وعدُ الله بنصرِ المؤمنينَ مرهونٌ بتوفيرِ شروطِه

قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}. صدق الله العظيم.

الوعدُ بالنَّصرِ بشروطِه

أشار الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إلى حقيقة أراد للمؤمنين أن لا يغفلوا عنها، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى لن يدعهم وحدهم في مواجهة أعدائهم، ممن يريدون الإساءة إلى عزتهم وكرامتهم أو سلب أرضهم وثرواتهم، بل سيكون لهم في ذلك مؤيِّداً وناصراً ومعيناً؛ يثبّت أقدامهم، ويشدّ من عزائمهم، ويسدِّد رميتهم، ويقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وجعل ذلك حقّاً عليه، عندما قال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال في آية أخرى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.

ويشهد على ذلك الانتصارات الّتي تحقَّقت طوال التاريخ الماضي على يد الرسل والأنبياء ومن اتبعهم، عندما واجهتهم التحديات والضغوط، وشنَّت عليهم الحروب رغم قلّة عددهم وعتادهم، في مقابل القوَّة التي كانت لدى أعدائهم، وقد أشار إليها الله سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.

لكنَّ الوعد الإلهي بالنصر جعله الله عزَّ وجلَّ مرهوناً بتوفير شروطه، ونحن اليوم معنيون بتوفيرها، لنحظى بهذا المدد الإلهي والتأييد في معاركنا الَّتي نخوضها مع قوى الاستكبار العالمي والمستبدّين المحليين.

كسبُ رضا الله

الشَّرط الأوّل: هو أن يكون هدفهم في أيِّ صراع يدخلون فيه مع أعدائهم هو كسب رضا الله وحده، وهذا يحصل بتحقيق الأهداف التي يريدها الله عزّ وجلّ في الحياة والَّتي دعا عباده إليها، وهي رفع الظّلم عن المستضعفين، وتحقيق العدل، وردّ عدوان المعتدين، وتحرير الأرض، وإزالة العقبات التي تقف حائلاً أمام الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وهو سبحانه حدَّدها بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.

وقد وعد الله من يفعل ذلك عن نيَّة خالصة له بالتَّأييد والتَّسديد والنَّصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.

فيما نجد الهزيمة حصلت للمسلمين عندما دخل حبّ الدنيا على قلوبهم وكسب المغانم منها، كالَّذي جرى في معركة أحد، عندما ترك بعض صحابة رسول الله (ص) موقعهم رغبةً في الحصول على الغنائم، رغم تحذيره لهم بأن لا يغادروا مواقعهم مهما كانت نتيجة المعركة، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ}.

الاستعدادُ للتَّضحية

الشَّرط الثَّاني: هو الاستعداد للتَّضحية بالغالي والنَّفيس في سبيل الله، والصَّبر على الآلام والمعاناة التي قد تستدعيها ظروف المعركة، وعدم السقوط أمام تهاويل العدوّ الإعلاميَّة، أو ضخامة قوَّته، أو الإغراءات الماليَّة، أو حجم التضحيات الَّتي تحصل أثناء المعركة، فالانتصار لا يمكن أن يتحقَّق بدون تضحيات.

ومن هنا، كانت دعوته إلى الجهاد في سبيل الله وتشجيعه عليه، عندما قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}، وهو دعا من أجل ذلك إلى أن يقترن الجهاد بالصَّبر، فقال عزَّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}.

وفي الحديث: “وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ”.

وقد أشار الله سبحانه إلى ما يؤدِّي إليه الصَّبر، كما في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

وقال في معركة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، ووعد الله في ذلك ما قاله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

وهو ما عبَّر عنه المسلمون في معركة بدر، عندما رأوا ضخامة عدد المشركين وعتادهم في بدر، فهم لم ينهزموا، بل قالوا: “يا رسول الله، امض لما أراك الله، إنَّا لو خضت بنا البحر لخضناه معك, إنَّا لا نقول لك كما قال قوم موسى له (ع) اذهب أنت وربّك فقاتلا، ولكنَّنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك”.

ذكرُ اللهِ في المعركة

الشَّرط الثَّالث: هو أن لا ينسى المؤمنون ذكر الله في أثناء المعركة، ما يوفِّر شروط النصر والفلاح، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ عند وعده، عندما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وهذا ما دعا إليه الله سبحانه عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

وقد ورد في الحديث: “إذا لقيتم عدوّكم في الحرب، فأقلّوا الكلام، وأكثروا ذكر الله”.

الإعدادُ الكافي للمعركة

الشَّرط الرَّابع: الإعداد الكافي للمعركة، فالنَّصر لا يتحقَّق بدون الإعداد له، وذلك بتوفير ما يمكن من الطَّاقات البشريَّة والقدرات الماليَّة، ودراسة كافية للظروف السياسيَّة والمواكبة الإعلاميَّة، وتوفير الأسلحة المناسبة والتقنيات اللازمة والاحتياطات الضرورية، والقيادة الحكيمة الَّتي تمتلك مؤهّلات التخطيط لإدارة المعركة والتحكم بها.

ومن هنا، قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

وهنا نشير إلى أنَّ الله سبحانه دعاهم إلى أن يحشدوا كلَّ ما يستطيعون بلوغه من أدوات وإمكانات في المواجهة، ولم يقل كلّ القوّة، ليتكفَّل هو سبحانه، إن أخلصوا له، بتعويض ما لم يستطيعوا توفيره من القوَّة الكافية.

ومن هنا، نراه قد نصر المسلمين في بدر رغم قلَّة عددهم وعتادهم، عندما رأى لديهم العزيمة للقتال، والاستعداد لبذل التضحيات، والخطَّة الحكيمة، وعوَّض نقصهم، ومن هنا الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}.

الابتعادُ عن العُجب

الشرط الخامس: أن لا يدخل إليهم داء العجب والزهو بالنفس، فالعجب هو مدخل للهزيمة، لأنه يدعو إلى الاستهتار بخطط العدوّ وقدراته، وهذا ما حصل للمسلمين في معركة حنين، فكان أن تعرَّضوا لهزيمة منكرة كادت تودي بكلِّ الإنجازات السابقة، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}.

ولذا، كان رسول الله (ص) ينبّه المجاهدين بعد عودتهم من الجهاد، بقوله: “عدتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم الجهاد الأكبر”، بما يعيد تطهير نفوسهم من العجب والزَّهو والتكبّر وغير ذلك من الخصال السيِّئة.

التَّواضعُ للهِ

ويبقى شرط أخير أشار إليه الله سبحانه وتعالى، فيه ضمان استمرار النَّصر بعد تأمينه، وورد في قوله تعالى في سورة النَّصر، عندما قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.

فلا بدَّ بعد النَّصر من تعظيم الله والتَّواضع له وشكره وتسبيحه واستغفاره الدائم، لأنَّه لا يتمّ النَّصر إلَّا به ومن خلاله واستغفاره، وأن ينعكس عملاً على الأرض، وذلك في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.

توحيدُ الصّفوفِ لبلوغِ النَّصر

أيُّها الأحبّة، نحن أحوج ما نكون إلى بلوغ النَّصر في هذه الظروف التي نواجه فيها التحدّيات ممن يريدون العبث بأمننا وثرواتنا وقيمنا، وهذا ما يستوجب منا التَّخطيط وإعداد القوَّة وسدّ منافذ الضّعف والهزيمة، ما يتطلَّب منا العمل على توحيد الصّفوف وتعزيز الجهود، وتقديم العام على الخاصّ، وعند كلّ ذلك، يتحقَّق وعد الله المؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله الَّتي هي خير الزاد لنا، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.

والتقوى هي أن لا تقدِّم رجلاً ولا تؤخِّر أخرى، ولا نطلق كلمة، ولا نتَّخذ موقفاً، أن لا نؤيِّد ولا نعارض، أن لا نحبّ وأن لا نبغض، إلا بعد أن نعلم أنَّ في ذلك لله رضا.

التقوى أن لا يجدك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك. فالله يريد أن يراك في المواقع الَّتي يريد لك أن تكون فيها، وأن تبتعد عن كلّ المواقع التي نهاك عنها، فأنت يجب أن تقف حيث يكون العدل، وحيث يكون الإصلاح، وحيث العلم والعمل الصَّالح، وحيث الجهاد في سبيله، وفي مواجهة الظلم والفساد والانحراف والمنكر.

وبذلك نبلغ ما وعد الله به المتَّقين في الآخرة، بأن {الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر}…

وما وعدهم في الدنيا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.

وبذلك نحقِّق خير الدنيا والآخرة، ونكون أكثر مسؤوليَّة وقدرة على مواجهة التحديات.

ذكرى الانتصار

والبداية من الذكرى الثَّالثة والعشرين لعيد المقاومة والتحرير الَّذي نستعيد فيه مشهد الانتصار الذي تحقَّق للبنانيين في الخامس والعشرين من شهر أيَّار العام 2000، ذلك اليوم الَّذي خرج فيه العدوّ الصهيوني صاغراً ذليلاً خائفاً، يجرّ معه أذيال الخيبة والخذلان، بعدما أذاقه المقاومون مرارة الهزيمة التي لم يكن قد ذاقها من قبل، وأظهر حقيقة جيشه الَّذي كان ينعت بأنَّه جيش لا يقهر، في مقابل مشاهد العزّ والفخار التي عاشها اللبنانيون جميعاً وأشعرهم بمدى قوَّتهم.

ونحن إنما نحيي هذه المناسبة العزيزة، فلنستعيد هذه البطولات والتضحيات الجسام التي قدِّمت ممن جاهدوا واستشهدوا وسجنوا وصبروا، لننعش ذاكرتنا بها حتى لا ننسى، ولنعبِّر عن اعتزازنا بكل هؤلاء الذين صنعوا لهذا الوطن مجده، هذا المجد الذي كتب ناصعاً على صفحات تاريخهم، ورسَّخوا به من خلال مقاومتهم موقعاً أساسياً من مواقع القوَّة لديهم، والتي تنضمّ إلى قوة الجيش اللبناني، والتي تمثّل سنداً ودعامةً له لا بديلاً منه، والتي ندعو اللبنانيين إلى عدم التفريط بها، والاستفادة منها، وتعزيزها في مواجهة عدوّ لا يزال يحتلّ بعض أرضهم، ويشكِّل دائماً تهديداً لبلدهم، ثأراً لهزيمته، وطمعاً في أرضه ومياهه وثرواته، ولأنَّه يراه في صيغته نقيضاً له، فهو ينتظر ضعفه حتى ينقضّ عليه، وتشهد على ذلك مناوراته التي لم تتوقّف، والتي يحاكي فيها كيفية الدخول إلى قرى ومدن لبنانيَّة، وإن كانت قوَّة اللبنانيّين قادرة على ردعه وتحقيق النَّصر عليه مجدَّداً.

إنَّ على اللبنانيين أن يعتزوا بأن هناك في هذا البلد من لا يزال يفكِّر بالليل والنهار في كيفية مواجهة هذا العدوّ، ويقدم التضحيات من أجل مراكمة قدراته وإمكانياته، ليكون في مستوى قدرات هذا العدوّ وإمكاناته، ويستعدّ حتى للدخول إلى حيث مواقعه، إن هو أراد استباحة قرى هذا الوطن ومدنه، وفكر أن يغزوه مجدَّداً كما كان يغزوه سابقاً ويصل إلى المكان الذي يريده.

خطرٌ يهدِّدُ الإنجازات

ونحن في الوقت الذي نستعيد مشاهد القوَّة والعزة للّبنانيّين، نرى مشهداً في الداخل اللبناني من مشاهد الإذلال لهم، والذي يخشى من تداعياته على قوَّة هذا البلد، إن هو استمرَّ على حاله ولم تتمّ معالجته، وقد تطيح بكلِّ ما تحقَّق من إنجازات، حيث يستمرّ الترهّل والانقسام على الصعيد السياسيّ، والذي بات يعيق أيّ معالجات ينتظرها اللبنانيون على الصعيد المعيشي والحياتي ترفع عنهم ما يعانون، بعدما وصل البلد إلى ما وصل إليه، والذي يخشى أن يتفاقم.

إنَّ من المؤسف أن نرى القوى السياسيَّة لا تزال على مواقفها، تتبادل الاتهامات بالتعطيل على صعيد انتخاب رئيس للجمهوريَّة، كلٌّ يضع اللَّوم في ذلك على الآخر، ولا يريد أيّ منها أن يتقدَّم خطوة باتجاه الآخرين لضمان هذا الاستحقاق، للوصول إلى صيغة توافق تضمن الوصول إليه، ما يجعل البلد رهينة انتظار ما يجري في الخارج الَّذي يبدو أنه قرَّر أن يضع الكرة في ملعب اللبنانيين، ودعاهم إلى أن يتدبروا أمرهم، وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على القوى السياسية أن تتحمَّل مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية في الإسراع بإنجاز الاستحقاق، والذي هو دعامة الوصول إلى الاستحقاقات الأخرى، للحؤول دون حصول تداعيات خطيرة على الصعيد المالي أو الاستقرار الأمني، ولا سيما في ظل تهديدات العدوّ المتواصلة.

مسؤوليّةُ القضاءِ اللّبنانيّ

وبالانتقال إلى الأحكام القضائيَّة التي صدرت من أكثر من بلد أوروبي، والَّتي تشير بإصبع الاتهام إلى أعلى المواقع الماليَّة في الدولة اللبنانيَّة، ما يلقي بها في دائرة الشبهة، ويسيء إلى سمعتها، وقد يؤدّي إلى إيقاف التعامل مع مصارفها.

ونحن هنا ندعو مجدَّداً الحكومة اللبنانية إلى القيام بما هو مطلوب منها، واتخاذ القرار الذي يعيد للمؤسَّسات المالية مصداقيتها، بدلاً من التلكّؤ الذي شهدناه على هذا الصَّعيد، والذي يوحي بأنَّ هناك من يريد التغطية على هذه الاتهامات.

ونحن في الوقت نفسه، ندعو القضاء اللبناني إلى الإمساك بقوَّة بهذا الملفّ الَّذي كنا دعونا سابقاً إلى الإمساك به، ليعرف الشَّعب اللبناني حقيقة ما يجري في المصرف المركزي والمصارف اللبنانيَّة، وأيّ تغطية أعطيت لهم، بما جعل البلد يصل إلى ما وصل إليه، وما جعل أموال المودعين تضيع، على أن يكون القضاء هو المرجع، وذلك بعيداً من التدخلات السياسية وغير السياسية.

إنَّ من المؤسف أن نرى القضاء الدولي يتدخَّل لكشف مواقع الفساد، فيما لا يزال القضاء اللّبناني مكفوف اليد ولا يتحرك إلا بحدود، ليبقى من أساؤوا الأمانة وقوَّضوا صورة البلد أحراراً، بل في طليعة المدَّعين للإصلاح.

العدوُّ يستبيحُ الأقصى

ونتوقَّف أخيراً عند الاستباحة الأخيرة للمسجد الأقصى، والَّتي قام بها وزير الأمن الإسرائيلي، واجتماع الحكومة الصهيونيَّة في أنفاق المسجد الأقصى، ما يشكِّل تهديداً لهذا المسجد، واستفزازاً لمشاعر المسلمين، وهو ما يتطلَّب من الشعوب العربية والإسلامية وكلّ أحرار العالم، اتخاذ موقف موحَّد في مواجهة ما يهدف إليه العدوّ من فرض السَّيطرة على المسجد، وإشعاره بأنّ هذا خطّ أحمر لن يسمح بالمسّ به أبداً.

ونحن هنا نحيّي صمود الشعب الفلسطيني ومواجهته لهذه التهدّيدات، وندعو إلى دعمه بكلّ الوسائل، وإشعار العدوّ عربياً وإسلامياً باحتضان جهاده وصموده ومقاومته، وأنه ليس وحيداً في مواجهة هذا العدوّ.

***