السيّدة الزّهراء (ع): رمز الطُّهر وقدوةُ المرأة المسلمة

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. صدق الله العظيم.

تكريم الزّهراء (ع)

مرَّت علينا في العشرين من شهر جمادى الثَّانية ذكرى الولادة المباركة للصّدّيقة الطَّاهرة فاطمة الزّهراء (ع) سيّدة نساء العالمين، والّتي بلغت من الشَّأن والموقع عند الله أن كانت من أولئك الّذين أذهب الله عزَّ وجلَّ عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرًا، والتّي حظيت بتكريم رسول الله (ص) لها، عندما قال عنها: “فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَمَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي، ومَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، فاطمة قلبي وروحي الَّتي بين جنبيَّ”.

وقد ورد عن عائشة زوجة رسول الله (ص) أنّها قالت: ما رأيتُ أحدًا أحبّ إلى رسول اللَّهِ (ص) من فاطمةَ”، فقد كانت إذا دخلت عليه، أخذ بيدها وقبّلها وأجلسها جانبه، وإذا رجع من غزو وسفر، كان يصلّي ركعتين شكرًا لله على رجوعه سالمـًا من سفره، ثمَّ يأتي بيت فاطمة (ع).

ومن الطّبيعيّ القول إنّ هذا التّكريم وكلّ هذا الثّناء لم ينطلق من بعد عاطفيّ، فرسول الله (ص) كما قال الله عزَّ وجلَّ عنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، بل للصّفات الّتي تحلّت بها السّيّدة الزّهراء (ع)، والدَّور الّذي قامت به في كلّ مراحل حياتها، والّتي استحقّت معه أن يقول عنها رسول الله (ص): “فاطمة سيّدة نساء العالمين”، وهو ما تجلّى في بنوَّتها ورعايتها لأبيها رسول الله (ص) الّتي دعته أن يقول عنها “فاطمة أمّ أبيها”، وفي عبادتها لله عزّ وجلّ، فقد عبدت الله، حتّى إنّها لكثرة عبادتها تورّمت قدماها، وفيما وصلت إليه من العلم، ما جعلها مقصدًا لطالبي العلم من الرّجال والنّساء، وفي أنّها كانت الزّوجة الّتي ساندت زوجها أمير المؤمنين (ع) وكانت له عونًا وظهيرًا، وبَنَتْ بيتًا ملؤه المودّة والرّحمة والسّكينة والتّعاون، حتّى جعلت عليًّا (ع) يقول عنها: “كنت إذا نظرت إليها، انجلت عنّي الهموم والأحزان”.

المرأة الرّساليّة

وكانت (ع) مثالًا كبيرًا للأمومة الصَّالحة، فقد كانت الأمّ الّتي جعلت تربيتها لأولادها من أولويَّات اهتماماتها لا على هامشها، فبنت وربّت وأعدّت أبناء كانوا وما يزالون نماذج قدوة في الخلق والعبادة والحلم والصَّبر والجهاد والشّهادة والتَّضحية.

وكانت عونًا للفقراء والمساكين والأيتام، بابها مفتوح لهم، لا تغادر البسمة وجهها، حتّى في أشدّ الظّروف صعوبةً.

وفيها وفي أهل بيتها (ع) نزلت الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.

في ميادين الجهاد

ولم يقف دورها عند ذلك، بل كانت حاضرة في ميادين الجهاد، تخرج مع أبيها رسول الله (ص) وزوجها عليّ (ع) لتضمّد الجراح، وتسند المجاهدين، وتشدّ أزرهم، وتقوّي من عزيمتهم، وصوتًا صارخًا بالحقّ، وفي الحرص على حفظ الإسلام نقيًّا صافيًا، لم تسكت عن الانحراف الّذي بدأ يدبّ في مفاصل الأمَّة بعد وفاة رسول الله (ص) في إبعاد عليّ (ع) عن الخلافة ومنعها من حقّها في فدك، فوقفت في مسجد المدينة تخطب في الجموع لتردّ على ما حدث لإصلاحه، وتحدّثت عن ذلك مع نساء المهاجرين والأنصار ومع رجالهنّ، فقدَّمت أنموذجًا للمرأة الحاضرة في الميدان الرّساليّ وفي الميدان العامّ.

ردّ على منطق الجاهليَّة

لكنَّ هناك أمراً آخر أراده رسول الله (ص) من هذا التَّكريم للزّهراء (ع) والاحتفال بها، وهو أن يرى المسلمون الصّورة الّتي ينبغي أن يُربّوا بناتهم وفقها، والرّدّ بذلك عمليًّا على المنطق الجاهليّ الّذي كان لا يرى للبنت أيّ دور أو حضور أو كيان، لا لأنّها في مفهومه على هامش المجتمع فحسب، بل كانت مصدر تشاؤم عند ولادتها، وهو ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

ومع الأسف، لا تزال هذه الأفكار والمعتقدات الخاطئة في بعض واقعنا، فلا نزال نرى من لا يخفي استياءه وانزعاجه وغضبه عندما تولد له فتاة، أو يبدي اهتمامه بالولد الذّكر أكثر من اهتمامه بالبنت، وينعكس بعد ذلك على أسلوب التّربية من حيث النَّظرة إلى الثّواب والعقاب، فنجد جرم الصّبيّ مغفورًا، فيما لا يُغفَر جرم البنت، وكم يوجد من يلتفّ على النَّصّ القرآنيّ الصّريح بحقّ البنات في الميراث، فيحرمهنّ من حقّهنّ في الإرث، فيتمّ توزيع الإرث قبل الموت أو عبر وصيّة، وإن أعطيت، فهي تعطى الفتات.

تكامل الأدوار

وهو ما نجده في الميدان، حيث لا يزال حضورها خجولًا، ولا يشير إلى مشاركة فعَّالة للمرأة فيه فيما هي أكَّدت حضورها ودورها في الكثير من المواقع الّتي شاركت فيها.

فالإسلام في كلّ تشريعاته وتوجيهاته وتربيته، حرص على إعادة الاعتبار لدور المرأة عندما دعا إلى تكريم الفتاة، وهذا ما عبّر عنه رسول الله (ص) عندما قال: “من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربّاها فأحسن تربيتها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ولم يفضّل ولده الذَّكر عليها، كانت له سترًا ووقايةً من النّار”، وكان (ص) دائمًا يقول لأصحابه: “اعدِلُوا بَين أولادِكُم في النِّحَل”، ويقصد الذّكور والإناث.

وأكثر من هذا، دعا إلى التَّعاون والتَّكافل بين الرّجل والمرأة في كلّ الشّؤون، فلا تمييز في الأدوار والمسؤوليّات في كلّ مواقع الحياة ومتطلّباتها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

وهو في العمل، لم يرد أن يكون أجر المرأة أقلّ من أجر الرّجل، ما داما يعملان العمل نفسه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}.

وإذا كان البعض يتذرّع بوجود تمييز بين الذّكر والأنثى، من قول الله سبحانه: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، فهذا لم ينطلق من تمييز، بل يعود إلى المسؤوليّات الإضافيّة الّتي جعلت على عاتق الذّكر، والّتي تفرض حصّة له مضاعفة، أو في أنّ شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرّجل، فهذا ليس تمييزًا، بل احتياطًا للعدالة، خشية عليها، لما أودع فيها من عاطفة هي أكثر من عاطفة الرّجل، واحتياطًا من أن تترك أيّ تأثير فيها…

من الذّكرى.. إلى الاقتداء

أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نريد لذكرى ولادة الصّدّيقة الطَّاهرة السّيّدة الزَّهراء (ع)، والَّذي هو يوم المرأة المسلمة، أن يكون مناسبة نقدّم فيه من خلالها صورة المرأة المسلمة، في مواجهة من ينعت الإسلام بأنّه همّش دورها وأساء إلى حضورها بالقيود الّتي قيّدها بها…

ونحن هنا نستهدي في ذلك ما بلغته السّيّدة الزّهراء (ع)، ونستلهم من موقعها الكبير في المجتمع، كلّ المعاني والقيم الّتي عبّرت عنها في حياتها، وما نعمت به من طهر وصفاء ونقاء وأصالة وحضور، حتّى لا يقتصر حضورها فينا على عاطفة أو دمعة، بل أن تحضر في كلّ ما حملته من علم وقيم ودور كبير في المجتمع…

وبذلك يكون حبّنا للزّهراء حبًّا لله ولرسوله، حبًّا جهاديًّا ورساليًّا، وليس حبًّا عاطفيًّا فحسب، وبذلك تبقى الزّهراء حاضرةً في العقل والقلب والوجدان، وعلى مدى الزّمن.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة رسول الله (ص) الّتي أشار بها إلى السّيّدة الزّهراء (ع)، وفيها: “ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو يسكت.. إنَّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش الضّنين (شديد البخل).. إنَّ الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنَّة، وإنَّ الفحش من البذاء، والبذاء في النَّار”.

إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نستهدي هذه الكلمات الّتي تساهم افي التّخفيف من نزاعاتنا وتوتّراتنا، وأن نحسّن أداءنا وحضورنا، ونكون أقوى على مواجهة التّحديات.

التَّهديد المستمرّ للبنان

والبداية من الاعتداءات الإسرائيليّة المتواصلة، والّتي تمثّلت في الغارات الّتي جرت في بعض المناطق الجنوبيّة، والتّفجيرات الّتي استهدفت عددًا من المباني في القرى الحدوديّة… والّتي واكبها العدوّ بمناورات جرت في مزارع شبعا وجبل الشّيخ، فيما لم تتوقَّف التّهديدات الإسرائيليّة بحرب قريبة على لبنان، إن لم يقم بما عليه ممّا يريده الكيان الصّهيونيّ من هذا البلد.

ويأتي استمرار العدوان والتّهديدات رغم الإيجابيّة الّتي أبداها لبنان برفع مستوى التّفاوض، واختيار مدنيّ في اللّجنة المكلّفة بتطبيق القرار المتعلّق باتّفاق وقف إطلاق النَّار، ما يشير إلى أنّ التّفاوض الّذي يريده هذا العدوّ لا يعني إيقاف التَّصعيد، بل هو يريده أن يكون تحت النَّار، وهذا ما جاء بشكل واضح على لسان السَّفير الأميركيّ في لبنان، عندما قال: إنّ التّفاوض مع الدّولة اللّبنانيّة لا يدعو الكيان الصّهيونيّ إلى إيقاف عمليّاته العسكريّة في لبنان، وأنّ الأمرين منفصلان… ما يعني أنّ هذا العدوّ سيستمرّ في اعتداءاته ولن يتوقّف، وإذا كان من تفاوض، فهو يريد من خلاله أن يحقّق الأهداف الّتي يريدها، والّتي ينبغي أن لا تكون غائبة عن الدّولة اللّبنانيّة وعن اللّبنانيّين، وهو إن لم يحصل عليها بالتَّفاوض، فسيعمل للحصول عليها بالتّصعيد العسكريّ، وهذه الأهداف لا تقف عند حدود مطالبة لبنان بسحب سلاح المقاومة في جنوب اللّيطانيّ وشماله، كما قد يتصوّر البعض في هذا الوطن، بل هو يريد ما هو أبعد من ذلك، باستكمال ما بدأ يعمل له في الجنوب السّوريّ وفي غزّة، إن بإنشاء المنطقة العازلة ذات البعد الأمنيّ والاقتصاديّ، والّتي لم يحدّد حدودها، أو بالتّمتّع بحريّة الحركة داخل الأراضي اللّبنانيّة، وقد يريد فرض شروط أخرى.

الحذر من أهدافِ العدوّ

من هنا، كانت دعوتنا إلى الدّولة اللّبنانيّة أن تعي أهداف العدوّ، وأن لا ترى أنّ خيار توسعة المفاوضات يحقّق للدّولة اللّبنانيّة مطالبها، ويؤدّي إلى إنهاء اعتداءات هذا العدوّ واحتلاله لأراضي لبنانيّة واستعادة أسراه، فالعدوّ يريد أن يأخذ ولن يعطي، لأنّه يرى أنَّ ميزان القوى لمصلحته.

إنّنا لا نريد من ذلك أن نهوّن من حجم الضّغوط الّتي تمارس على لبنان بفعل القدرات الّتي يمتلكها هذا العدوّ، والتّغطية الدّوليّة الّتي يحظى بها، والّتي تسمح له بأن يفعل ما يريد ومن دون رقيب أو حسيب، لكن هذا لا يدعو إلى الاستسلام والتّسليم بشروطه، بل إلى استنفار لبنان لقدراته، واستخدام كلّ الإمكانات والوسائل الدّبلوماسيّة المتاحة لديه لاستعادة حقوقه، مستفيدًا من تنفيذه لكلّ بنود الاتّفاق، ما يحسّن من موقعه التّفاوضي.

إنّنا أكّدنا سابقًا، ونؤكّد اليوم، أنّ لبنان ليس بالضّعف الّذي يدعوه إلى التّسليم بشروط العدوّ والمزيد من التّنازلات الّتي يراد منه تقديمها، فقد أثبتت وقائع التّاريخ أنَّ اللّبنانيّين قادرون على تجاوز الكثير من التّحديات واستعادة أرضهم، إن هم وحَّدوا جهودهم، وشعروا بمسؤوليّتهم تجاه هذا الوطن، وتكتّلت قواهم لأجله.

إنّ على اللّبنانيّين أن يعوا أنّهم في مرحلة حسّاسة سوف تحدّد مصير هذا الوطن في وجوده ووحدته وحريّته واستقلاله. ومن هنا، فإنّنا ندعوهم إلى أن يتجاوزوا خلافاتهم وحساسيّاتهم ومصالحهم الشّخصيّة والفئويّة والسّياسيّة، والّتي – مع الأسف – تتصاعد يومًا بعد يوم، وأن يتهيّأوا، ومن موقع المسؤوليّة، لتأمين كلّ الوسائل والإمكانات الّتي تقي هذا البلد ممّا قد يعانيه لإخراجه من هذا النَّفق المظلم الّذي دخل فيه.

ضمانة حقوق المودعين

ونبقى في الدّاخل لنحذّر من أيّ حلول تجري لحلّ الفجوة الماليّة، أو لأزمة المصارف على حساب أموال المودعين الَّذين من حقّهم أن تعاد إليهم أموالهم الَّتي لدى المصارف كاملة، بعدما أودعوها أمانة عندهم، والدَّولة معنيَّة بأن تكون ضامنة لحقوق مواطنيها وأن لا تفرّط فيها.

غزَّة والضّفَّة تحت العدوان

وأخيرًا، نعود إلى فلسطين، حيث يستمرّ العدوان على الشّعب الفلسطينيّ وعلى الضّفّة الغربيّة، في الاستباحة الّتي تجري لمدنها وقراها، وتوسيع الاستيطان حولها، أو ممّا يجري في غزّة الّتي لم يلتزم العدوّ فيها بوقف إطلاق النّار، موقعًا المزيد من الشّهداء من المدنيّين، فيما لم تؤمَّن للنّاس وسائل الحماية والسّكن مع عودة الشّتاء والفيضانات الّتي باتت تغمر غزّة والخيام فيها.

إنّنا أمام ذلك، نجدّد دعوتنا الدّول الرّاعية للاتّفاق، أن تفي للشّعب الفلسطينيّ ما وعدت به، فيما ندعو الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى الوفاء بالتزاماتها حيال هذا الشّعب وقضيّته، وعدم السّماح للعدوّ بالاستفراد به، ومنع المزيد من الضّغط عليه والاستهانة بحقوقه.

***