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين}(الأنفال: 46).

هذه ليست شعارات، هي حقيقة أكّدها التّاريخ أمس، ويؤكّدها اليوم، وستظلّ طريقنا إلى يوم الدّين، لأنّها طريق الله. إنّ أوّل دروب الوحدة الإسلاميّة هو وحدة علمائها، ونحن أيضاً تقع علينا هذه المسؤوليّة. أمّا نحن ها هنا، الّذين تربّينا بتربية الإسلام، وبنهج الأئمّة(ع)، فإنّ مسؤوليّتنا مضاعفة، نحن الّذين اخترنا الوحدة الإسلاميّة وتربّينا عليها، وكم سمعنا من السيّد(رض)، أنّ الوحدة الإسلاميّة دين، وكم تحمّل(رض) لأجلها وعانى.. إنّ هذه التّربية وهذا الخيار يُعرف ويُختبر عند الامتحان وعند الشّدائد وعند الاستفزاز وعند الشّائعات.. وليكن كلّ منّا وحدويّاً وإطفائيّاً بلغته وردود أفعاله، ولا سيَّما أنّنا بتنا مشرّعين أمام موجة من الإعلام المستفزّ والخطاب الموتِّر الّذي لا يقبل منك إلا أن تقوم، وعلى الفور، بردّ فعل سلبيّ.. حذارِ من أن تكون لغتنا إلا الأحسن مهما فعل الآخرون، وحذار من أن ندع أحداً يأخذنا إلى غير ذلك. لا مكان بيننا للموتّرين، وعلينا أن نتصدّى لهذا الأمر، وأن نضبط هذه اللّغة في بيوتنا وشوارعنا ومؤسّساتنا ونوادينا وأمكنة تواصلنا..

أيّها الأحبّة: لنستعد دوماً كلام رسول الله(ص)، عندما وقف أمام فتنةٍ حاول أن يشعلها يهوديّ في المدينة، هاله أن يرى المسلمين من الأوس والخزرج متحابّين متوادّين، وجاء الرّسول(ص) في اللّحظة المناسبة فقال: "يا معشر المسلمين، أبدعوة الجاهليّة بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهليّة واستنقذكم من الكفر وألّف بين قلوبكم"، ولهذا كانت وصيّته الدّائمة للمسلمين: "المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"، "ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". فهل من يعقل ويستمع لنداء الوحدة والمحبّة والإلفة؟

والحمد لله ربّ العالمين 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، الّتي هي الزّاد في الدّنيا والزّاد في الآخرة، ومن التّقوى أن نكرّم المعلّمين في يومهم الّذي يصادف في التّاسع من شهر آذار، وإن كنّا نريد لهذا التّكريم أن يكون دائماً ومستمرّاً، يُقدّرُ فيه هؤلاء الّذين يبنون الأجيال، والّذين على أكتافهم تُنشأ الحضارات وتُبنى الأمجاد، ومن الجيّد أن نذكر هنا قول الشّاعر الّذي راح يفاضل بين دور أبيه ودور المعلّم، فقال:

أقدِّم أستاذي على  نفس والـدي            وإن نالني من والدي الفضل والشّرف

فذاك مربّي الرّوح والرّوح جوهر              وهذا مربّي الجسم  والجسم صدف

إنَّ مسؤوليَّة المجتمع، كلّ المجتمع، أن يقدّر المعلّمين، أن يقدّرهم ماديّاً ومعنويّاً، أن يجعلهم في المقدّمة، لا أن يكونوا على الهامش، حتّى إنّ البعض يتأسّف لعمله في التّعليم، وهناك من يتهكّم على من يتولّى هذه المهنة.

ومن هنا، ندعو إلى أن يُعطَى المعلّمون حقوقهم، دون أن يجبروا على التسكّع على أبواب المسؤولين ليطالبوا بها، فلهؤلاء حقّ على كلّ مسؤول يتصدّر موقعاً، وكلّهم تتلمذوا على معلّمين، ولا بدّ من أنّهم يعرفون جيّداً معنى أن يكون الإنسان معلّماً، والجهد الّذي يبذله، والأثر الّذي يتركه، وإن لم يُنصف الواقع المعلّمين كما ينبغي، فيكفيهم تكريم الله وإنصافه لهم، عندما قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزّمر: 9].. وتكريم رسول الله(ص) الّذي وصف دور المعلّم بالفعّال: "إنّما بُعثتُ معلّماً"، وقال(ص): "إنّ الله وملائكته، حتّى النّملة في جحرها، وحتّى الحوت في البحر، يصلّون على معلِّم النّاس الخير". "يجيء الرّجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسّحاب الرّكام، أو كالجبال الرّواسي، فيقول: يا ربّ، أنّى لي هذا ولم أعملها؟ فيُقال: هذا علمك الّذي علّمته النّاس، يُعمل به من بعدك". وقال(ص): "ثلاثة لا يستخفّ بهم إلا منافق؛ ذو شيبة في الإسلام، وإمام مقسط، ومعلّم الخير"..

أيّها الأحبّة، إنّ الأمّة الّتي لا تُقدّر منابع القوّة فيها، هي أمّة لن تكون في مقدّمة الأمم، فكيف بالأمّة الّتي تُسقط مواقع القوّة فيها عندما توجَد وتعمل على إضعافها؟!

لبنان: استقالة من المسؤوليّة

هذا ما نعانيه في العالم العربي وفي لبنان، حيث لا يزال اللّبنانيّون يعيشون أجواء التوتّر والقلق من انعكاسات ما يجري حولهم، ولا سيّما في سوريا، أو من خلال ارتفاع وتيرة الخطاب الطّائفيّ والمذهبيّ من قِبَل البعض، أو الحوادث الأمنيّة المتكرّرة الّتي تحدث هنا وهناك، أو الحديث عن تدبيرٍ تجاه اللّبنانيّين في هذا البلد العربيّ أو ذاك، في الوقت الّذي لا يرون حولهم دولة متماسكة يستندون إليها، فالمسؤولون، حتّى في الحكومة الواحدة، منقسمون فيما بينهم في معالجتهم للأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحتّى في الأداء السياسيّ والأمنيّ، وفي الوصول إلى قانونٍ انتخابيٍّ عادلٍ، يُبعد البلد عن السّقوط مجدّداً في مهاوي الطائفيّة، ويؤمّن التّمثيل الصّحيح، فيما القوى الأمنيّة تخضع للتّقاسم الطّائفيّ، ولا يملك الجيش حريّة الحركة الّتي تضمن الاستقرار لإنسان هذا البلد، فضلاً عن التّداخلات الدّوليّة والإقليميّة الّتي تستفيد من هذا الانقسام، لتمارس الضّغط على هذا الفريق أو ذاك.

إنّ هذا الواقع بكلّ تداعياته، ينبغي أن يكون دافعاً للجميع، موالاةً ومعارضة، وكلّ المواقع المسؤولة، للعمل سويّاً بكلّ جديّة لإخراج إنسان هذا البلد من خوفه ويأسه ومعاناته، بدلاً من سياسة الانتظار أو التّراشق والاتهامات، الّتي يضع من خلالها كلّ طرف الحقّ على الآخر في حاضره وماضيه.. فليلتق الجميع على إيجاد الحلول الفضلى لبناء وطن ينبغي ألا يبقى تجمّعاً لطوائف ومذاهب وأحزاب، لا يجمعها الهمّ الواحد، ولا حتّى مواجهة التحدّيات المشتركة…

وفي الوقت نفسه، فإنَّنا نعيد التّأكيد على الحكومة، ألا تستقيل من مسؤوليَّاتها الّتي لا تزال تحملها، لإيجاد مخرجٍ مشرّفٍ لسلسلة الرّتب والرّواتب، وغيرها من المطالب المحقّة للموظّفين والأساتذة، ولمنع التّمادي في الخطاب المذهبيّ والطّائفيّ من أيّ موقع، وحلّ الملفّات العالقة بين يديها، وأبرزها الملفّ الأمنيّ، في الوقت الّذي نعيد التّأكيد على اللّبنانيّين، أن لا ينجرّوا إلى الخطاب الطّائفيّ والشّحن المذهبيّ، وأن يمنعوا العبث بأمنهم الدّاخليّ، من خلال دخولهم على خطّ ما يجري حولهم، مما ينعكس سلباً عليهم.

التّدمير الممنهج لسوريا

وفي موازاة ذلك، يبقى الهمّ الكبير هو ما يحدث في سوريا، بالنّظر إلى المآسي الكبرى الّتي يعانيها هذا البلد على مستوى الدّولة والمؤسَّسات والجيش، وعلى مستوى بنيته التحتيّة، والتَّدمير لكلّ ما بُني في سنوات طِوال، والّذي بات سياسةً لدى الدّول الكبرى الّتي يهمّها تدمير هذا البلد لحساب العدّو الصّهيونيّ واستقراره.

ومن هنا، فإنّنا نعيد التّأكيد على كلّ مكوّنات الشعب السوريّ، العودة إلى لغة الحوار، حتّى لو أدّى ذلك إلى تنازلات كبرى من هنا وهناك، فهو السّبيل الأسلم لإيقاف هذا المسلسل الدّامي والتّدمير المستمرّ، وعدم الوقوع في قبضة الدّول الكبرى، الّتي لن تقدّم أيّ مساعدات لسواد عيون السوريّين أو العرب والخليجيّين، إلا إذا كانت لحساب مصالحها واستراتيجيّتها في المنطقة، الّتي لا يغيب الكيان الصّهيوني عنها.

وفي الوقت نفسه، ندعو العالم العربيّ الّذي كنّا ننتظر منه أن يكون أكثر رحمةً ورأفة بالرّوابط العربيّة والإسلاميّة الّتي تجمعه بسوريا، إلى أن يتحرّك سريعاً لإنقاذ هذا البلد، وتسريع فرص الحوار فيه، بدلاً من صبّ الزّيت على ناره كما يحصل الآن.

وكم كنّا نتمنى من الجامعة العربيّة أن تصغي إلى الصّوت الوحيد الّذي انطلق منها ليدعو إلى حوار تقوم به من داخلها، ولا تُبقي هذا البلد أسير حوار أمريكيّ روسيّ، أو أوروبيّ أمريكيّ، أو في مهبِّ الرِّياح.

عودة العلاقات بين مصر والعراق

وفي هذا الوقت, فإنّنا، وأمام استمرار الانقسامات والأحداث الدّامية في مصر، لا نرى مخرجاً للأزمة فيها إلا بتوافق المصريّين وجلوسهم إلى طاولة حوار تُبحث فيها كلّ القضايا الخلافيّة، لإنقاذ بلدهم من واقعه المتردّي اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.

وفي هذا المجال، ننظر بكثيرٍ من الأمل إلى عودة الدّفء إلى العلاقات بين مصر والعراق، وخصوصاً في زيارة رئيس الحكومة المصريّة إلى العراق، وما رافقها من توافقٍ على التّعاون في كثيرٍ من المجالات، ونرى فيها خطوة إيجابيّة لعلاقات عربيّة وإسلاميّة، ولتعاونٍ نريده بين الدّول العربيّة والإسلاميّة كافّةً، في مواجهة التحدّيات الكبرى الّتي تواجه هذا العالم في داخله، أو تلك الآتية من الخارج.

البحرين: لمتابعة الحوار

ونصل إلى البحرين، الّذي نريد للحوار الجدّيّ والمنتج أن يستمرّ فيه، ونعتبر أنّ الحكومة معنيّة أكثر من غيرها بإخراج البلد من معاناته، من خلال النّظر بعين التّساوي إلى كلّ مواطنيها، وإزالة هواجسهم ومعاناتهم المستمرّة، كما ندعو المعارضة إلى متابعة هذا الحوار بصبر وأناة، كونه السّبيل الوحيد لإعادة البحرين إلى دوره الرّياديّ والفاعل.

مجزرة بئر العبد: الإرهاب الأمريكيّ

وأخيراً، نلتقي في هذا اليوم بذكرى مجزرة بئر العبد، الّتي حدثت في الثّامن من آذار من العام 1985، هذه المجزرة الّتي حصدت حوالى مئة شهيد وأكثر من مئتي جريح، والّتي مثّلت أعلى ممارسات الإرهاب الأمريكي، للنّيل من الشخصيّة الرّمز الّتي كانت عنصر الإلهام والجذب للواقع الإسلامي كلّه، ولكلّ طلاّب الحريّة في لبنان والمنطقة، والّتي شكّلت سدّاً منيعاً في وجه كلّ مخطّطات الكيان الصّهيوني والاستكبار العالمي، وسنداً قويّاً للمقاومة في لبنان، وهي سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض).

لقد أراد صانعو هذه المجزرة والمتورّطون فيها، إسكات صوت الحقّ، واغتيال الشخصيّة الرّمز الّتي ظنّوا أنّ قتلها سيؤدّي إلى الإجهاز على القضيّة وإسقاط المقاومة، ولكنّهم مكروا ومكر الله، وانطلقت المقاومة في مسارٍ أقوى وأفعل، وانتصر البلد.. ولكنّ أعداء لبنان وأعداء الأمّة لا يزالون يكيدون ويعملون لأكثر من مجزرة، في عناوين سياسيّة وفتن طائفيّة ومذهبيّة، يُراد للّبنانيّين أن يكونوا وقودها وحطبها المشتعل.

ومن هنا، على اللّبنانيّين أن يكونوا واعين جيّداً ليفرّقوا بين الأعداء والأصدقاء، وبين من يريد بهم خيراً ومن يريد تمرير مشاريعه من خلالهم.

إنَّنا أمام هذه الذّكرى، ندعو الجميع إلى أن يستلهموا روح السيّد(رض)، الّذي كان رمزاً للوحدة الإسلاميّة والوحدة الداخليّة، وكان جسراً للحوار، وصلة وصل في خطّ التّفاهم والانفتاح، ولنعمل جميعاً على صنع لبنان الواحد الموحّد، بعيداً عن كلّ المآسي والأزمات والفتن والويلات، ولنحصّن البلد من كلّ الّذين لا يريدون لهذه الرّوح أن تنمو وتستمرّ وتمتدّ.

التاريخ: 26 ربيع الثّاني 1434 هـ  الموافق: 08/03/2013 م

Leave A Reply