يوم المباهلة تجسيد لرحابة الحوار في الإسلام

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. صدق الله العظيم.

 

هذه الآية تشير إلى حادثة مهمة من سيرة رسول الله(ص) وبالتحديد في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة في السنة التاسعة للهجرة والذي سمي بيوم المباهلة نسبة لتلك الحادثة. ونحن بحاجة أن نستعيد ما جرى لنستفيد من معانيها ودلالاتها ونأخذ من عبرها ودروسها والتي بينها القران الكريم.

 

فقد جاء في ذلك التأريخ أن وفداً من نصارى نجران قدم وعلى رأسه أسقف نجران إلى المدينة ملبياً دعوة رسول الله(ص) له، ونجران آنذاك كانت تمثل مركز الديانة المسيحية في الجزيرة العربية، وقد ضم الوفد أكثر من ستين شخصاً من كبار رجالاتها، وكان هدف رسول الله(ص) من تلك الدعوة هو فتح باب الحوار مع أهل الكتاب، والذي ورد في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}.. وقد استقبلهم رسول الله(ص) في مسجده في المدينة المنورة بصلبانهم رغم موقف الإسلام من صلب السيد المسيح(ع).. وهو لم يجد حرجاً في أن يدخلوا إلى المسجد، وهذا ما يعزز الرأي الفقهي الذي يقول بجواز دخول النصارى وأهل الكتاب إلى المسجد..

 

 

وأكثر من ذلك، تذكر السّيرة أنه لما حضر وقت صلاتهم، استأذنوا رسول الله أن يصلّوا بصلاتهم في مسجده، وأن يدقّوا النواقيس فيه، فأذن لهم، فقال أصحاب رسول الله(ص) في مسجدك يصلون فيه بغير صلاتك.. فقال لهم: "دعوهم".. فأخلوا لهم طرفاً من المسجد وأدوا صلاتهم فيه على مرأى ومشهد من المسلمين، وفي ذلك دلالة واضحة على سماحة الإسلام وعلى اعترافه بحق معتنقي الأديان الأخرى في التعبير عن اعتقاداتهم بكل حرية..

 

نعم، كان للإسلام موقف حاسم من الشرك لأن في الشرك إساءة لذات الله ولإنسانية الإنسان عندما يدعو الشرك إلى عبادة حجر أو كوكب أو بشر..

 

بعدها بدأ الحوار وقد ابتدأه رسول الله(ص) بالحديث عن أن الإسلام لم يأت ليلغي الدّيانات التي سبقته، بل جاء ليكملها ويتمها، فقد جاء مصدّقاً لما بين يديه من التّوراة والإنجيل، وأنه يدعو إلى الإيمان بكلّ الأنبياء والرسل ولا يفرق في ذلك بين رسله، فكلٌّ أدى دوره في مرحلته.. وهو ينزه الأنبياء عن أية صفات من صفات الألوهية، فهو يؤمن ببشريته كما ببشريَّة الأنبياء، وقال لهم ما قاله القرآن عنه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}.. وهذا ما ينطبق على شخصية السيد المسيح(ع) والذي قال عن نفسه: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.. وقال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً}..

ثم أشار إلى موقف السيِّد المسيح(ع) يوم القيامة، مما نسبه إليه بعض الأتباع: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}.

 

عندها، تدخَّل أسقف نجران رئيس الوفد قائلاً: لكنَّه ابن الله، ودليلنا واضح، فهو وجد لا كبقية البشر بدون أب وهذا ما تعتقدون به كذلك.. فردّ النبيّ(ص)، وهو المنبئ بالوحي بما قاله الله سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فلو أنَّ ولادته من دون أبٍ تستوجب كونه ابنا الله، لاستحقّ ذلك آدم أكثر، لأنه وجد بدون أب وأمّ.

 

هنا قال الأسقف، لكن كيف تفسرون أنه كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص ويعلم ما في الأرض ويعلم ما يدخره الناس في بيوتهم.. أليس هذا من صفات الألوهية.. هنا أشار رسول الله(ص) بما أشار اليه الله سبحانه أن هذه معاجز وأنّ كل معاجز الأنبياء إنما هي بإذن الله وقدرته: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

 

ثم أنهى النبيّ(ص) الحوار بتقديم أدلة دامغة على صدق نبوَّته(ص)، وأن اسمه ورد في الإنجيل، وهو ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}..

 

و مع ذلك كله ومع صلابة الحجج والمنطق الذي جاء به رسول الله ظل الأسقف ومن معه على موقفهم من دون أن يفكروا أو يمحصوا ما قاله النبي(ص)، ويردوا على منطقه بمنطق مماثل، مكتفين بما عندهم: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}.

 

ولأن الحوار، لم يصل إلى نتيجة حاسمة، حيث بقي نصارى نجران على موقفهم من إنكار وتعنّت، نزلت الآية التي تلوناها في بداية الحديث لتدعو للمباهلة التي لم تكن معروفة في السابق، فيقول: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وهي تدعو إلى أن يجتمع الفريقان، فريق رسول الله(ص) وفريق نصارى نجران، وكل منهما يدعو الله أن يطرد الآخر من رحمته وأن ينزل عليه عذابه إن كان يعرف الحق ويجحده.

 

هنا عرض رسول الله(ص) على الوفد ما أنزل الله عليه، وقال لهم: ائتوا أنتم بأعزِّ النّاس لديكم، وأنا سوف آتي بأعزِّ الناس لديّ ولنتباهل، فإن كنت صادقاً أُنزلت اللعنة عليكم وإن كنت كاذباً أُنزلت اللعنة علينا.. فقبلوا بها وانصرفوا انتظاراً للصباح.. هنا تذكر السيرة أن أسقفهم جمعهم وقبل أن يأتي وقت المباهلة وقال لهم: إن باهلنا بناس من غير أهل بيته بجمع غفير من أصحابه وأتباعه، فهذا يعني أنه يريد بث الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة، أما إذا باهلنا بأهل بيته وأقرب الناس إليه فلا تجيبوا مباهلته فإنه صادق فيما يقول، فهو لا يعرض أعز الناس لديه للعذاب والطرد من رحمة الله إن كان كاذباً..

 

فلما أصبحوا جاء رسول الله(ص) جاء وهو يحتضن الحسن(ع) ويجرّ الحسين بيده، وخلفه فاطمة، وخلفها عليّ(ع)..

هز هذا المشهد نصارى نجران وأسقط ما في أيديهم، فرسول الله(ص) لو لم يكن واثقاً مما جاء به لما جاء بأعز الناس لديه، فهم يعرفون موقع فاطمة والحسن والحسين وعلي(ع) على قلب رسول الله(ص) وعند الله وهم الذين كانت نزلت فيهم الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.. حتى قال أحد أعضاء الوفد: "إني لأرى وُجُوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة".. وقرروا أن لا يدخلوا في المباهلة وأن يعقدوا اتفاقية الصّلح مع المسلمين، لتنظم العلاقة بينهم وبين المسلمين وعادوا إلى ديارهم آمنين.

 

ولقد جاءت هذه الحادثة لتظهر وبما لا يقبل الشك موقع أهل البيت من رسول الله(ص)، فهم وبإشارة رسول الله(ص) أعز الناس على قلب رسول الله، ولم يشك أحد في كون الآية نزلت بحقهم، وهي بينت بالخصوص موقع الحسن والحسين(ع)، وأنهما ابنا رسول الله(ص)، في مقابل من قال أن ابني البنت ليسا أبناء لرسول الله(ص)، وأن الزهراء تختصر في شخصيتها نساء المسلمين عندما ذكرت الآية "ونسائنا" في إشارة إلى السيدة الزهراء(ع)، وأن علياً هو نفس رسول الله(ص)، وهذا يعني أنه نتاج روحه وعقله وتربيته وأنه في كل ما يعبر هو يعبر عن رسول الله(ص)..

 

وهي جاءت لتظهر أهمية الحوار في الإسلام وأنه دين حوار وأن لا مكان عنده للعنف والتوتر في مواجهة الآخر المختلف معه، وأنه عند أيّ اختلاف وبعد أن تستنفد النقاشات العلمية الهادئة ولا تصل إلى نتيجة، وحتى لا يصل الأمر إلى خلاف يتحول إلى نزاع، يدعونا الله إلى التأكيد على الجامع المشرك وترك أمر الخلاف إليه هو يتكفل بالكاذب والجاحد بالحقيقة وتترك الأمور له..

 

وفي هذا قول الله سبحانه: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، وحيث الحساب {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}.

 

ولذلك يمكن القول أن المباهلة لا تقف عند هذه الحادثة، بل يمكن أن تتكرر عند كل خلاف فكري أو ديني أو مذهبي أو سياسي أو أي خلاف..

 

إنّنا أحوج ما نكون إلى هذا الأسلوب في إدارة كلّ الصّراعات الجارية بين الأديان والمذاهب والأفكار، حتى لا يتصاعد التوتّر في النفوس، وتتفجَّر الصّراعات والفتن.. وبذلك تعيش التنوعات فيما بينها في أجواء السلام والأمان والتعاون..

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نتأسّى برسول الله (ص)، ونحن نقدم بعد أيام، ومع حلول شهر محرم الحرام، على بداية سنة هجرية جديدة، وهي الألف والأربعمائة والأربعون.. فقد كان رسول الله (ص) يستقبلها بأن يصلي ركعتين. وبعدما يفرغ، يدعو بهذا الدعاء: "اللهم أنت الإله القديم، وهذه سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشيطان، والقوة على هذه النفس الأمارة بالسوء، والاشتغال بما يقربني إليك، يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام". ثم يقول: "ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب".

 

لقد أراد رسول الله (ص) أن لا نبدأ سنتنا، كما يبدأها الكثيرون، باللهو والعبث، بل بالتوجه إلى الله بكل صفاته وأسمائه الحسنى، أن يعيننا على مواجهة الشيطان الذي يترصدنا، وعلى النفس الأمارة بالسوء، وأن نبقى ثابتين، لا نهتز، حتى تكون سنتنا القادمة أفضل من سنة ماضية قد نكون انحرفنا فيها أو قصرنا أو أضعنا الفرص.

 

ومتى فعلنا ذلك، فإننا سنملك القدرة على أن نواجه التّحديات الصّعبة، وهي كثيرة.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي أثبتت وقائع الأسبوع الماضي أن لا نية جديَّة لدى الفرقاء السياسيين فيه باجتراح الحلول التي تخرج البلد من حالة المراوحة على الصعيد الحكومي، ما يبقي الأزمة على حالها، ولأجل نخشى أن يكون طويلاً، ليبقى معها التساؤل لدى اللبنانيين: ما الذي تنتظره القوى السياسية؟ ولماذا لا تبادر إلى التوافق فيما بينها وتقديم التنازلات، ما دام الجميع يعرف أن التوافق هو مفتاح الحلول في هذا البلد.. وهو لا يتم إلا بتقديم التنازلات؟

 

إنَّ أيَّ رهان على لعبة عضّ الأصابع أو على تغيّرات تأتي من الخارج، لن تجدي في ظلِّ التوازن الطائفي، الذي لا يريد أحد اختلاله. في هذا الوقت، تتصاعد وتكبر معاناة الناس في هذا البلد على الصعيد المعيشي ونحن على أبواب عام دراسي جديد.

 

إننا أمام هذا الواقع، نعيد دعوة القوى السياسية إلى أن تخرج من حساباتها الذاتية والخاصة، ليكون رهانها على إنسان هذا البلد الذي أعطاها قياده، وأن تتقي غضبه، فلم تعد تسكنه الوعود أو يتملكه الخوف أو تستثيره الحساسيات.

 

إن على القوى السياسية أن لا تكرر أخطاء الآخرين في بلدان أخرى، ممن استهانوا بوجع إنسانهم وآلامه، وظنوا أن صمته علامة قبولهم بما يقومون به، فكشفت الأيام عكس ذلك.

 

إن من المؤسف أن نسمع حديثاً من هذه القوى السياسية عما آلت إليه أحوال هذا البلد وما يترقبه من أخطار على الصعيد الاقتصادي أو المالي، أو ما يتهدده من الخارج من كل ما يجري في محيطه، ولا يدعوها ذلك إلى استنفار جهودها لمواجهة كل ما يحصل، وإلى التحرك بمسؤولية لوقاية البلد، أو على الأقل للتخفيف من وقع هذه الأزمات عليه.

 

سنبقى نراهن في هذا البلد على الحريصين عليه، من الذين يرفعون الصوت عالياً في مواجهة الفساد، وممن أخرجوا أنفسهم من حسابات المصالح الضيقة إلى حسابات الوطن.. ممن يفكرون في أن يكون البلد خياراً لإنسانه، فلا يتطلع إلى أوطان أخرى، وأن يكون قوياً عزيزاً حراً لا يتسكع على أبواب الآخرين.

 

العراق

وإلى العراق، الذي يعاني تصعيداً خطيراً في إحدى أهم مدنه، والتي تمثل شرياناً حيوياً لاقتصاده، لكون أهم حقول النفط فيها، بفعل الاحتجاجات على سوء الخدمات، من ماء وكهرباء وصحة، وتنامي معدلات الفقر والبطالة، والتي أدت إلى سقوط العديد من الضحايا، مما نخشى أن يتوسع ويمتد إلى مناطق أخرى.. فيما تستمر الأزمة السياسية في هذا البلد، حيث لا توافق على رئيس للمجلس النيابي أو الكتلة الأكبر التي ستؤلف الحكومة، ومع اشتداد الصراع الإقليمي والدولي فيه.

 

إننا أمام هذا الواقع، نؤكد على القيادات العراقية ــ بكل كياناتها ــ أن تعي حجم الأخطار التي تهددها من الداخل والخارج، وأن تكون بمستوى التحديات، بأن توحّد جهودها وتتضافر قواها لمصلحة العراق، ولإخراجه من هذه الأزمة التي توحي بأنَّ استمرارها سيضع العراق في مهب الرياح الدولية مجدداً، ويجعله يدفع الثمن دائماً من استقراره الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وربما الأمني.

 

فلسطين

ونصل إلى فلسطين، وهذه المرّة من بوابة "الأونروا" (وكالة غوث اللاجئين)، بعد إعلان الإدارة الأميركية وقف مساعداتها لها، بما يمثّل الحلقة الثانية من حلقات الضغط الأميركي على القضية الفلسطينية، بعد إعلان القدس عاصمة لكيان العدو، وفي أعقاب السعي المستمر لإنجاز الحلقة الأخيرة من تصفية القضية الفلسطينية، من خلال شطب حق العودة.

 

إننا أمام هذا الواقع المؤلم، نتساءل: من الطبيعي أن تقوم أميركا بما تقوم به خدمة للكيان الصهيوني وتثبيتاً لوجوده، ولكن أين العرب؟ لماذا لا يقومون بسد هذا الفراغ وبتسديد مئات الملايين من الدولارات لـ"الأونروا"، وهم الذين تدفع بعض دولهم مئات المليارات على صفقات الأسلحة التي لا تُستخدم إلا في إطار الحروب في ما بينها أو في الفتن التي تعصف بواقعنا؟ فأين هي الجامعة العربية من القرار الجديد الذي وضعه الجميع في دائرة التوطين وإنهاء القضية الفلسطينية؟

إنَّ من المؤسف حقاً أن يستمرّ هذا الصّمت العربيّ المريب، في ظلِّ الضّغط المتواصل على الفلسطينيين في حصار غزة، وفي زحف الوحدات الاستيطانية، واتخاذ قرارات صهيونية بتدمير هذه القرية الفلسطينية أو تلك، وفي اغتيال النشطاء الفلسطينيين بحجة التصدي للعدو.

 

حوادث السير

وبالعودة إلى الداخل اللبناني، لا بدَّ من أن نتوقَّف عند حوادث السير المتزايدة التي حصدت هذا الشهر أكثر من اثنين وخمسين ضحية ومئات الجرحى، والتي تعود أسبابها إلى السرعة الزائدة، واستعمال الهاتف النقال، والولوج إلى مواقع التواصل خلال القيادة، وهو ما ينبغي التنبّه إليه، مما لا يجوز، كما كنّا قد أكدنا سابقاً، فلا حرية للإنسان في الإساءة إلى حياته وإلى حياة الآخرين.. لكن لا ينبغي أن نعفي الدولة من مسؤوليتها، فعليها التشدد في تطبيق قوانين السير وضبط المخالفات ومعالجة أوضاع الطرق، من حيث الإنارة أو إزالة الحفر والعوائق الموجودة على الطرقات.

 

إنَّ الدَّولة معنيّة بالحفاظ على مواطنيها، وهي مسؤولة عن كلِّ ما يؤدي إلى الإساءة إلى حياتهم.. كما أنّها قد تكون قاتلة لهم، إن لم تقم بدورها تجاههم في ذلك.

 

عاشوراء

وأخيراً، ونحن على أعتاب موسم عاشورائيّ جديد، فإنّنا نريده أن يكون مناسبة نعزّز فيها كل القيم التي أطلقها الإمام الحسين (ع)، في مواجهة الطغاة والظالمين والفاسدين والمتلاعبين بالمال العام، ولا نريده أن يكون منبراً لإثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية.

 

إنَّ المسؤوليَّة الكبيرة تقع على عاتق من يتولى الأمر في مجالس العزاء، بأن يحسنوا تقديم الصورة المشرقة للحسين (ع) وأهل بيته (ع)، لتصل إلى العقل والقلب، وإلى الإنسان كله، ولتنعم بها الحياة كلها.

 

 

Leave A Reply