ولو على أنفسكم

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

   ورد في السيرة النبويّة، أنّ امرأة من بني مخزوم سرقت حليّاً، وبنو مخزوم كانوا من القبائل العربيّة العريقة في قريش، وعندما رُفِع الأمر إلى رسول الله(ص)، أصدر حكمه بإقامة الحدّ عليها، أسوةً ببقيّة المسلمين. عندها، بدأت الوساطة ليتراجع رسول الله عن الحكم، ويغضّ البصر عن هذه الجريمة، مراعاةً لموقعيّة هذه المرأة وموقعيّة قومها. وكبر الموضوع، وانزعج رسول الله من هذه المحاولة للالتفاف على الحكم الشّرعيّ، ولذلك، لم يكتف بالرّفض، بل اعتبر أنّ الأمر يجب أن يُعلن، فذهب إلى مسجده، وهناك دعا النّاس، ثم وقف خطيباً قائلاً: "أيّها المسلمون، إنما أهلَكَ من كان قبلكم أنّهم كانوا اذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ"… ثم قال: "وأيم الله، ووالله وتالله وبالله، لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

العدالة لا تعرف الاستثناءات

بهذا الحسم، وبهذا الوضوح، أراد رسول الله لهذه الحادثة أن تكون أول درس عمليّ للمسلمين أجمع، بأنّ العدالة لا تفرّق بين شريف ووضيع، بين غنيّ وفقير، وبين صديق وعدوّ، ولا حتى بين كافر ومؤمن… العدالة هي العدالة، تدلّ على نفسها، ولا يمكن أن نطيّعها أو أن نخضعها لأيّ معايير أو نميّعها، هي عالم قائم بذاته ..

كيف لا، وهدف الأديان والأنبياء كلّهم هو إقامة العدل والقسط: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

وأكثر من هذا، فالله سبحانه وتعالى عندما قدّم نفسه لعباده، قدّم نفسه على أنّه القائم بالقسط: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

أمّا الإسلام، فهو دين تحقيق العدل بامتياز، والآيات القرآنيّة الّتي ذكرت العدل كثيرة، والملفت أنّ الدّعوة إلى إقامة العدل والقسط في معظم الآيات جاءت بصيغة فعل الأمر المباشر: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}[الأعراف: 29]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْل}[النساء: 58]، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ}[المائدة: 42]، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}[المائدة: 8]، {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}[الرّحمن: 9].

وغيرها من الآيات الّتي إن طُبّقت، جعلت من المجتمع الإسلاميّ نموذجاً لمجتمع العدل والإنصاف، وبالتّالي مجتمع الإنسانيّة الحقّة.

كنوزنا الّتي لا نعرف قيمتها

ولكن مع الأسف، نقرأ هذه الآيات، نجوّدها ونحفظها، ولكنّنا لا ندخلها إلى واقعنا، فيما الآخرون يجدون فيها كنوزاً. ويستحضرني هنا كلام الإمام عليّ(ع): "الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم".

وهنا أشير إلى أنّ إحدى آيات العدل، وهي الآية 135 من سورة النّساء، وضعت في كلية القانون في أشهر الجامعات الأمريكيّة، جامعة "هارفارد"، واصفةً إيّاها بأنّها أعظم عبارات العدالة في العالم والتّاريخ.

هذا وقد نُقشت الآية الكريمة بالإنكليزية على الحائط المقابل للمدخل الرّئيس للكليّة، والآية تمثّل مدرسةً وفلسفةً وبوصلةً ومقياساً ومعياراً للأفراد والمجتمعات:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

إنَّ النّداء، في هذه الآية، للّذين آمنوا عموماً، له دلالة كبيرة، في أنَّ العدل لا يُجتزأ، فكما هو مطلوب في الحكم والسّلطة، هو أيضاً مطلوب ليكون مناخاً يعاش ويتغلغل في الحياة اليوميّة لكلّ النّاس، لا ينفصل عنها.

ودلالة أخرى لهذه الآية، هي أنّه في موضوع العدل، قد لا تكون الشّطارة في أن تحكم بهذا الأمر لأناسٍ لا يمتّون إليك بصلة أو بقضيّة لا تعنيك، ولا رابط عاطفيّاً بينك وبينهم، إنما امتحان قدرتك على العدل، هو عندما تَقْترب المسافة أكثر بين من تحكم بينهم، الشّطارة هي عندما يصل الأمر إليك وإلى مصالحك…

باختصار، هذه الآية تشدّد على هذا المفصل: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}، وإيمانك بهذه الآية، يعني قبولك بالنّقد والانتقاد، وهذا يعني أن لا أحد فوق المساءلة والمحاسبة.

أيضاً في هذه الآية العظيمة، يحذّر الله من المطبّ الآخر الّذي يقع فيه الإنسان، وهو مطبّ الأهل والأقربين، ذلك لأنَّ الله، وهو العالم، يعرف كم للجانب العاطفيّ والانفعاليّ من تأثير، وكيف يطغى ويعمي القلب، وهذا له في مجتمعاتنا الكثير الكثير من الأمثلة، ولعلّه السّبب الرّئيس لعدم تحقّق العدالة، وهو ما يمكن أن يدفع من هم في موقع المسؤوليّة إلى أن ينحدروا  ويُعتبروا من الظّالمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النّساء: 135].

نماذج فاقعة

ومثل هذا، وبكلّ بساطة، هو أن تعتبر أنَّ قريبك أحقّ بالوظيفة من غيره، فقط لأنَّه قريبك،  وبعض الأشخاص يعتبرون أنَّ من صلاحيَّاتهم أن يأتوا بأقاربهم إلى المؤسَّسات والإدارات العامّة الّتي يتحمّلون هم مسؤوليّتها، متجاوزين كلّ الأنظمة السّائدة، من اختبارات عادلة أو من تقييم…

والأمر لا يتوقَّف هنا، بل يستمرّ مسلسل عدم العدل، بأن يتمّ تغطية فلان وفلان، لأنّه مقرّب من المدير أو المسؤول، حتّى إنَّ خطأه يغتفر ويتمّ تجاوزه… لهذا نحن ندعو إلى الشفافيّة ثم الشفافيّة، لأنَّ من لا شفافيّة في ملفّاته أو في ملفّات من هم تحت جناحيه، يعني أنّه قد يكون ممّن يلجأ إلى التّمييز والتّفضيل، وبالتّالي لَيّ عنق القانون والأنظمة والأحكام، والله في هذه الآية يقول: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النّساء: 135]. وفي يومنا هذا، يتقن الكثيرون ـ للأسف ـ ليّ القوانين إلى حدّ كسرها وجعلها واجهةً من دون مضمون.

همسة لكلّ مسؤول

لهذا نناشد الجميع، ومن هم في مواقع المسؤوليّة، أن يضعوا هذه الآية نصب أعينهم، وفي مؤسّساتهم، وأمام كلّ من لديه صلاحيّات، كي تذكّرهم بالعدل. ونقول للجميع: كونوا تحت القانون لا فوقه، لا تقبلوا أن تمرّ أيّ حالة استثنائيّة كالخطّ العسكريّ، فهي خلاف العدل. مع العدل لا خطّ عسكريّاً، إنّما هناك خطّ مدنيّ يتساوى في عبوره الجميع، وكلٌّ حسب إمكاناته وما قسمه الله له.

إنّ من يريد أن ينجح ويفلح ويظلّ سجلّه نظيفاً عند الله، أكان حاكماً أم إنساناً عاديّاً، وفي أيّ موقعٍ من مواقع الحياة، فمعيار النّجاح هو القسط، هو العدل، وإلى هذا أشارت الأحاديث عن الإمام عليّ(ع): "العدل أساس به قوام العالم"، "بالعدل تتضاعف البركات"، "إعدل تحكم"، "إعدل تملك"، "ما عمرت البلدان بمثل العدل"…

لذلك، أيّها الأحبّة، لندخل قيمة العدل إلى كلّ ساحاتنا، والعدل لا يمكن أن يتجزّأ، وهو يبدأ من العدل في النّظرة، في الكلمة، في التّشجيع، والعدل في المكافآت، وفي إعطاء الفرص، والعدل في التّقييم، ولا سيّما في المدرسة بين الطلاب…

ولكلّ أب وأمّ

وأخيراً، فإنّ العدل أكثر ما هو مطلوب في البيت وبين الأولاد، فمن الطبيعيّ عندما نعامل أولادنا بغير عدل، سيصبحون في المستقبل ظالمين. وموضوع عدل الوالدين واسع ومتشعّب ودقيق، ويحتاج إلى أن نخصّص له خطبةً بحالها.

أيّها الأحبّة… الحياة لا يمكن أن تهنأ بالظّلم، ولا يمكن أن تستقرّ وأن تتطوّر بالظّلم، مهما كان صغيراً أو كبيراً، فالظّلم بشع وينغّص الحياة. ومن هنا ورد الحديث: "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظّلم".

ليكن العدل عنواننا، نحيا به، وعلى أساسه ننعم بنعيم الدّنيا ونعيم الآخرة، حيث لن يدخل جنّته إلا العادلون، وحيث ننال محبّته، وهو القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة: 42].

{وَفِي ذَ?لِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطفّفين: 26].

والحمد لله ربّ العالمين. 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، التّقوى الّتي تدعونا إلى الوحدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 102-105].

قمّة مصر: لتأكيد الوحدة

هذه هي الرّوح الّتي أردناها ونريدها أن تكون طابع المسلمين في علاقاتهم فيما بينهم، لنقدّم من خلالها صورة الإسلام الحقيقيّة؛ إسلام الحقّ والعدل، إسلام الوحدة لا إسلام التّفرقة والاختلاف..

وهذه الرّوح هي ما أردنا أن تعيشه اجتماعات منظّمة التعاون الإسلامي على مستوى القمّة الّتي انعقدت في مصر، في وقتٍ أحوج ما تكون الدّول الإسلاميّة إلى التّعاون والتّلاقي والتّكاتف. لقد كنّا نأمل من هذا المؤتمر الّذي ضمّ بلداناً تملك مخزوناً كبيراً من القدرات والإمكانات البشريّة والاقتصاديّة والماليّة والاستراتيجيّة، فضلاً عن الفكريّة والثقافيّة، أن يكون على مستوى طموحات الشّعوب وآمالها، بحيث يعمل في هذه المرحلة على مواجهة القضايا والتحدّيات الّتي تواجه الإسلام والمسلمين.

كما أنّنا نأمل أن يعبّر المؤتمر عن وحدة إسلاميّة، بحيث لا نشهد بعد اليوم استفراداً بدولة إسلامية من قبل أعدائها، ولا معاناة اقتصاديّة لبلد إسلامي، من دون أن يهبّ الجميع لمساعدته وإخراجه من محنته، ولا حروباً مباشرة وغير مباشرة بين هذه الدّول، ولا خوفاً من فتنة طائفيّة أو مذهبيّة.

إنّنا في هذه المرحلة الصّعبة الّتي تعاني منها البلدان الإسلاميّة على مختلف الصّعد، لا نحتاج إلى بيانات وتصريحات، بل إلى لقاءات جادّة لمعالجة كلّ الملفّات المطروحة.

لقاءات دوليّة مطلوبة

ومن هنا، نظرنا بإيجابيّة إلى إعادة الحرارة إلى العلاقات بين مصر وإيران، لما يمثّله هذان البلدان على المستوى العربي والإسلامي، وهو ما نأمل أن يمتدّ إلى بلدان أخرى.

كذلك، فإنّنا ننظر بإيجابيّة إلى اللّقاء الّذي تمّ بين مصر وتركيا وإيران، والّذي نأمل أن يتوسّع ليشمل السعوديّة وبلداناً أخرى، لإخراج سوريا من نزيفها المستمرّ، وحتّى لا تبقى أسيرةً لسياسات الدّول الكبرى الّتي يبدو أنّها تركت هذا البلد رهن الاستنزاف الدّاخليّ الّذي يهدّد كلّ مواقع القوّة فيه.

كما ننظر بإيجابيّة إلى اللّقاء الّذي تمّ بين رئيس جمهوريّة إيران الإسلاميّة وشيخ الأزهر، في جوٍّ من الصّراحة التامّة، والّذي نتمنّى أن يكون مقدّمةً للقاءات مستمرّة تسهم في إزالة الكثير من الأوهام، ومعالجة كلّ المشكلات الّتي تؤدّي إلى توتّر وانقسام في السّاحة الإسلاميّة.

ولقد كنّا ـ وما زلنا ـ نتطلّع إلى دور رياديّ للأزهر في التّخفيف من الاحتقان الّذي تشهده السّاحة الإسلاميّة، وأن يبقى مكاناً جامعاً يلتقي فيه كلّ المسلمين. ومن هنا، فإنّنا ندعو إلى لقاءٍ إسلامي ـ إسلامي موسّع، لتدارس ما تمّ الحديث عنه من تمدّدٍ لهذا المذهب أو ذاك في ساحة المذاهب الأخرى، أو الإساءة إلى صحابة رسول الله وأمّهات المؤمنين، أو الحديث عن تعرّض هذا المذهب للضّغوط في هذا البلد أو ذاك، فلنناقش كلّ هذه القضايا بكلّ موضوعيّة وهدوء.

وفي الوقت الّذي نعيد تأكيد ما أشرنا إليه سابقاً، وهو أنَّ المشكلة لدى المسلمين ليست في تمدّد هذا المذهب أو ذاك، أو تدخّل هذا البلد الإسلاميّ أو ذاك.. فإنّنا لا نرضى بالإساءة إلى وحدة المسلمين وتماسكهم بأيّ حال من الأحوال، ولكنّنا نرى أنّ المشكلة هي من أولئك الّذين يعملون على إدخال الكفر والانحراف إلى واقعنا.. ومن أولئك الّذين يعملون على نهب ثروات الأمّة، وممن يهدّدون وحدتها وكلّ مواقع القوّة فيها، ويعملون على تخويف المسلمين بعضهم من بعض، لأجل تثبيت قواعدهم العسكريّة في بلداننا، وعقد صفقات السّلاح الكبرى الّتي يشترطون فيها عدم استخدام هذا السّلاح في مواجهة كيان العدوّ.

الحوار طريق الحلّ

ولذلك، فإنّنا نعيد التأكيد على أهميّة الحوار الداخلي الجادّ في الداخل المصريّ، فلا يستمرّ الاهتزاز الداخليّ الذي يكاد يذهب بمنجزات الثّورة، ويستهدف التّجربة الجديدة التي نريدها أن تنجح في هذا البلد، كما نريد ذلك في تونس، بعد التوتّر الّذي نجم عن اغتيال أحد قادة المعارضة واتّهام الإسلاميّين بقتله، ونريد للحوار في سوريا أن ينطلق، وأن يشارك فيه الجميع، هذا البلد الّذي أرهقه نزيف الدّم، وأدمته حالات النزوح والتشرّد، بعدما كان الشّعب عزيزاً في أرضه وكريماً في بلاده.

وبالتّالي، فإنّنا نشدّ على أيدي كلّ الّذين يدعون إلى الحوار من المعارضة والموالاة، ونأمل أن يمدّوا أيديهم إلى بعضهم البعض، اليوم قبل الغد، حفظاً لشعبهم وقوّة بلدهم، وردّاً على الّذين يريدون لهذا البلد أن يعود مئات السّنين إلى الوراء، كما نريد للعراق أن يسير في خطّ الحوار، هذا البلد الّذي بدأ الانقسام يزحف إلى داخله، من خلال حديث عن صوملة له أو تقسيم، أو عن جيش هنا أو هناك يحمل طابعاً مذهبيّاً.

ونريد للحوار الجادّ والموضوعيّ أن ينطلق في البحرين، فلا يقف عند حدود الإعلان، ولا يكون مادّةً جديدةً للاستهلاك، أو مجرّد مبادرة سياسيّة تُبقي هذا البلد في إطار المراوحة والانتظار، ريثما تنضج بعض الظّروف السياسيّة الداخليّة في البحرين أو المنطقة.

حماية القضيّة الفلسطينيّة

ونعود إلى فلسطين، الّتي كنّا نأمل من منظّمة التعاون الإسلامي الّتي وجدت أساساً لأجلها، أن تأخذ الحيّز الأكبر من اهتمامها، فلا تطرح هذه القضيّة من الجانب المالي والاقتصادي، بل من باب التّفكير في استراتيجيّة إسلاميّة لحماية هذه القضيّة من الكيان الصّهيونيّ الّذي يستفيد من كلّ هذا الواقع، ليثبّت احتلاله لفلسطين وللأقصى، ويواصل تهويده للقدس، وإزالة المعالم الإسلاميّة والمسيحيّة فيها.

لبنان: الحفاظ على السّلم

أمّا لبنان، فنأمل أن يكون قد تجاوز الكمين السياسيّ والأمنيّ الذي نُصب له، وخصوصاً في تطوّرات الحادث المؤلم في عرسال، وتداعياته الّتي لم تطاول المؤسّسة العسكرية وحدها، بل كادت تطاول السّلم الأهليّ في الصّميم.

ولعلّ الخطورة الكبرى تكمن في الخطاب الّذي انطلق به البعض بعد هذا الحادث، والّذي اتّجه به خلافاً للمعطيات الواقعيّة والموضوعيّة، نحو المسألة الطائفيّة أو المذهبيّة، ما كاد يدفع بالبلد نحو مزيدٍ من الانخراط في تفاصيل الأزمة السوريّة وتشعّباتها.

إنّنا نتطلّع إلى جميع المؤثّرين في السّاحة البقاعيّة بخاصّة، واللّبنانيّة بعامّة، أن يكونوا إطفائيّين، وأن يعملوا على بلسمة الجراح بدلاً من نكئها، بالمبادرة الجامعة والكلمة الطيّبة، وأن يتحرّكوا من منطلق رئيس عنوانه الحفاظ على الجيش، كونه الرّاعي الأساس لمسيرة السّلم الأهليّ الّتي نريدها ألا تتعرّض لأيّة انتكاسة، كما نريد لدماء اللّبنانيّين أن لا تحفظ، وأن لا تسقط إلا في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ.

إنّنا ندعو إلى معالجة هذه القضيّة بهدوء وموضوعيّة وجديّة وحكمة، بحيث يواجه كلٌّ مسؤوليّته أمام ما حصل.

وعلى الدّولة ألا تدفعها هذه الحادثة المؤلمة إلى الهروب من واجباتها تجاه النّاس، سواء ما يتّصل بأمنهم أو بمتطلّباتهم الاجتماعيّة، أكانوا من المعلّمين أم الموظّفين والعمّال وغيرهم.

أمّا القانون الانتخابيّ الّذي لا يزال رهين المشاكل والتّعقيدات الداخليّة والأوضاع المحيطة، فنأمل أن يصل المعنيّون إلى حلّ لأزمته، ينطلق من الداخل وبصيغة لبنانيّة جامعة، لا أن نبقى في دوّامة الهمسات الآتية من الخارج، أو أن يبقى الرّهان على تبدّل موازين القوى في هذا المحور أو ذاك.. تعالوا إلى الحسابات الوطنيّة الجامعة، بعيداً عن كلّ الاعتبارات والحسابات

التاريخ: 27 ربيع الأوّل 1434 هـ  الموافق: 08/02/2013 م

Leave A Reply