الدنيا مزرعة الآخرة

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه: 
 
الخطبة الأولى
 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(صدق الله العظيم).

 

لقد جاء الدين وجل اهتمامه أن يوسع دائرة دور الإنسان بأن لا يقف دوره عند حدود الحياة التي يعيشها في الدنيا، بل تتسع لتشمل مرحلة ما بعد الموت، أن يعمل لليوم الذي ينزل فيه إلى قبره وحيداً بعد أن يترك أهله وماله ومناصبه وكل ما حصل عليه من هذه الدنيا بين يدي ربه..

 

فكما يبذل الإنسان جهوداً مضنية ويتحمل الصعوبات والمشقات ويواجه الأخطار حتى يضمن سعادته وراحته وأمانه في الحياة الدنيا، لا بد أن يبذل جهوداً أكبر لتحصيل الراحة والسعادة في الآخرة.. لكون هذه الحياة هي الحياة الأدوم والأبقى بل هي الحياة الأساس كما قال سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ}.. فالدنيا ليست سوى مرحلة والأساس في الآخرة..

 

وقد أشارت الأحاديث إلى ذلك عندما قالت: "الدنيا هي مزرعة الآخرة".. وفي حديث آخر: "إنّ الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملاً، لسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"..

وقد ندد الله سبحانه بالذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.. فقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}..

وقد جاءت الآية التي تلوناها في بداية الحديث لتعزز الاهتمام بتلك الحياة.. حياة الآخرة والعمل لبنائها.. حين توجهت بالنداء إلى المؤمنين قائلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.. فهي أعدت المؤمنين إلى أن يأخذوا الاستعداد للحياة ما بعد الموت على محمل الجد.. وقال تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..}.. فهذه الآيات دعت الإنسان إلى أن يبقى ماثلاً أمامه سؤال.. ما الذي تزودته لهذا اليوم وماذا أعددت له؟.. وهل سأكون من المحظوظين فيه والسعداء.. وحتى يعزز الله في الإنسان الإحساس بالمسؤولية، جاءت الإشارة من الله {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.. ليشعر كل إنسان أن خطواته في الحياة وأهدافه هي تحت عينه ورقابته.. ونحن إن غفلنا عنه لهو لن يغفل عنا..

 

فالله وكل بهم من يحُصي عليهم دقائق أعمالهم ويسجلها في كتاب مبين.. فلا يكن غافلاً كما هي حال الغافلين، ولذا قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}..

وقال: {جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.. وقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}..

 

ومن هذا المنطلق علينا أن نشعر دوماً أننا في حضرة الله، وأن نعمل حتى نعزز موقعنا في الآخرة حيث المستقر والمقام، وحتى نكون آمنين في الموقف الرهيب الذي أشار إليه الله بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}..

 

وفي ذلك يقول الحديث: "أن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً، وعليك مشفقا، وإليك محسناً، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا.. وأن الرجل ليقول لزوجته مثل ذلك: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول له: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه.. وتأتي المرأة إلى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء.. يا بني حسنة أنجو بها من النار، فيقول: إليك عني يا أماه..".

 

وانطلاقاً من ذلك جاء في السيرة أن النبي(ص) كان يحب لأصحابه أن يسارعوا العمل وبذل الجهد حتى لا يصل المؤمن إلى ذلك اليوم وهو خالي الوفاض، فهذا اليوم لن يحظى فيه بالفوز إلا الذين اتقوا وجاهدوا وصدقوا وأحسنوا وعملوا، وقد جاء في ذلك عن رسول الله(ص): "تصدَّقوا ولو بصاعٍ من تمر، ولو ببعض صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، ولو بتمرة، ولو بشقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة لينة، فإنَّ أحدكم لاقِ الله فقائل له: ألم أفعل بك ؟ ألم أجعلك سميعاً بصيراً؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ فيقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت لنفسك، قال: فينظر قدَّامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار"..

 

وفي حديث آخر: أن رسول الله كان جالساً مع عدد من أصحابه، إذ دخل قوم من بني مضر، متقلّدين السيوف تعبيراً عن استعدادهم للجهاد مع رسول الله.. ولكن كانت تبدو عليهم آثار الفقر والحاجة، فعندما رأى رسول الله آثار الحاجة والجوع عليهم، تغيّرت ملامح وجهه، فدعا الناس إلى المسجد فقام وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال(ص): "أمّا بعد، ذلكم فإنّ الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..} تصدّقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدّقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة، تصدّق امرؤ من ديناره، تصدّق امرؤ من درهمه، تصدّق امرؤ من برّه، من شعيره، من تمره، لا يحقّرن شيء من الصدقة ولو بشقّ تمرة..".. فقام رجل من الأنصار، وأعطى كيساً لرسول الله(ص) فظهرت آثار الفرحة والسرور على وجه رسول الله(ص) ثمّ قال(ص): "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من اُجورهم شيئاً، ومن سنّ سنّة سيّئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئاً. فقام الناس فتفرّقوا فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي طعام ومن ذي ومن ذي فاجتمع فقسّمه بينهم".. إذن نحن من خلال ما عملناه في الدنيا وما نقدم، نحن نبني موقعاً بين يدي الله..

 

وقد حرص القرآن الكريم على أن يضعنا أمام نموذجين، نموذج من قدم لنفسه، بأن عبد الله حق عبادته وتجهز ليوم القيامة: {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}، ونموذج ممن عاش لنفسه {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}..

 

وفي آية أخرى مماثلة يذكر أحوال الذين عاشوا الحياة مسؤولية وعطاءً حين يقدمون إلى ربهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. أما أولئك الذين عاشوا الحياة لأنفسهم استكباراً وكفراً وأنانية، فسوف تكون أحوالهم كما تذكر الآية: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}..

 

فلنحاسب أنفسنا جيداً وأن ندقق في الحساب، حتى نثق بأننا في الاتجاه الصحيح فلا نُخدع ولا ننغش بأدائنا للعبادات الواجبة بينما لا يلقى من حولنا منا أي خير أو عطاء أو بذل، بل على العكس من ذلك فليتكامل إيماننا مع عمل الصالحات، وإلا يحصل التقصير في أي من تلك الطاعات.. ومن ثم العمل على أن يحاسب الإنسان نفسه على ما عمله، وقد ورد في الحديث: "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها.."..

 

إن محاسبة النفس أيها الأحبة في مفهوم المؤمن ليس خياراً بل هو واجب.. أما كيف؟

 

فعن أمير المؤمنين(ع) حين سئل كيف يحاسب الرجل نفسه، حيث قال(ع): إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، واللَّه سائلك عنه فيما أفنيته فما الذي عملت فيه؟ أذكرت اللَّه أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن…؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد اللَّه عزَّ وجلّ‏َ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر اللَّه عزَّ وجلّ‏َ وعزم على ترك معاودته"..

 

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وممن يحظون بحساب أنفسهم قبل أن يحاسبوا وأن يزنوها قبل أن يوزنوا وأن يتجهزوا للعرض الأكبر حين لا تخفى منهم خافية..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به أمير المؤمنين عندما قال: "يا أيُّها الناس، فإنَّه، والله، الجدّ لا اللعب، والحقّ لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعية وأعجل حادية (حيث لا حي إلا هو)، فلا يغرنّك سواد الناس من نفسك، (لا تغتر بكثرة الأحياء، فكلما رأيت حياً زعمت أنك باق)، وقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال، وحذِر الإقلال، وأمن العواقب.. كيف نزل به الموت، فأزعجه عن وطنه، وأخذه في مأمنه.. محمولاً على أعواد المنايا، يتعاطى به الرّجال الرّجال، حملاً على المناكب، وإمساكاً بالأنامل.. أما رأيتم الَّذين يأملون بعيداً، ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً، كيف أصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، لا في حسنة يزيدون، ولا من سيّئة يستعتبون.. فمن أشعر التقوى قلبه، برز مهله، وفاز عمله.. فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار".

لقد أرادنا الإمام (ع) أن نتَّعظ مما يحصل لغيرنا، وأن نخرج من غفلتنا، لنكون أكثر وعياً ومسؤولية، وحتّى نسرع قبل أن يأتينا الأجل، وبذلك نصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي يدخل سنة جديدة على وقع الأزمة السياسية الحادة التي تقض أركان الدّولة فيه، وهي لا تقف عند حدود التعامل مع المرسوم الذي يتعلَّق بأقدمية الضباط عن دورة 1994، بل تتجاوز ذلك إلى آلية إصدار المراسيم والتوقيعات وموقع وزارة المال فيها، وهي قابلة للتفاقم في ظل عدم التوافق، إن لم يتم الاحتكام إلى مرجعيَّة دستوريَّة هي خارج دائرة الاصطفافات الموجودة، أو إلى التوافق الذي يأخذ بعين الاعتبار التوازن بين مختلف الطوائف في هذا البلد الذي نعتقد أنَّه هو مرجعية المرجعيات.

 

وإلى أن يحصل هذا الأمر، فإنَّنا نرجو أن لا يؤثّر ذلك في معالجة العديد من القضايا العالقة التي تستنزف موارد الدولة، كما هو ملفّ الكهرباء أو الفساد أو البيئة وصحة المواطن، وملف النفايات أو المطالب المشروعة للمياومين والمتعاقدين أو الملف الاجتماعي أو المعيشي.

 

في هذا الوقت، ومع بداية السنة الجديدة، تدخل إلى حيّز التنفيذ زيادة 1% على القيمة المضافة، بعد الـ 10% السابقة على العديد من الخدمات والسلع التي أقرها مجلس الوزراء، والتي ستثقل كاهل المواطنين، وتؤدي إلى زيادة منسوب الفقر في هذا البلد.

 

وهنا، نسأل عن مدى رقابة وزارة الاقتصاد ومصلحة حماية المستهلك على الأسعار التي ترتفع أكثر مما يفرضه القانون.

ونبقى في لبنان، لنلفت إلى مدى استهداف العدو الصهيوني للوضع الداخلي اللبناني وإحداث فتنة فيه، والَّذي تجلَّى في الكشف عن تجنيد الموساد الصهيوني لأحد الأشخاص، للقيام باغتيال إحدى الشخصيات اللبنانية، في ظل ظرف حساس، وهو ما يدعو اللبنانيين إلى مزيد من الوعي وأخذ دور العدو بعين الاعتبار، لا في استهداف الأرض والجو والبحر فقط، بل في تهديد النسيج الداخلي اللبناني والعبث فيه أيضاً.

 

فلسطين

وإلى فلسطين، حيث يستمر الكيان الصهيوني في ممارساته القمعية بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، لمنعه من التعبير عن رفضه للقرار الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، والذي يواكب بإصدار تشريعات وقرارات لفرض أمر واقع يمنع من التفاوض على القدس أو تقديم أي تنازل لحساب الشعب الفلسطيني.

في هذا الوقت، تستمر الإدارة الأميركية بممارسة ضغوطها على السلطة الفلسطينية، لتليين موقفها والرضوخ للسياسة الأمريكية التي ترسم لفلسطين، وكان آخر تجلياتها التهديد بقطع المساعدات المقدرة بـ 300 مليون دولار، التي تقدمها للسلطة الفلسطينية.

 

إنَّنا نرى في هذا التّصعيد الّذي بدأ بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان العدو، والذي يستكمل من قبل الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، منعطفاً خطيراً على مستقبل فلسطين والقدس، ولا بد من أن يقابل برد يناسبه.. ونظراً إلى أهمية الإعلان الفلسطينيّ بالذهاب إلى المحاكم الدولية، التي توجد في ملفاتها الكثير من القضايا التي تدين الكيان الصهيوني وجرائم العديد من قادته، أو برفض الابتزاز الأميركي بإرغام الشعب الفلسطيني على بيع القدس بحفنة من المساعدات المالية.. فإنَّ على القيادة الفلسطينية إظهار الموقف الحاسم، بإعلان سقوط الحل التفاوضي، ووقف التنسيق الأمني مع العدو، وتذليل كل العقبات التي تعرقل قيام وحدة وطنية فلسطينية، وذلك بما يؤمن كل الشروط لتفعيل هذه الانتفاضة لتشمل كل فلسطين.

 

كما ندعو الدول العربية إلى تحمّل مسؤولياتها، بالسعي إلى اتخاذ مواقف ضاغطة على الإدارة الأمريكية وعلى الكيان الصهيوني. إنَّ من المستغرب أن لا تثير قضية القدس أي شعور بانتهاك خطير للكرامة العربيَّة، أو أن لا تشكل مدخلاً لبناء موقف وحضور عربي موحد، وطيّ جراح الانقسامات الراهنة، فإن لم نتوحّد حول القدس، فعبثاً أن توحدنا أية قضايا أخرى.

 

ايران

ونصل إلى إيران التي استطاعت، بفضل وعي شعبها وحكمة قياديها، أن لا تقع في فخ الفوضى الذي كان يراد لها أن تقع فيه.. والذي يعرف الجميع تداعياته والتدخلات التي تحصل بسببه، والشواهد على ذلك كثيرة.

 

ونحن في ذلك، لا نغفل وجود أزمة اقتصادية واجتماعية تستدعي حلاً، ولا بد من استنفار كل الجهود لمعالجتها.. ولكن يبقى الحذر من الداخلين على خطها، ممن يعملون على إخراجها عن مسارها، ويكفي للدلالة على ذلك حجم التحريض الذي صدر عمن أعلنوا ولا يزالون يعلنون العداء لإيران، وعن الذين لا يكنّون خيراً لشعبها أو ليسوا حريصين عليه أو على رفاهيته.. وهم الذين كانوا السبب في وصولها إلى هذا الواقع.

 

إنّ ما جرى يستدعي من كل القيادات في الجمهورية الإسلامية التوحد على السبل الكفيلة بإخراج هذا البلد من تداعيات أزماته الاقتصادية، كما ندعو الشعب إلى الصبر حتى بلوغ الحل لذلك.

 

رحيل الحاج عبد الحسين بهمن

وأخيراً، فقدنا بالأمس رجلاً عرفناه من خلال آثاره التي تجلت في بنائه لهذا المسجد والمستشفى، والعديد من المبرات والمدارس والمساجد في لبنان وخارجه، هو الفاضل الحاج عبد الحسين بهمن.

 

 

إنني باسمكم، وباسم أخواني في جمعية المبرات الخيرية، وكل من استفاد ويستفيد من هذه المؤسسات، نتقدم من عائلته وأخوانه وشعب الكويت بأحر التعازي، سائلين المولى أن يعلي من درجته، وأن يجعله في الموقع الذي اختصّ به العاملين لأجل إعلاء دينه، والباذلين للخير ولخدمة الناس كل الناس.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 18ربيع الثاني 1439هـ الموافق: 5 كانون الثاني2017م

 

 

الخطبة الأولى

Leave A Reply