المجتمع المؤمن محكوم بالتواصل والتراحم

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}.

صدق الله العظيم

 

إن من أهم الأهداف التي سعى إليها الإسلام هو خلق تماسك داخل المجتمع المؤمن وتقويته من الداخل وتفادي أو احتواء أي توترات أو مشاحنات تهدد استقراره وتضعف قدرته على مواجهة التحديات..

 

ونحن عندما نتحدث عن المجتمع المؤمن، فإننا نتحدث عن مجتمع تتنوع فيه الآراء والأفكار والتوجهات والاجتهادات.

وهو لذلك دعا إلى أن العلاقة بين المؤمنين ينبغي أن تحكمها مشاعر وتعبيرات الأخوة.. فقال سبحانه وبلسان التأكيد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}..

 

وقد أوضح رسول الله(ص) مسار هذه العلاقة عندما قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر".. وقال(ص): "المؤمن للمؤمن كالنبيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً".. وبما ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه جاء إليه رجل راح يحسن الثناء على المؤمنين وأنهم يتعاملون كإخوة، فقال له أريد أن أسألك سؤالاً: "أيمدُّ أحدكم يده إلى جيب أخيه فيأخذ منها ما يشاء فيدعه؟ قال: لا، فقال: كيف تقولون إنكم إخوة"..

 

وقد جاءت الآيات والأحاديث لتحصن هذا المجتمع من أية توترات قد يحدثها الكلام المتوتر والانفعال أو ردود فعل خاطئة وغير مدروسة فدعت إلى أن تكون لغة الخطاب بين المؤمنين بالكلمة الأحسن وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}.. وإذا حصل أن صدرت من أحدهم كلمة نابية أو تصرف يسيء فيه إلى الآخر، فلا ينبغي أن يبادل بالمثل بل بالأحسن، فقال عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}..

 

وهي حثت على التواصل والتباذل والتزاور والتحاب، فقد ورد في الحديث: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ.."..

وقد ورد في الحديث: "للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عزّ وجلّ عليه : الإجلال له في عينه، والودّ له في صدره، والمواساة له في ماله، وأن يحرّم غيبته، وأن يعوده في مرضه، وأن يشيّع جنازته، وأن لا يقول فيه بعد موته إلاّ خيراً"..

 

وفي الوقت نفسه هي دعت إلى أن لا يسيء المؤمن للمؤمن الآخر، فقد ورد في الحديث: "المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشُّه ولا يعده عدة فيخلفه"..

 

وهي نهت عن التجسس والغيبة والنميمة والسخرية والتنابز بالألقاب والكذب، وحذرت عما يوتر هذه العلاقة بين المؤمنين..

 

وحذرت من النميمة والأخذ بالأخبار من دون تدقيق حيث ورد عن رسول الله(ص): "ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال(ص): المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة".. وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}..

 

لكن مع كل هذه التوجيهات ستبقى تحدث في المجتمع المؤمن توترات وعداوات، إما نتيجة أخطاء أو انفعالات أو سوء تعامل أو عدم حسن إدارة الاختلافات في الرأي وفي السياسة أو الدين أو في الشأن الاجتماعي أو العملي، مما قد يؤدي إلى التنازع والتباعد والقطيعة، وهو ما نعاني منه في واقعنا.

 

وهنا لم يترك الإسلام هذه الاختلافات والتنافر تعبث بالمجتمع المؤمن وتؤدي إلى القطيعة والتباعد بين أفراده سواء أكانوا أباً أو أماً أو أخاً أو زوجة أو عاملاً أو رب عمل أو مسؤول أو صديق، فقد حثت الآيات القرآنية إلى عدم التفرق والتنازع عندما قال: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا}، وقال: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..}.. وحتى يتحقق ذلك دعت الأحاديث إلى قيمة نريد اليوم أن نطل عليها ونجعلها قاعدة لحياتنا وهي عدم الهجران والتقاطع عند الاختلاف أي اختلاف، بأن يكون المبدأ هو التواصل والتلاقي والسعي بعد ذلك لإيجاد حل سواء أكان الحل شرعياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو عائلياً..

 

فالقطيعة والهجران هي غالبا ما تؤدي إلى استحكام العداء في النفوس، وتذكي نارها.. وهذا ما ورد في حديث رسول الله(ص) مع أبي ذر عندما قال له: "يا أبا ذر، إياك وهجران أخيك، فإن العمل لا يتقبل مع الهجران.."، "هجر المسلم كسفك دمه"..

 

وورد في الحديث: "تعرض الأعمال على الله سبحانه في كل اثنين وخميس، فيغفر الله عزَّ وجل في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرؤٌ كانت بينه وبين أخيه شحناءٌ فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا"..

 

وفي حديث آخر: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن"..

 

وحيث كان الإسلام واقعياً، فقد أخذ في الحسبان أن تؤدي الانفعالات والتوترات إلى حد يصعب معه اللقاء والتواصل مباشرة، بل قد يكون في الافتراق حكمة حتى تبرد الأعصاب وتهدأ الانفعالات ويعود كلٌّ إلى عقله ليزن الأمور بميزان آخر غير ميزان الانفعال والتوتر..

 

ولكنه مع هذا لم يترك زمن هذا الافتراق مفتوحاً وبدون تحديد زمن له، فالهجران حدد في الأحاديث بثلاثة أيام، بعدها لا بد من العودة إلى التواصل لإيجاد الحل أو التوافق على آلية الحل، حتى لو اقتضى ذلك التغاضي عن بعض ما يراه الإنسان حقوقاً له، ولا ينبغي أن يفسر ذلك كما نفسره بالتنازل لأنه بين المؤمنين لا تنازل، التنازل هنا وفي المفهوم الإسلامي يحمل معنى آخر وهو الرحمة والتي قال عنها الله عندما تحدث عن المجتمع المؤمن {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}..

 

فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ"..

 

وقد بين رسول الله(ص) الآلية لذلك، فقال: "لا يحلّ لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرّت به ثلاث فليلقَه فليسلّم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه السلام فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّم من الهجرة"..

 

وفي حديث عن الباقر(ع): "ما من مؤمنين إهتجرا فوق ثلاث إلاّ وبرئت منهما في الثالثة فقيل له يا بن رسول الله: هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال(ع): ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول أنا الظالم حتى يصطلحا"..

 

إذن المبدأ الذي يحكم المجتمع الإسلامي هو التواصل والتلاقي والتراحم والتباذل، هو ما عزز تماسك المجتمع الإسلامي في السابق وحوله من مجتمع متناحر متقاتل إل مجتمع موحد متكاتف، بنى حضارة لا يزال العالم يستفيد من عطاءاتها، ولكن عندما نتحدث عن المجتمع المؤمن فهذا لا يعني أننا ندعو إلى الانغلاق على المجتمعات الأخرى التي يختلف معها في الدين أو المذهب أو الحضارة، فالإسلام دين مد الجسور ودين التواصل بين الأديان والشعوب والحضارات..

 

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

 

لكن هذا الحث على التواصل والنهي عن الهجران لا يعني أنه بدون استثناءات حيث دعا الإسلام إلى قطع هذا التواصل إن أدى إلى الإخلال بدين الإنسان المؤمن أو إلى تشجيع من يتم التواصل معهم على الظلم والعدوان والانحراف أو عندما يكون العلاج بالهجران والمقاطعة، بحيث تشكل عنصراً رادعاً لاستعادة هؤلاء إلى جادة الصلاح والصواب، وإلى هذا أشار الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.. حيث دعا إلى عدم الجلوس مع من يسيئون إلى ذكر الله عز وجل لعدم التأثر بهم.. وفي آية أخرى دعا للإعراض عن المسيئين لآيات الله لردعهم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}..

 

وفي السيرة النبوية ما يشير أيضاً إلى هذا الموقف، حين دعا رسول الله إلى مقاطعة أولئك الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من دون عذر شرعي، جزاء على ما فعلوه، وردعاً للآخرين عن القيام بمثله.. ولم تفك المقاطعة إلا بعد توبة صادقة قبلها الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}..

 

لكن يبقى كل هذا استثناء، فيما القاعدة أن نفتح قلوبنا وعقولنا على الآخرين، فالحياة لا تبنى ولا تستمر بالتقاطع والهجران والتحاقد والقسوة، هي تحتاج دائماً بالتواصل والتباذل والتراحم والمحبة..

 

ولذلك كان التنديد من الله سبحانه كبيراً بكل من يعمل على قطع الروابط التي توحد بين المؤمنين وخلق العداوات بينهم وتوعدهم بقوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}..

 

نسأل الله سبحانه أن لا نكون منهم وأن نكون رغم الاختلاف الذي نشهده في حياتنا والذي هو من طبيعة الحياة من المتواصلين والمتباذلين والمتزاورين والمتلاقين على الخير والهدى وكلمة التقوى يا أرحم الراحمين..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة أمير المؤمنين (ع) التي يقول فيها: "احذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدّوا له عدّته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها! ومن أقرب إلى النار من عاملها.. إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم.. فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرّها شديد، وعذابها جديد.. إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله، وأن يحسن ظنّكم به، فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنما يكون حسن ظنّه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظناً بالله أشدّهم خوفاً لله..".

 

إنَّنا أحوج ما نكون إلى هذه الوصيَّة، وإلى تذكّر الموت، لا لنموت قبل موتنا، بل لنستيقظ من غفلتنا، ولنستعدّ لما هو قادم إلينا، مما لا ينبغي أن نراه بعيداً، فما بعد الموت إلا الجنة والنار، وحتى نحسب حساباً لكلّ كلمة نقولها، وكلّ خطوة نخطوها، وكلّ مسار نسير به، وكلّ تأييد ورفض.

 

ومتى حسبنا ذلك، سنكون أكثر وعياً ومسؤوليةً، وأكثر قدرةً على مواجهة التحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي بدأت القوى السياسية فيه تستعدّ لإعداد لوائحها ومرشحيها للانتخابات النيابية القادمة، حيث الهاجس لكلِّ فريق سياسي هو كيفيَّة الحفاظ على المكتسبات السياسية التي وصل إليها على الأقل، أو تقليل الخسائر منها في ظل القانون الجديد، ليكون فاعلاً في خياراته وفي الاستحقاقات التي تنتظر البلد.

 

ونحن في هذا المجال، دعونا ونعيد دعوة القوى السياسيَّة التي تملك حضوراً شعبياً، ويتطلّع الناس إليها لاتخاذ خيارهم الانتخابيّ، إلى أن يكونوا أمناء على هذه الثقة الَّتي أعطيت لهم، بأن يحسنوا اختيار مرشّحيهم للانتخابات، وأن يعبّروا في ذلك عن إرادة جمهورهم الَّذي أعطاهم قياده، بعد أن أصبح واضحاً أنَّ الاختيار سيتمّ على أساس لوائح كاملة، لا حريّة فيها للمواطنين بأن يأخذوا أسماء من هذه اللائحة وأخرى من تلك اللائحة.

 

إنَّ اللبنانيين يتطلَّعون إلى أن يكون الاختيار للأمناء، نظيفي الكفّ، الذين يشهد لهم تاريخهم بذلك، القادرين على القيام بالمسؤوليَّة التي تسند إليهم، فمن يتسلّم موقعاً نيابياً، لا بدَّ من أن يمتلك المقومات الأساسية للعمل الذي يقوم به المجلس النيابي، وهو التشريع، والوعي السياسي، والمواصفات الشخصية من الحنكة والحكمة في التعامل مع ما يطرح في اللجان أو في الندوات البرلمانية أو في الواقع العام، وأن يكونوا معبّرين عن إرادة المواطنين الذين يمثّلونهم.

 

ونحن هنا، لا نحتاج إلى التذكير بأنَّ الذين يدخلون إلى المجلس النيابيّ لا يمثلون فقط الجهات السياسية التي أمّنت وصولهم إليه، بل عليهم أن يعبّروا عن مصالح كل المواطنين، وبكل تنوعاتهم، حتى الذين لم ينتخبوهم.

 

لقد اعتدنا أن نرى النائب يشارك في الأفراح والأحزان أو يطلّ على الوسائل الإعلاميّة ليبدي للناس أفضل ما عنده من حديث. إنَّ دور النائب يتعدّى ذلك، فوظيفته الأساس أن يكون حاضراً في اللجان النيابية، حيث تمرّر المشاريع والصفقات والقرارات التي قد يكون بعضها على حساب الوطن والمواطن ومستقبله.

 

وهنا، نستذكر حديثاً لرسول الله(ص) حين جاء إليه قوم، وراحوا يثنون على رجل، فقال لهم: "كيف عقله؟"، فقالوا: "يا رسول الله، نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله"، فقال(ص): "إنَّ الأحمق (الجاهل) العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر".

 

إنَّ على القوى السياسية أن تأخذ بعين الاعتبار أن الناس أصبحوا أكثر وعياً وقدرةً على التمييز، وهم وإن رضخوا للأمر الواقع، لأنَّ مصالحهم عند زعماء طوائفهم ومن يملكون مواقع المسؤولية الآن.. إلا أنهم لن يكونوا كذلك أبداً ودائماً.

 

وليس بعيداً عن هذا الاستحقاق انعقاد مجلس الوزراء، وفي اجتماعات متتالية، لإنضاج موازنة العام 2018 قبل المؤتمر الدولي الّذي يعقد في باريس لمساعدة لبنان، حيث تشترط الدول المانحة أن تكون هناك موازنة تحدّد سقف الإنفاق. ومع الأسف والأسى أن يكون الدافع إلى الإسراع في دراسة الموازنة وإقرارها خارجياً، بدلاً من أن يكون أساساً في عمل الحكومة، ليكون الصرف بناء على خطّة متكاملة للموازنة.

 

إنّنا، وككلِّ المواطنين، نتطلّع إلى موازنة لا تكون على حساب الفقراء والمؤسسات الاجتماعية، بحجة خفض الإنفاق، موازنة لا تلقي ضرائب جديدة على كاهل اللبنانيين، الذين لم يعد لديهم القدرة على تحمّلها بعد الضرائب الماضية التي لم يهضموها بعد، وإن كان البعض يعدنا بضرائب جديدة لم توضع بعد على الطاولة، فإذا كان لا بد منها، فلتموّل هذه الضرائب من جيوب الفساد والهدر والاستئثار بالمال العام، بدلاً من جيوب المواطنين، وعلى حساب حاجاتهم الأساسية.

ونبقى في لبنان، لنشير إلى قصَّة إنسانية، هي قضية المياومين في مؤسسة كهرباء لبنان، التي لا يبدو أنَّ هناك اتجاهاً لحلها، رغم كل الآثار السلبية التي تنتج من إضرابهم.

 

إنَّنا نستغرب أن تبقى هذه القضية بعيدة عن المعالجة تحت حجج واهية، ونتطلع إلى إنصاف هؤلاء والرأفة بهم، إضافةً إلى الكثير من القضايا الأخرى العالقة التي ينبغي معالجتها.

 

سوريا

ونصل إلى سوريا، التي لا يراد لها أن تستقرّ وأن تنتهي أزمتها، لتستمر لعبة الموت والدمار والقتل، التي بات من الواضح أنها تصيب أكثر ما تصيب المدنيين.. ولذلك، نقول لكلِّ الَّذين يسعون إلى حلِّ الأزمة الإنسانية، ووقف ما يتعرض له المدنيون في الغوطة أو غيرها، أن يفرغوا جل اهتمامهم في الوصول إلى حل سياسي ينهي المأساة التي يعانيها الإنسان في سوريا، وأن لا يكونوا عقبة في وجه الحل لحسابات هي ليست في مصلحة الشعب السوري، بعدما كان الأمل قد بدا قريباً في جولات الحوار الأخيرة.

 

إننا مع كل ما يرفع معاناة المدنيين في هذا البلد العزيز، ولكننا لسنا مع استغلال الجانب الإنساني لتصفية حسابات دولية أو إقليمية، أو العمل على بُعد إنساني في قضية وإغفاله في قضية أخرى..

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 6جمادي الثانية 1439هـ  الموافق: 23شباط 2018م

Leave A Reply