التوبة باب مفتوح إلى الله

ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:

 

الخطبة الأولى 

تنقل لنا كتب السيرة أنه بعدما دعا رسول الله أصحابه جميعاً إلى الخروج معه إلى تبوك لملاقاة الروم، كان أحد المتخلفين عن الركب، الصحابي أبو لبابة الأنصاري. فقد أقعده عن الالتحاق برسول الله، فمعركة تبوك كانت في وقت الحصاد ففضل كسب المال والاستفادة من الموسم على الاستجابة لنداء رسول الله(ص).

 

يومها انسحب الروم ولم تحصل المواجهة، وعاد رسول الله والمسلمون الى المدينة، بعدها نزلت آيات تذم المتخلفين عن المشاركة بالمعركة -بالرغم من أن المعركة لم تحصل وهذا أمر يدعونا للتأمل- يومها ندم أبو لبابة ندماً شديداً، لم يذهب إلى الرسول للتعبير عن هذا الندم، بل لجأ إلى عمود من أعمدة المسجد وربط نفسه فيه بحبل غليظ…وأقسم حينها: "لا أحلّ حتى أموت عليه أو أن يتوب الله علي"

 

 ونزل جبريل على رسول الله يبلغه بأن الله قد قبل توبة عبده أبو لبابة…فأرسل رسول الله أحداً ليخبر أبا لبابة بفك الحبل عن نفسه،فقد تاب الله عليه، لكن أبا لبابة رفض أن يترك مكانه، وقال: لن أترك مكاني حتى أتصدق بكل مالي الذي لأجله لم أخرج معك، لقد فتنني مالي وأنا لا أريده، دعه كله يا رسول الله(ص) للفقراء والمساكين.

 

لكن رسول الله ورأفة به وبأبنائه وعائلته قبل منه أن يتصدق بثلث ماله…وجاء في الآية التي نزلت به: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

بعدها تحول العمود الذي ربط به أبو لبابة نفسه في مسجد رسول الله والقريب من مقام رسول الله مقصداً لكل الراغبين بالتوبة، وقد سمي بأسطوانة أبو لبابة.

 

أيها الأحبة:

إن من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده أنه فتح لهم الباب واسعاً للتوبة والعودة إليه مهما كبرت ذنوبهم وكثرت.. وفي أي وقت وفي أي مكان. هو حاضر لقبول توبتهم بدون أي واسطة، بل هو سبحانه حتى لم يسمح لهم باليأس والقنوط من رحمته، إذ أمر رسوله أن يبلغ الناس: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.

وقد ورد في حديث قدسي: "يا ابن ادم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن ادم لو لقيتني بتراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بترابها مغفرة".

ولا تقف حدود كرم الله عند ذلك، بل أعلن سبحانه أنه لا يكتفي بغفران الذنوب بل هو يحب التوابين ويحب المطهرين.

 

وفي موضوع التوبة ربما يسأل البعض: ألا يستدعي تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء للعبد بالمعصية لكون الإنسان إذا أيقن أن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته رغم اقترافه المعاصي فسيزيد ذلك من جرأته على ارتكاب المحرمات، والانهماك في الذنوب وسيدفعه ذلك إلى التمادي في المعاصي.. طبعا الأمر وارد أن يتصرف ضعاف النفوس ومن غرتهم الدنيا بهذه الطريقة، لكن لعبتهم مكشوفة فالأمور مرهونة عند الله بالنيات وليس بالأقوال. وأذكر هنا ونحن على أبواب محرم نموذجاً لهذه اللعبة المكشوفة، لعبة المجرم عمر بن سعد الذي حاول استغلال فكرة التوبة كي يشرعن لنفسه وللآخرين خياره الدموي قائلاً يومها بعد ان عرض عليه ابن زياد قيادة الجيش لمقاتلة ابن بنت رسول الله:

أأترك ملك الرّي والرّي منيتي *** أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

وإنَّ إله العرش يغفر زلّتي *** ولو كنت فيها أظلم الثقلين

يقولون إن اللّه خالق جنة *** ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون فإنني *** أتوب إلى الرحمن من سنتين

هنا الحجة واهية، ولم يكن هذا الطاغية في موقع من يتوب الله عليه.

 

ونعود للسؤال حول الحكمة من تشريع التوبة لنقول: علينا أن ننظر إلى مفهوم التوبة في سياق الرحمة الالهية، فالغفران والصفح عن الذنوب لا يحصلان إلا لأن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو الذي سبقت رحمته غضبه..

إنها رحمة خالصة بالعبد وهي حماية له، على عكس مما يتصور البعض. الباب المفتوح من الله يعطي أملاً للعاصي كي يتوب ويتراجع. أما الباب الموصد فإنه يدفع العاصي إلى التمادي…فكم وكم من الشباب عادوا إلى رحاب الله لاعتقادهم وإيمانهم أن الله يقبل توبتهم مهما عظمت وكبرت.

 

وهذا ما تُشير إليه الآية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً}…إذا التوبة أيها الأحبة تمثل علاجاً بقدر ما تمثل إسقاطاً للماضي.

ولكن كيف تتحقق التوبة، هل يكتفي الله من عباده أن يعلنوا التوبة حتى يحظوا بها؟ نعم باب التوبة مفتوح لمن يريد لكن لذلك مقدمات ذاتية.

 

أولها الاعتراف وترك المكابرة ، بأن يؤكد المرء لنفسه أنه عصى الله، و أنه أساء في علاقته معه، ثم يندم ويستنكر فعلته ويشعر بأنه ما كان ينبغي أن يبادل الله بالعصيان.

وبعدها، عليه أن يصلح ما بدر منه وما اقترفته يداه تجاه الخالق وتجاه المخلوق.

 

وهنا نذكر حديثاً ورد عن الإمام علي(ع) سمع رجلاً بحضرته يتحدث عن التوبة فحدّد له الإمام آليات التوبة:

1- الندم على ما مضى.

2- العزم على ترك العود إليه أبداً.

3- أن تؤدي إلى المخلوقين حقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

4- أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

5- أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

 

والتوبة حتى تكون شاملة لا بد أن لا تقف عند حدود الذنوب المتعارفة مما اعتدناه من ترك واجبات والإتيان بالمحرمات، بل تشمل التوبة أيضاً التقصير في أداء المسؤوليات العامة.. ومن النماذج ما ورد عن الإمام زين العابدين في دعائه: «اللّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلوُمٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ انَصُرْهُ.. وَمِنْ مُسيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذي فاقَةٍ سَألَنِي فَلَمْ أوُثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِنٍ فَلَمْ أُوَفِّرْهُ وَمِنْ عَيْبِ مُؤمِنٍ ظَهَرَ لي فَلَمْ أَسْتُرْهُ..».

دعاء يسلحك بحساسية مفرطة تجاه الذنوب والمعاصي، ويتجاوز موضوع الفرائض والعبادات الى المعاملات.

 

 

أيها الأحبة: إننا اليوم أحوج ما نكون إلى هذه المراجعة الدائمة لمسار حياتنا، إذ تواجهنا التحديات من كل حدب وصوب: أولها من أنفسنا الأمارة بالسوء تستمد قوتها من شيطان خبيث.. وتتغذى من كل الأجواء التي تحيط بنا وتغرينا بمعصية الله . ولهذا علينا أن نكون واعين، وأن لا نكف عن استعمال سلاح التوبة الذي منحه الله لنا، فهو سلاح قادر على أن يغلق ملف المعصية ويمحو آثارها. انظروا إلى هذا الحديث الذي يفيض رحمة: "من تاب تاب الله عليه وأمر جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وأنست الحفظة ما كانت تكتبه عليه".

 

أيها الأحبة:

فلنفتح قلوبنا على الله بعد أن فتح الله أبوابه لنا.. ولنلج التوبة من بابها الواسع.. فلا نغلقه على أنفسنا ولنسارع إليها.. فالله وعد الذين يسارعون إليه بالتوبة فيما لن يقبل أولئك الذين ينتظرون مجيء الموت وتباشيره حتى يتذكروا أن يتوبوا، هؤلاء لن يحظوا بذلك.. لقد قالها الله تعالى صريحة:

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيماً}.

فما دام في العمر بقية فلنبادر ولنغتنم الفرصة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله والعودة إليه، ونحن على أعتاب بداية رأس سنة هجريّة جديدة، نريدها أن تكون مناسبةً للتفكّر والتأمّل والمراجعة، وهذا ما تعلَّمناه من ديننا الّذي يدعونا إلى المراجعة الدّائمة عند بداية كلّ يوم.. فرسول الله(ص) كان يصلّي في هذه المناسبة ركعتين، يقرأ في كلّ منهما الفاتحة، وسورة التّوحيد عشر مرات، وآية الكرسي، ثم يدعو بهذا الدّعاء:

"اللَّهمّ ما عملت في هذه السّنة من عملٍ نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيته ولم تنسه، ودعوتني إلى التّوبة بعد اجترائي عليك، اللّهمّ فإنّي أستغفرك منه فاغفر لي، وما عملت من عملٍ يقرّبني إليك، فاقبله منّي، ولا تقطع رجائي منك يا كريم".

 

ثم كان يقول: "اللّهمّ وَهذِهِ سَنَةٌ جَديدَةٌ، فَأَسْأَلُكَ فيهَا الْعِصْمَةَ مِنَ الشَّيْطانِ، وَالْقُوَّةَ عَلى هذِهِ النَّفْسِ الأمَّارَةِ بِالسّوءِ، وَالاْشْتِغالَ بِما يُقَرِّبُني إِلَيْكَ يا كَريمُ، يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرامِ".

أيّها الأحبَّة، من باب التَّوبة الصَّادقة، ومن باب المراجعة الدَّقيقة لكلِّ حصاد السّنة، ومن باب الاستشراف لسنةٍ أفضل مع الله ومع أنفسنا ومع الحياة، والتّخطيط لها.. فلندخل في رحاب سنة جديدة ونحن أكثر طهراً وصفاءً ومسؤوليّةً وقربةً من الله، ولنعمل حتى لا تكون السّنة الجديدة تكراراً للسّنة الّتي سبقتها.. بهذه الرّوح، نصبح أكثر وعياً لأنفسنا ومسؤوليّاتنا، وبذلك نواجه التحدّيات.

 

فلسطين

والبداية من فلسطين، حيث يستمرّ العدوّ بسياسته الهادفة إلى فرض أمرٍ واقع بدأه في تقسيم المسجد الأقصى زمانياً، والتمهيد لتقسيمه مكانياً، لبلوغ حلمه في إقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه، فهذا جزء أساسيّ من خطته لتهويد القدس وفلسطين.. في الوقت الَّذي يقف الشعب الفلسطيني وحيداً هذه المرة للقيام بمسؤولياته، بلحمه العاري، وبوسائله البسيطة وإمكاناته المتواضعة، حيث بات سلاحه سكينه وحجارته وسيارته، وهو لا يبالي في ذلك بردود الفعل، ولا المخاطر الجديّة التي يمكن أن تلحق به..

 

وفي هذا الوقت، يستمرّ الصّمت العربيّ المطبق، سوى من مواقف ليست بمستوى الحدث ولا تداعياته الخطيرة، ولا توازي في حجمها أو في شكلها ردود الفعل الأخرى على قضايا راهنة، تارةً تحت عناوين قطرية مثل: ما علاقتنا بفلسطين والمسجد الأقصى؟ وتارة أخرى تحت عناوين دينية، من قبيل أن الإسلام يواجه تحديات أخطر من استرداد الأقصى أو القدس، ومع الأسف، هذا المنطق هو السائد، ومن الواجب التصدي له بكل مسؤولية.

 

إننا أمام كل ما يجري، نحيّي الشباب الفلسطيني المجاهد؛ هذا الشباب الَّذي انتفض لأجل القدس والأقصى وفلسطين، دفاعاً عن كلّ العالم العربي والإسلامي، متحمّلاً وحده كلّ هذا القهر المستمر منذ سنوات، وكله أمل حقيقي وجادّ بعودة فلسطين إلى أهلها، بعدما توقع الكيان الصهيوني ومعه الكثيرون تدجين هذا الشعب، في رهان فاشل على نسيان جيل ما بعد اتفاقية أوسلو لقضيّته والخضوع للسلام الذليل الذي يحاول الكيان فرضه.

إننا مع كلّ ذلك، نعيد دعوة الشعوب العربية والإسلامية ودولها، إلى الوقوف الجاد مع هذا الشعب، والنزول إلى الشارع والتعبير بأصواتهم وأقلامهم ومواقفهم، وبكلّ ما يملكون، وهذا أولاً مسؤولية شرعية وقومية وإنسانية، وحتى لا يشعر هذا الشعب بأنه وحيد ومستفرد به في معركة ينبغي أن تكون معركة الأمة جمعاء.. وفي الوقت نفسه، ندعو الفصائل الفلسطينية إلى الخروج من حالة الانقسام التي تعيشها، وإلى الوحدة، لمواكبة انتفاضة هذا الشعب وتطويرها، وتوسعة دائرتها إلى أبعد مدى وحمايتها.

 

ولا بد هنا من أن نتطلع إلى السلطة الفلسطينية.. بأن تأخذ قرارها التاريخي بإنهاء التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني، والذي لا يستفيد منه سوى هذا الكيان، وعدم الاكتفاء من ذلك بالتهويل.. أو برفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة، ولا بكل الإنجازات الشكلية والوهمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع عند هذا العدو أو عند العالم المستكبر.

 

سوريا

وإلى سوريا، الَّتي لا يزال شعبها ينتظر حلولاً تخلّصه من آلامه ومن معاناته المستمرة.. والتي نخشى أنها لن تكون قريبة، في ظل استمرار التجاذب الإقليميّ والدوليّ على هذا البلد واحتدامه، ما حوَّله إلى ساحة صراع يتعدّى حدوده.

وهنا، وفي ظل ما يجري في سوريا، لا بدَّ من التنبه إلى ما يروج له البعض من اعتبار تدخل الدول الكبرى لحساب هذا المذهب أو ذاك، أو هذا الدين أو ذاك، كما يتحدث البعض عن أن تدخل أميركا ومن معها هو لحساب المذهب السني.. وأنّ تدخل الروسي هو لحساب المذهب الشيعي…في الوقت الذي يعرف الجميع أن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية ولا متعهّدة أديان.. بقدر ما تعمل لمصالحها وطموحاتها..

 

إننا ندعو إلى مزيد من الوعي الذي يجعلنا نفهم مقاصد هذه الدولة الكبرى أو تلك.. كي لا نكون الحطب لأحد، وكي لا نسمح لأحد بأن يحول أي بلد من بلادنا، ومنها سوريا، إلى موقع لتصفية حساباته، أو لتعزيز وجوده ومصالحه، أو لتقوية حضوره.

وهذا لا يعني أن لا نستعين بأحد أو أن لا نتحالف مع أحد.. فهذا قد يكون ضرورة.. ولكن ما يجب أن نطرحه دائماً: تحت أي شروط؟ وضمن أي حساب؟ وماذا بعد هذا التدخّل؟ لكي لا نلدغ من جحر العراق ولا ليبيا مرة أخرى..

 

إننا نعيد التشديد على أنّ رهاننا يجب أن يبقى على توافق عربي وإسلامي نراه الأسلم لحل كل قضايانا، ونحن قادرون على إيجاد حلٍّ إن صفت النيات وغابت الهواجس.

 

لبنان

ونعود إلى لبنان، الّذي يكتوي بنار سياسييه الذين يتصارعون على كل شيء على الهواء مباشرة.. كما يكتوي بنار الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والبيئي.. وبالأوضاع الأمنية المتردية في أكثر من منطقة، وبالخوف المتجدد من التفجيرات كتعبير عن الاحتقان المتزايد في المنطقة، ومن الصراع المتمادي الذي بات يطاول كل شيء.

 

لقد كنا نأمل من الحوارات الداخلية أن تنتج شيئاً يحرك العجلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويستجيب للحراك الشعبي الذي بحّ صوته من الحديث عن الفساد المستشري الذي بات من سمات هذا البلد.. وعن النفايات والكهرباء والمياه.. ولكن يبدو أن أركان السلطة لا يريدون أن يمسكوا قرارهم بأيديهم، منتظرين حلول الخارج المؤجّلة بانتظار انجلاء الغبرة عن المنطقة.. وما على اللبنانيين إلا الصبر، وتقطيع الوقت، وترقّب الحلول التي باتت في ظل هذه السياسات اللامبالية بقضايا الناس، رهن الكرامات التي نسأل الله أن يوفّق أهل السياسة لبلوغها، ونخشى أن لا يبلغوها.

 

 

رأس السنة الهجرية وذكرى عاشوراء

وأخيراً، تطلّ علينا مناسبة السنة الهجرية الجديدة؛ السنة الألف والأربعمائة والسبعة والثلاثين لهجرة النبي(ص)، والتي نأمل أن تكون سنة خير؛ سنة هجرة من واقع سيّئ إلى واقع أفضل، وعلى الأقل إلى واقع أقل سوءاً، وأن تكون سنة حلول للكثير من قضايانا، يتوقَّف فيها نزيف الدم وتدمير الحجر الذي نشهده في أكثر من بلد..

 

وتطلّ علينا أيضاً ذكرى عاشوراء، التي نستعيد معها العاطفة والحب والولاء للحسين وأهل بيته(ع)، ونستعيد معها أيضاً الوعي لكلّ التطلّعات الَّتي استشهد الحسين(ع) لأجلها.

إننا نريد لهذه المناسبة أن تكون مناسبة للوحدة.. لأنَّ الحسين لا يمكن أن يكون إلا موحّداً للأمّة بدمه ودم أصحابه.

إنَّنا نريد لخطاب عاشوراء أن يكون خطاباً يستثير الوعي والعاطفة، لا خطاباً يستثير الغرائز المذهبية والطائفية.. فالحسين لم يطرح شعاراً مذهبياً في عاشوراء.. بل طرح شعاراً إسلامياً وإنسانياً.. ونريد لعاشوراء أن تعمّق فينا الأحاسيس الإنسانيَّة والقيم الكبرى.. وأن تبعث فينا الهمم لنقف مع كل قضايا العزة والحرية، وكل قضايا الإنسان، أينما كانت ووجدت.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 25 ذو الحجة 1436هـ الموافق : 9 ت1 2015م

 

Leave A Reply