الأسلوب الإسلاميّ في مواجهة الاختلاف

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِين} صدق الله العظيم.

 

سنّة الاختلاف

الاختلاف سنَّة من سنن الله في الحياة، لذا نرى النّاس يتلاقون في الوطن الواحد أو المدينة الواحدة أو العائلة الواحدة أو البيت الواحد، ولكنّهم يختلفون في آرائهم وأفكارهم وتوجّهاتهم ونظرتهم إلى القضايا الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية، وإلى الأحداث التي تجري حولهم وأسلوب التعامل معها.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه السنّة عندما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.

 

وهذا الاختلاف هو إيجابيّ، ويُغني الحياة إن بقي في إطاره الفكريّ، ولكن غالباً ما قد يؤدّي هذا الاختلاف إلى توتر ونزاع داخل المجتمع، وحتى إلى عداوة.

وهذا طبعاً لا يدعو إلى إلغاء التنوّع ومنع كلّ ما يؤدّي إليه، والاقتصار على الفكر الواحد والرّأي الواحد، بل إلى وضع ضوابط تمنع من تحوّل الاختلافات إلى صراعات تؤدّي إلى انقسام الأوطان والمجتمعات والعائلات.

وهذا من الأهداف التي لأجلها أرسل الله الأنبياء والرّسل، كما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. فدور الأنبياء هو توضيح الحقائق ومعالجة الاختلاف ما بين الناس بالتي هي أحسن.

 

ضوابط الاختلاف

ونحن اليوم سوف نشير إلى إحدى هذه الضّوابط، وهي الدّعوة إلى عدم السبّ وتجنّبه وتحريمه، نظراً إلى الآثار السلبيَّة التي ينتجها السبّ عندما يتحوَّل إلى أسلوبٍ في التعامل عند الاختلاف. والسبّ هو كلّ كلام يسيء إلى شخص الآخر وكيانه، ويؤدِّي إلى استفزازه، كأن يهينه أو يسخر منه أو يستهزئ به أو ينعته بصفاتٍ قبيحةٍ وبكلماتٍ بذيئة.

وأشار القرآن الكريم إلى هذا النّهي بكلّ وضوح، عندما قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}. فهو دعا في هذه الآية المؤمنين إلى عدم سبّ المشركين الذين يعبدون الأصنام، رغم موقف القرآن الكريم الحادّ من الشّرك، والّذي وصل إلى حدّ أن يقول الله سبحانه تعالى عنهم: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وهو لم ينطلق في ذلك من كون المشركين لا يستحقّون، بل إنّهم يستحقّون ذلك، بعد أن تجرأوا على الله سبحانه بشركهم وإساءتهم، ولكن لأنّ سبّهم لن يؤدّي إلى تغيير قناعاتهم وتبديلها، بل قد يؤدّي بهم إلى التشبّث بها والابتعاد عن الحقّ والحقيقة، وإلى الردّ بسبّ الذّات الإلهيّة، وإلى الإساءة إلى رموز المسلمين. فالسبّ يولّد سباً، والشتيمة تنتج شتيمة، وهو لن يؤدّي إلى إقناع الآخرين بما تؤمن به وتدعو إليه.

وهذه الآية وإن أشارت إلى عدم سبّ المشركين، إلّا أنّها قرّرت مبدأً عامّاً، وهو عدم الإساءة أو الشّتم أو الإهانة أو السخرية من رموز الآخرين وشخصيّاتهم التي لها شأن وموقع عندهم، وللأسباب نفسها.

وقد ورد هذا النّهي في آية أخرى، عندما قال الله سبحانه: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.

وورد في الحديث: "وليس المؤمن بالطعَّان واللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء".

وفي الحديث: "إنَّ الله حرَّم الجنّة على كلِّ فحَّاشٍ بذيءٍ قليلِ الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له".

 

كيف نواجه الآخر؟!

إذاً، في منطق الإسلام، لا يجوز السبّ مهما كان حجم الاختلاف ومهما بلغ من التوتّر.

المبدأ في الإسلام هو أن تفتح باب عقل الآخر، أن تقنعه بما أنت عليه، وأن تزيل توتّره تجاهك نتيجة اختلافه معك.

لذا، هو دعا إلى اعتماد الكلمة الأحسن والجدال بالّتي هي أحسن لعلاج أيّ اختلاف، وفي أيّ ميدان من ميادين الحياة، وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم عندما قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وطلب من رسوله (ص) أن يعلن: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}.

وهذا الأسلوب دعا الله سبحانه إلى اعتماده حتى مع أعتى النّاس وأشدّهم كفراً وعلوّاً واستكباراً، عندما قال للنبيّيْن موسى وهارون (ع): {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.

وهذا الأسلوب هو وصيّة الإمام الصادق (ع) لشيعته، عندما قال: "كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للنّاس حسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول، وقُبح القول".

 

وتعود دعوة الإسلام إلى هذا الأسلوب، إلى أنّه لم يرد أن يكون هدف المسلم في التعامل مع من يختلفون معه هو تسجيل النقاط عليهم أو إفحامهم أو إذلالهم أو إخراجهم عن طورهم، بل الهدف هو نزع الباطل من عقولهم، وإخراج الغلّ من قلوبهم، والحيلولة بينهم وبين الضّلال والانحراف، وأن يكون كلّ همه – أي الإنسان المؤمن – أن يحاور فكر الآخر ومشاعره ومواقفه.

وقد قالها عليّ (ع): "فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ".

مواجهة الآخر بالحسنى

وهذا الأسلوب هو الذي اعتمده رسول الله (ص) في دعوته، وهو ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

 

فقد كان رسول الله (ص) مثالاً في الرّحمة التي عبَّر عنها بكلماته الحانية التي تنطق حبّاً للآخرين، حتى لو كان الآخرون أشقى النّاس وأشدّهم أذىً، فلم يكن رسول الله (ص) فظّ اللّسان غليظ القلب، بل كان ليِّن القلب سليم الصّدر.

وهذا المنهج في التعامل مع كلّ الناس، هو الّذي أوصل الرسالة إلى أهدافها الكبيرة، فهي بلغت ما بلغت وانتشرت في كلّ الأصقاع، بالكلمة الحانية الّتي كان السمع يهتزّ لها، وينشرح لها الصّدر، ويفتح بها أبواب العقل.

وهو (ص) لم يسمع عنه وهو في قمّة التحدّي، أن أساء إلى أحد، أو سخر منه أو أهانه أو حقّره، أو أهان مقدّسات من ناوأوه هم ورموزهم.

 

حتى إنّ النبيّ يوم مرّ به يهودي، وقال له: السّام عليك، بدلاً من السلام عليك، قال له النبيّ (ص): وعليك. هنا ثارت ثائرة عائشة زوجة النبيّ (ص)، فراحت تسبّ اليهوديّ وتلعنه، فقال لها رسول الله (ص): "هوّني عليك؛ إنّ الرّفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه". قالها رسول الله (ص)، لا عن ضعف بل عن قوّة.. فقد كان آنذاك في المدينة المنوَّرة، وكان له الأمر والحكم آنذاك.

 

وهذا هو الأسلوب الذي انتهجه عليّ (ع) في معركة صفّين، فهو عندما سمع أنّ أصحابه يسبّون أهل الشّام، لم يقبل منهم هذا المنطق، رغم أنّ أهل الشّام، وعلى رأسهم معاوية، قدموا لقتاله، وقال لأصحابه مبيِّناً الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الآخرين: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، ولو قلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

 

وهو الذي أشار إليه أحد الزّنادقة، عندما سمع أحد أصحاب الإمام الصّادق (ع) يغلظ عليه بالقول كردّ فعل على إغلاظه، فقال: "يا هذا، إن كنت من أصحاب جعفر الصّادق، فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا.. إنّه للحليم الرّزين العاقل الرّصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويستغرق حجّتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننّا أنّا قد قطعناه، أدحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا به الحجّة، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه، فخاطبنا بمثل خطابه". ثم قال: "ما رأيت رجلاً يستحقّ اسم الإنسانيّة إلا جعفر بن محمد".

 

المواجهة بالكلمة الطّيّبة

أيّها الأحبّة: إننا نعاني اليوم في واقعنا توترات وانقسامات على الصّعيد الدّاخلي، بسبب غياب هذه الكلمة الطيّبة والعقلانيّة، وسريان منطق الاستفزاز والانفعال والتوتّر في ساحة المختلفين. إنّنا لن نستطيع أن نعالج كلّ هذا الواقع إلا بإحياء الكلمة الطيّبة، بالفكرة المقنعة والحوار بالتي هي أحسن.

وهي التي أشار الله إلى موقعها في الدنيا، عندما قال: {ألم تر كيف ضرب الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وهي من أهمّ الطرق لبلوغ الجنّة، كما ورد في الحديث عنه (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت"، والباب للوقاية من النار: "اتّقوا النّار بالكلمة الطيّبة".

فلنربِّ أنفسنا ونربِّ مجتمعنا على الكلام الطيِّب البعيد عمّا تعارف عليه المختلفون من السبّ والشّتم والتعرّض بالإساءة والإهانة لمن يختلفون معهم، مهما كان نوع الاختلاف وحجمه وطبيعته. ولنهتدِ في كلّ ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله سبحانه عندما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.

لقد أراد الله من خلال هذه الآية، أن يحذِّر النّاس من الّذين يمنّونهم بالوعود المعسولة والكلام العذب، الّذين يعدونهم بأنّهم سيعملون لصالحهم ولحسابهم ولأجل مستقبلهم، وأنّه سيتحقَّق على أيديهم الخير، حتى يصلوا ويتسلَّقوا المواقع العليا، ولكنَّهم عندما يصلون، يعيثون في الأرض فساداً، ويهلكون البلاد والعباد، وعندها لا يتحقَّق للنّاس ما يريدون. وبعد فوات الأوان، سيكتشفون الحقيقة، وسيجدون أن لا واقع لكلّ ما قالوه.

 

يريد الله للنّاس أن يكونوا واعين وحذرين من الّذين يتقنون فنَّ الكلام والقدرة على التلاعب بآلامهم ومعاناتهم واللّعب على جراحهم، بأن لا يلتفتوا إلى عذوبة الكلام وزخرفته، بل إلى خلفيّة من قال وارتباطاته، وإلى ما يهدف من وراء كلامه، وأن لا يقفوا عند الكلمات، بل أن ينظروا ما وراء الكلمات، وهو ما عبَّر عنه الشّاعر بقوله:

كثر الخداعُ اليوم في أقوالنا فانظر إلى مَنْ قال لا ما قيل

وبذلك، نكون أكثر وعياً ومسؤوليّة، وأكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

 

ماذا بعد استقالة الحكومة؟!

والبداية من لبنان، الَّذي استقالت فيه الحكومة بعد أقلّ من أسبوعين من بدء الحراك الشعبي. ونحن كنّا نأمل أن لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، وأن لا يقع البلد في الفراغ الذي نخشى آثاره وتداعياته، ولا سيَّما في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة، ولكنّنا نرى أنّ الحكومة أعانت على نفسها، وجرّأت اللّبنانيّين عليها عندما لم تقم بمسؤوليّاتها، ولم تبدأ بالخطوات العملية لتنفّذ ما أقرّته من إصلاحات، ولم تظهر بمظهر الدّولة الحريصة على معالجة ما تعانيه من ترهّل داخليّ وفساد، وعلى تلبية مطالب مواطنيها الَّذين خرجوا إلى الساحات، وبدت عاجزة وغير متماسكة، حيث تضجّ الصّراعات بين مكوّناتها.

 

إنّنا وبعد كلّ ما جرى، لا نريد أن يكون الخاسر من ذلك هو اللّبنانيّين ومطالبهم، وما خرجوا لأجله، فهم، وللتّذكير، لم يخرجوا لتحقيق مكاسب سياسيّة لهذا الفريق في صراعه مع الفريق الآخر، ولا لقلب الطّاولة على أحد، ولا لتغيير النّظام فيه، رغم وعيهم بمساوئه. وبالطّبع، هم لا يريدون أن تسخّر آلامهم ومعاناتهم لحساب أجندات خارجيّة يخشون منها على حساب من كانوا ولايزالون قوّة لهذا البلد، أو أن يكونوا وقوداً في الصّراعات الجارية في هذا العالم.

 

هم خرجوا، كما قالوا، ليعبّروا عن معاناتهم، عن عجزهم في الحصول على أبسط مقوّمات العيش الكريم، عن عجزهم عن الاستشفاء، عن عدم قدرتهم على دفع أقساط المدارس، وعن عدم إيجادهم فرص عمل، ليعبّروا عن حقّ المرأة في منح الجنسيّة لأولادها، وعن ارتفاع أرقام الفقر في مقابل تمركز الأموال بيد فئة من المسؤولين وأصحاب المصارف ورجال الأعمال على حسابهم وحساب مقدّراتهم.

 

إنّنا لا نريد لمطالب النّاس أن تضيع، ولأصواتهم الصّادقة وجهودهم أن تذهب هدراً. ومن هنا، فإنّنا ندعو هذه الأصوات الصادقة العفويّة إلى أن تمسك بقرارها، وأن لا تجيّره لحساب أحد. ونحن في الوقت نفسه، ندعو الحريصين على هؤلاء النّاس إلى أن لا يدعوا آلامهم لقمةً سائغةً بأيدي من يريدونهم مطيّة، فمن حقّهم أن يشعروا بكرامتهم في هذا البلد، أسوةً بكلّ بلدان العالم.

 

لقد قلناها أكثر من مرّة، إنَّ هذا البلد ليس فقيراً حتى يصبر النّاس على فقرهم ويتحمّلوا شظف العيش فيه، بل هو غنيّ، ولكنه مهدور الثروات، ومنهوب من الَّذين لا يرون هذا البلد إلا بقرة حلوباً، ويعتبرون الناس فيه مطيّة لمصالحهم.

لذا، ولأنَّنا لا نريد أن يتكرَّر ما حدث، فنحن نخشى، وسنبقى نخشى، من الشَّارع، لأنَّنا نعرف أنَّ هناك من يترصَّدون له لتجيير نزول الناس لحسابات وأجندات خاصّة بهم. ومن هنا، ندعو القوى السياسيّة إلى الاستفادة مما جرى لإجراء مراجعة جادّة لسياساتها، وتغيير كلّ الأساليب والممارسات السابقة في التعاطي مع الشأن العام والاستهتار بمطالب الناس وقضاياها، والكفّ عن سياسة الوعيد والتّهديد لكلّ من يرفع صوته في مواجهتهم، فهناك من لايزال يفكّر في ذلك.

 

السّلطة تحت الاختبار

إنَّنا ندعو إلى اعتماد مناهج وآليّات جديدة في إدارة البلد، من شأنها أن تعيد الثقة بالقوى السياسيّة وبالدّولة، وعليهم أن يعوا جيّداً أنّ الناس أصبحت واعية، وهي تسمع وتبصر، وأن زمن تخدير النّاس ودغدغة مشاعرهم الطائفيّة والمذهبيّة، والتسلّق على ظهورهم من خلال تخويفهم من الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة، قد ولى، بعدما اكتشفوا أنّ الجراح والمعاناة والقضيّة واحدة، وإن اختلفت مذاهبهم وطوائفهم ومواقعهم السياسيّة.

 

ولعلَّ امتحان تشكيل الحكومة الجديدة، هو الَّذي سيظهر مدى جديّة هذه القوى السياسيّة في التعاطي مع مطالب الناس، للتّخفيف من معاناتهم ومشاكلهم، ومدى جديَّتهم في معالجة أزمات البلد المستعصية. والجديّة ستظهر عندما يستعجلون بتأليف الحكومة التي نريدها أن تكون حكومة إنقاذ وطنيّ تحفظ حقوق كلّ المكوّنات، وتبدّد هواجس القلقين من الإقصاء، أو المتوجّسين من الرّضوخ لضغوط من الخارج الَّذي لا يخفي مطالبه التي تستهدف فريقاً واسعاً من اللّبنانيّين، وأن تحظى هذه الحكومة باحترام الشعب اللّبناني، من خلال اشتمالها على شخصيات كفوءة، وخصوصاً في ما يتصل بمكافحة الفساد والهمّ الاجتماعي والاقتصادي الذي ينبغي أن يحتلّ الأولويّة في برنامج الحكومة.

 

إنّنا ندرك أننا في لبنان لا يمكن القفز فوق العنوان السياسي في الحكومة لاعتبارات معروفة عند الجميع، ولكن من حقّ النّاس أن تطالب بالأسماء التي تملك الشفافيّة والنزاهة والأخلاق والمناقبيّة، وهي كثيرة في لبنان، وإن استبعدتها الحسابات السياسيّة سابقاً.

 

إنَّنا نعرف حجم التعقيدات التي تحيط بالبلد، ولا سيّما في ظلّ نظام طائفيّ مركّب يبدو أنّ من الصعوبة بمكان تجاوزه دونما عقبات ومخاض سياسي وتشريعي. ونحن في الوقت نفسه، نتوجّه إلى الحراك الشعبي لإجراء مراجعة ضروريّة للكثير من آليّاته وحركته، والإجابة عن علامات الاستفهام الكثيرة التي أثيرت حوله.

 

إنَّنا نريد لصوت الشّعب أن يبقى حاضراً، أن يراقب ويحاسب، وأن يكون واقعيّاً وبعيداً عن الشعارات التي تثير الساحة هنا أو هناك، من دون أن تكون ذات جدوى حقيقيّة، أو تفسح المجال لتدخّلات خارجيّة لكي تحدّد مسار الأمور.

 

Leave A Reply