الاهتمام بالشأن العام وقضاياه

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه: 
 
الخطبة الأولى
 

قال الله تعالى سبحانه وتعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس/20-21].

 

في هذه الآيات من سورة يس إشارة إلى ثلاثة رسل أرسلهم إلى مدينة أنطاكية التي تقع الآن في تركيا ليدعوا الناس إلى عبادته وأن لا إله إلا هو وحده لا شريك له بعد أن انحرفوا عنه الى عبادة الأصنام {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ *إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}[يس: 13-14]، وقد ووجه هؤلاء الرسل – و هنالك اختلاف بين المفسرين حول هويتهم – بالرفض من قومهم والإنكار لدعوتهم وقد وصل الأمر إلى حد تهديدهم بالقتل {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يس/ 18]…

 

 وثم، ينتقل القرآن للحديث عن رجل هو لم يشر إلى اسمه بل إلى العمل الذي قام به لأن قيمة الإنسان بعمله، وقد أشار إليه بقوله: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}[يس/20]، فقد قدم هذا الرجل مسرعاً من أقصى المدينة والمقصود بأقصى المدينة هو أطرافها البعيدة، عندما علم بما حصل للرسل من قومه وكيف تعاملوا معهم، رغم معرفته بحجم الصعاب التي قد يواجهها من قومه…

 

 ولقد صور القرآن هذا المشهد وتوقف عند دفاع هذا الرجل عما حمله الرسل من دعوة الناس إلى سبل الهداية إلى الحق والخير قائلاً لهم وبكل حرقة وألم عليهم: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ}، ثم يحدد موقفه الحاسم من دعوة الرسل إلى عبادة الله الخالق الفاطر والذي إليه مرجع الناس كلهم {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ليقول بعدها وبصلابة الإيمان عنده: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}..

 

ثم يطوي القرآن القصة على مشهد الرجل، وقد استقبل هذا الرجل على مدخل الجنة مما يوحي أن هذا الرجل المؤمن حظي بالشهادة على يد هؤلاء ليتوج الله ثمرة تضحياته بدعوته للدخول إلى الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَوهنا يبدي هذا الرجل حسرة وآلما على حالة الجهل التي يعيشها قومه، ويتمنى لو يرى قومه موقعه لعل ذلك يعيدهم عن غيهم {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس/26-27].. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنه لم يحمل حقداً على قومه رغم كل ما فعلوا به، فهو لا يزال يتمنى الهداية لهم لا العذاب والعقاب.

 

إن هذه القصة، كغيرها من قصص القرآن، ليست عبارة عن سرد أحداث للأقوام السابقة بل هي للعبرة والاعتبار، و سنتوقف عند واحدة من هذه العبر التي وجدناها في صفات هذا الرجل وسلوكه، وهي حالة الهم الذي عاشه تجاه قومه، حرصاً على خيرهم وقلقاً على مصيرهم..

 

لقد كان هذا الرجل – الذي جاء من اقصى المدينة يسعى – إنساناً عادياً، ذُكر أنه يعمل في النجارة وأسمه حبيب النجار، لكنه لم يكن عادياً في الاهتمام بالقضايا العامة، فهو لم يقل كما يقول غالب الناس في مثل هذه الحالات، ما يعنيني من أمر الناس، ولماذا أتدخل بما لا يعنيني، ودع الناس وشأنهم، بل تحرك من وحي الشعور بالمسؤولية نحو قومه، غير آبه للمخاطر التي كانت واضحة لديه، و كان نتاج ذلك ان بلغ الجنة و النعيم الأبدي.

 

إن القرآن الكريم، أيها الأحبة، يريد من هذه القصة أن يدفع الإنسان للخروج من سجن ذاته بحيث يستغرق في اهتماماته الخاصة، فتنحصر اهتماماته في الطعام والشراب والصحة أو حتى العبادات الفردية، بل أن يوسع من دائرة اهتمامه ليشارك الناس في كل همومهم وقضاياهم وبلوغ أحلامهم وأمانيهم، فالإنسان المؤمن الذي يريده الله هو الذي تهتز مشاعره ويعيش حالة طوارئ عندما يرى من حوله فقراء وأيتاماً ومظلومين أو عندما يتفاقم الفساد والمفسدون أو تتسع مساحة الضلال، أو عندما يرى خللاً في أي شأن من شؤون الناس أو نقصاً لديهم في حاجاتهم، فهو لا يمكن أن يقف مواقف اللامبالاة تجاه ذلك بل تراه يتحرك فردياً يبذل جهده الخاص أو جماعياً من خلال الانخراط في جمعيات ومؤسسات وأحزاب أو العمل في الأطر الرسمية التي تعنى بعلاج هذه المشاكل أو التخفيف أو الارتقاء بالمجتمع إلى واقع أفضل.

وقد أولى الإسلام الاهتمام بالشأن العام عناية خاصة، وهو لم يجعله خياراً من خيارات الإنسان يمكنه القيام أو عدم القيام به، بل اعتبره واجبا ومسؤولية، حتى أن الرسول(ص) نزع صفة الإسلام عمن لا يدير بالاً أو اهتماماً لاحتياجات الناس ومشاكلهم…

 

وهذا ما أشارت إليه العديد من الأحاديث النبوية، ففي الحديث: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".. "ما آمن بي (المقصود رسول الله(ص)) ولا باليوم الآخر من بات شبعان وجاره جائع"..

 

وفي الحديث: "إن الله لم ينعم على عبد بنعمة إلا وألزمه الحجة فيها.. فمن منّ الله عليه فجعله موسعاً عليه في ماله فحجته عليه ماله ثم تعاهد الفقراء بفرائضه ونوافله، ومن منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه فحجته عليه احتمال بما كلفه واحتمال من هو دونه مما هو أضعف منه ومن منّ له عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته فحجته أن لا يغمط حقوق الضعفاء لشرفه وجماله"..

 

وحتى العلم الذي تملكه هو مسؤولية فمن مسؤوليتك أن تنشره وتوصله إلى من يحتاج إليه وإلا يكون مورداً للحديث: "من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"… والى هذه المسؤوليات التي لا بد للمؤمن أن يمارسها، أشار الإمام زين العابدين(ع) إليها في مقام الاعتذار إلى الله عز وجل: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَـذِرُ إلَيْـكَ مِنْ مَـظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ وَمِنْ ذِيْ فَاقَة سَأَلَنِي فَلَمْ أُوثِرْهُ وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِن فَلَمْ أوَفِّـرْهُ"..

 

وقد وسع الإسلام دائرة المسؤولية المتعلقة بالناس فوصلت إلى الحيوان والنبات حيث ورد عن علي(ع): "اتقوا الله في عباده فأنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".

 

وهذا الجهد لم يشأ الإسلام أن يحمله للفرد فحسب بل امتد إلى أن يحمل الأمة المسؤولية لأن هناك من الحاجات والمتطلبات التي تحتاج إلى تضافر جهود الأمة للقيام بها فقال: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"..

 

ولقد منح الله لهؤلاء المؤمنين المهتمين بالشأن العام من الذين يعالجون قضايا الناس وشؤونهم من أفراد ومجتمعات قيمة كبيرة فقال:"وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ورفع من شأنهم حتى ورد عن رسول الله(ص): "خير الناس من نفع الناس"

وورد أيضاً " خصلتان ليس فوقهما شيءالإيمان بالله والنفع للناس".. وقد ورد في القرآن الكريم: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[النساء/114].

 

وفي الحديث "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه وألطفهم بهم واسعاهم في حوائجهم".

 

وهذا الاهتمام بالشأن العام لا يترك انعكاسه الإيجابي على موقع الإنسان عند الله وموقعه بين يديه فحسب، بل له انعكاس على الإنسان نفسه في حياته و خاصة ان المكاسب المرتجاة من كل ذلك قد تصل إليه أو إلى كل القريبين منه من فقراء ومحتاجين حين تتعمم روح المسؤولية والخير والعطاء في المجتمع، أو حين يعمل أو يساهم في بناء المؤسسات التي سوف يستفيد منها الكثيرون في المستقبل، وقد يستفيد منها أبناؤه أو أحفاده، عندما يحتاجون إليها، والأمر نفسه عندما نتحدث عن الاهتمام بالصحة والبيئة أو بالوضع الاقتصادي أو السياسي..

 

إننا أحوج ما نكون إلى تنمية هذا الاهتمام بالشأن العام وقضاياه، فمشكلات مجتمعنا وحاجاته كبيرة، وهي بحاجة إلى جهود أفراده جميعها، كل من موقعه، وهنا لا بد للمؤسسات التربوية والإعلامية والسياسية من تعزيز هذا الشعور بالمسؤولية وتنمية روح المبادرة بين الأفراد والثقة بالنفس، بحيث يخرج الإنسان من عقلية الاستقالة أو ذهنية اللامبالاة، فيساهم بتحسين أوضاع الناس على جميع المستويات، ولو ببذل قدر وافٍ من التضحية بالمال والوقت والجهد، وأن يتحمل كلفة هذا الدور و صعوبته.

 

إن تحمل مسؤولية الانخراط في الشأن العام طريق ليس مفروشاً بالورود، فهناك تضحيات وبذل جهود، ولكن وراء ذلك سعادة ليس بعدها سعادة عندما يرى الإنسان نتائج عمله وأثاره فيما أدخله من سرور على الناس، أو خفف من معاناتهم، أو أزال ظلماً أو رفع جهلاً، وبالطبع هناك الوضع المميز له عند الله.. وهو الذي وعد العاملين بأنهم لهم مقعد صدق عنده {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}[النساء/ 124].

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الله لنا، وهو خير من يوصي، عندما قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، فلنتقِ الله حقَّ تقاته. والتقوى، أيها الأحبة، تعني أن يملأ الله قلوبنا، أن لا يكون أحدٌ معه، وأن يكون هو من يحركنا ويُملي علينا، فنحن مع التقوى، لا نقدم رجلاً ولا نؤخر أخرى، لا ننطق بكلمة، لا نتّخذ موقفاً، لا نؤيد، لا نعارض، لا نمدّ أيدينا ولا نمنعها، لا ننفعل، لا نتوتر، حتى نعلم أننا نرضي الله، وأنَّ قرارنا في الحياة نابع من إرادته.

 

وقد عبَّر عليّ (ع) عن ذلك عندما تحدَّث عن علامات يتميَّز بها المتقون، فمن علامة أحدهم أنَّك ترى له قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين.. وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة.. وَطَلَباً فِي حَلاَل.. وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع.. وقرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما يفنى.. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون..

 

ومتى بلغنا هذه القيمة وتمسَّكنا بها، فسنكون بالطبع أوقر الناس وأعزّ الناس وأوعى الناس.. هذا ما قاله الله لنا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.. وسنبلغ وعده: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.. وعندها فقط سنواجه التحديات والصعوبات، وما أكثرها!

 

القدس

والبداية من القدس التي أعادت قضيتها الحرارة إلى الأمة وأمدَّتها بالحيوية والحضور، بعدما كادت الحياة تموت فيها.. وقد جاءت الأيام السابقة منذ صدور قرار الرئيس الأميركي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، لتبرهن مجدداً عن عمق حضور قضية القدس في وجدان العرب، المسلمون منهم والمسيحيون، ولتؤكّد أنّ كل الأزمات التي عصفت بهم طوال السنوات الماضية، لم تنسهم هذه القضيّة، كما كان يخطط، فهي محفورة في وجدانهم وقلوبهم، وهو ما عبرت عنه مسيرات الاحتجاج الحاشدة التي خرجت في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وفي الخارج، أو في المواجهات التي جرت وتجري مع كيان العدو الصهيوني في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وفي المواقف التي صدرت أو البيانات الرسمية التي خرجت عن الجامعة العربية والقمة الإسلامية.
 

ونحن أمام ذلك، نحيي كلّ الأصوات والأقلام والمواقف والتضحيات التي عبَّرت عن وفائها للقدس ولكل فلسطين، وإن كنا ننتظر مواقف أكثر فعاليةً وقوةً من الجامعة العربية والقمة الإسلامية، تكون بمستوى خطورة ما جرى وما يمكن أن يجري، وتلبي طموحات الشعوب العربية والإسلامية، ولكن هذا ما اعتدنا عليه، فالشّعوب في وادٍ، وأغلب الحكام العرب والمسلمين في واد آخر.
 

إنَّنا نرى أهميّة الاستمرار بهذا الحضور، وأن لا يكون سحابة صيف، فإن استمرّ، فسيحرج الإدارة الأميركية ــ بالطبع ــ وسيدفعها إلى إعادة النظر في قرارها، أو إلى تجميده، وإلى منع أي خطوة أخرى مماثلة، فأميركا لن تعود عن هذا القرار إلا إذا شعرت بأن ما جرى كان مكلفاً، ولن يكون هبَّة وانفعالاً، بل سيكون انتفاضة وحركة شعب لا يريد أن يستمرّ مسلسل التنازلات، بل أن يسترجع ما أخذ منه من حقوق.
 

إنَّ المطلوب من الشّعوب أن تكون على مستوى خطورة هذا الحدث وتداعياته، والمواقف التي تتخذ لا بد من أن تأخذ هذا الأمر بالحسبان.. وعليها أن لا تعتبر نفسها أدَّت قسطها إلى العلى بأن قامت بما قامت به، فما قامت به هو أول الطريق، وهناك الكثير مما ينبغي أن يعمل، فالصّراع الذي يجري ليس مع دولة عادية، بل مع دولة كبرى تملك الكثير من الإمكانات ومواقع التأثير، وهذا يستوجب المزيد من التخطيط والجهد والنفس الطويل.
 

ونحن في ذلك، سنبقى نراهن، كما راهنا سابقاً، على الشعب الفلسطيني، لا لنضع المسؤولية عليه وحده، فهي مسؤولية الجميع، ولكننا نراهن عليه نظراً إلى حجم تأثير تحركه وحضوره في الميدان.. وهذا يستدعي منه الوحدة والخروج من الانقسام الذي يعانيه، كما يستدعي مد يد الدعم المعنوي والمادي له، وهو الذي يعاني الحصار والتضييق والإفقار.. وهنا تقع المسؤولية على عاتق الحكومات العربية والإسلامية، فإن لم تحرك جيوشها وقواها لتحرير القدس وفلسطين، فلتحرك أموالها لخدمة هذا الشعب وتعزيز صموده.
 

إنَّنا سنبقى نؤكّد في ظلّ رهان البعض على حلول قادمة إلى المنطقة، أو على تحرك يغيّر مواقف الأمم المتحدة من الكيان الصهيوني، أو على تدخل هذه الدولة أو تلك، أن هذا الرهان على سراب، فالكيان الصهيوني لن يقدم شيئاً إذا واجهناه بالمنطق الذي يتعامل به، وهو القوة. لذلك، سيبقى رهاننا على صناعة القوة وبذل الجهد، وقبل ذلك وبعده على التخطيط المدروس، فنحن في عالم لا يحترم إلا الأقوياء، ولا تعطى الحقوق إلا لهم.. فلنعتز بمواقع القوة التي أنتجناها وننتجها، ولنحافظ عليها، بدلاً من العبث بها وإثارة علامات الاستفهام حولها وإسقاطها.. فالأمة الواعية هي التي تجمع نقاط القوة لا التي تبعثرها.

 

لبنان

ونصل إلى لبنان، الَّذي عادت فيه عجلة الحكومة إلى الدوران، ونحن نريد لهذه العجلة أن تنطلق بزخم كبير يعوّض على اللبنانيين فترة التوقف القسري، فهناك دين في ذمة الحكومة للشعب اللبناني الَّذي وقف معها، وهو يتمثل في إنجاز الملفّات المستعجلة التي عليها الإسراع بها، حيث تلوح بوادر أزمات عديدة، كملف الكهرباء المتوقّف، وملفات الفساد المفتوحة أو التي ينبغي أن تفتح، والملف الاقتصادي الذي يخشى منه، والذي لن يحلّ بمجرد إنجاز قانون النفط، كما يعتقد البعض.
 

ورغم إنجاز قانون النفط والغاز والبدء بالتلزيمات ــ وهنا نهنئ الحكومة والمجلس النيابي على إنجاز هذا الملف أخيراً وبعد طول انتظار ــ فإنَّنا نرجو أن لا يكون، كما كان يُقال، قد أنجز بعد محاصصة، فإنَّ لبنان بأمسّ الحاجة إلى إنجاز سياسة مالية واقتصادية تؤدي إلى ترشيد موارد الصرف المالي، وتعزيز الرقابة، ومواجهة جادة وحقيقية للفساد، ولا سيَّما المغطّى بأغطية سميكة، وضبط حركة المديونية التي تكاد تصل إلى مئة مليار دولار، بعد أن بات واضحاً أنَّ لبنان، ورغم كل الوعود المتصلة بالشأن الاقتصادي، عليه أن يقلع أشواكه بأظافره لا بأظافر الآخرين، فالمساعدات التي يتلقّاها لا تسدّ احتياجات البلد، رغم الوعود، ومن يراهن على النفط، فإنَّ النفط لن يأتي سريعاً، بل سيبدأ المردود بعد العام 2026 إن جرت الأمور كما رسم لها.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 28ربيع الاول 1439هـ الموافق :  15كانون الأول 2017م
 

 

 

Leave A Reply