الفتنة تواجه بهدم المتاريس المذهبية

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[الأنفال: 25].

الفتنة يصنعها الشّيطان

في الأزمات، أوّل ما يتبادر إلى ذهن النّاس كلمة فتنة، فقد باتت جزءاً من ذاكرتنا، ليس في لبنان فحسب، بل في كلّ العالم العربيّ والإسلاميّ، كأنّها باتت قدراً محتوماً، لكثرة ما عانت الأجيال من ويلاتها ونعاني منها نحن اليوم.

والفتنة هي من الشّيطان، والفَتّان اسم من أسمائه، والفتن الّتي ينسج خيوطها هو وجنوده تتعدّد غاياتها، وأسماؤها، ومظاهرها، فإذا ظلّت في دائرة الفرد الواحد، فإنّها امتحان واختبار، أمّا حين تعمّ وتجتاح الناس، وتتدحرج كرتُها كالوباء لتصيب أمّة أو شعباً أو وطناً، هنا تصبح الفتنة هي النّار، والحرب، والمحنة، والبلاء، والإرهاب، والعنف…

نعم، في مثل هذه الفتن، يصبح للشّيطان اليد الطّولى في رسم مسار الفتنة، إذ يستنفر العصبيّات والانفعال، ويسخّر جيشه وجنوده لإسكات أيّ صوت للعقل أو الحقّ، ويُطلق الأهواء وأسلحة الغضب والكره والحقد من عقالها، بعيداً عن أيّ ضوابط عقليّة أو دينيّة أو عرف. وبذلك يتزيّا الباطل بلبوس الحقّ، ويُزخرف الحقّ ليبدو باطلاً، وتُرفع رايات، وتُطلق شعارات، وكلٌّ يدعي أنّه ممثّل الحقّ والحقيقة، وهكذا يُتاح لمضرمي الفتنة إقحام أكبر عدد ممكن من النّاس في طاحونتها..

موقف الإسلام من الفتنة

أمّا موقف الإسلام من الفتنة، فواضح وضوح الشَّمس، ففي آخر حجَّة له، وفي خطبة يوم النَّحر، كانت آخر وصيَّة لرسول الله(ص) إلى المسلمين قبل أن توافيه المنيّة في ٢٨ صفر: "ألا لا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

يومَها، كان الإسلام قريب العهد من جاهليَّة هوجاء ظالمة، لهذا كان أخوف ما يخافه على أمّته، عودتها إلى مجاهل تلك المرحلة من التّشرذم وشيوع التعصّب، حيث كان يمكن لأتفه الأسباب أن يُشعل نار فتنة بين قبيلتين أو عشيرتين، وقد تدوم لسنوات، حتّى إذا خمدت، تظلّ نارها حيّة تحت الرّماد.

لهذا، رسم الرّسول(ص) خطوطاً حمراً: "إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا".

وإذا كان سفك دم الإنسان أحد مصاديق الفتن، لأنّه دم معصوم، لذلك لم تتوقّف خطوط التّحريم الحمراء عند مسألة القتل، حيث اعتبر القرآن "الفتنة أشدّ من القتل".

ومن هذا الموقع، نظر الإسلام إلى الفتنة، ومن هذا الموقع أيضاً، كان حرصه على بناء صمّامات أمان وقائيّ تحول دون قيام الفتن، بتكريس منظومة ردع سلوكيّة وإيمانيّة وأخلاقيّة، تردع المؤمن عن الوقوع في وحول الفتنة والتعصّب والكره والعنف، وتدفع به في الوقت نفسه إلى التمسّك بخُلُق بديل هو الأساس لقيام مجتمع متعاون متراحم.

لقد قدّم القرآن الكريم الإسلام دين رحمة وسلام وحبّ تعاون وحوار، وتواصل وانفتاح وتقبّل للآخر، وكرّس الرّسول(ص) وأصحابه هذا التوجّه في سلوك يوميّ، حتّى قال الإمام عليّ(ع): "… علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (ص) بين أظهرنا".

ولأنّ التعصّب كان جوهر الجاهليّة وعمادها، ولأنّه على رأس الأسباب الّتي تشعل الفتن، فقد كان الإسلام حازماً في محاربة أيّ شكل من أشكاله، باعتباره سلعة من سلع إبليس الّذي هو إمام المتعصّبين: "من تعصّب أو تُعُصّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه" (أي حبل الإيمان).

ووصل الأمر إلى التبرّؤ من المتعصّب، فقال الرّسول الأكرم: "ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منّا من قاتل على عصبيّة".

ويوم أبعِد الإمام عليّ(ع) عن الخلافة ـ وهو الّذي لم ينازع النّاس، ولم يشهر سيفاً ليطالب بحقّه، لأنّ عينه لم تكن موجّهة إلاّ إلى هدف واحد: وحدة المسلمين ـ قال كلمته البوصلة: "لأُسالمن ما سلمت أمور المسلمين.

عليّ(ع) الّذي دفع الكثير الكثير، وعانى الكثير للحفاظ على هذه الوحدة، نهانا أن نكون من رموز الفتنة، أو المشاركين فيها، حتّى ولو كنّا في موقع المظلوم. نعضّ على الجراح نعم، ونأبى الانجرار، ولا نستعمل إلا لغة الرّحمة، إذ قال: "أقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين، واتّقوا مدارج الشّيطان ومهابط العدوان".

مسؤوليّة مواجهة الفتنة

أيّها الأحبَّة: ونسأل أنفسنا: كيف السّبيل لنتحمّل مسؤوليّاتنا أفراداً ومجتمعاً تجاه أنفسنا وأمّتنا وتجاه الله سبحانه؟

هذا السؤال يُردّده كلّ مخلص، كلّما أطلّت نذر الفتنة برأسها، والجواب لا يمكن أن يكون فرديّاً فقط، بل يتطلّب جهداً تشاركيّاً من كلّ المخلصين، أفراداً وجماعات ومؤسّسات وهيئات ومفكّرين وعلماء وإعلاميّين.

إنّ من أوّل دروس المواجهة هو اليقظة والحذر. تريد أن تعرف من يُحرّك ويفبرك ويهيّئ للفتنة؟ إذاً، فتِّش عن المستفيد منها، ثم عن الأدوات الّتي ينفّذ بها.

إنّ أوّل ما تتوجَّه إليه أصابع الفتنة هو عقول النّاس، في محاولة لبلبلة الأفكار، وتعمية الحقائق، ونشر الأكاذيب، عملاً بقاعدة ذهبيّة عند صانعي الفتنة: اِكذب واكذب واكذب إلى أن يصدّقك النّاس.

وهذا ما تؤدّيه الإشاعة، فهي تختلق الأكاذيب والتّهم، وتغيّر من مسارات الحدث، وتقوده بالاتجاه الّذي يخدم تعميم الفتنة، أو إشعال شرارتها الأولى. أليس هذا ما تشهده ساحاتنا ونراه بأمّ العين؟

ولسوء الحظّ، فإنّنا نعيش في عصر الإعلام الإلكتروني، والفضائيّات، والتواصل الاجتماعي على الإنترنت. فخلال دقائق تنتشر أيّ إشاعة، من بيت إلى بيت، ومن شخص إلى شخص، بل تعبر القارّات، وتصبح الحبّة قبّة.

وما يزيد الطّين بلّة، أنّ بعض الفضائيّات المحليّة والعربيّة والعالميّة، تنخرط في لعبة الإشاعة، وتسخّر مراسليها على أرض الحدث، فيغيّرون ويبدّلون الحقائق في الاتجاه الّذي يخدم التوجّه السياسيّ للوسيلة الإعلاميّة.

أيّها الأحبّة: إنّ مواجهة الكابوس المرعب الّذي تخلقه الإشاعات والفرضيّات، أساس لا بديل منه، لمنع استنبات بذور الفتنة.

كما أنّ تبريد الخطاب الإعلاميّ في الصّحف والفضائيّات والمنابر هو أساس آخر، وضرورة للتّخفيف من منسوب الانفعال، ودعوات التعصّب والتّفرقة.

إنّ تبريد الخطاب الإعلاميّ يفرض عدم مواجهة السبّ بالسبّ، والشّتم بالشّتم، والابتعاد عن أساليب التّجريح. وعدم مبادلة الكلام القاسي بمثله. ولنتذكّر جميعاً قول أمير المؤمنين في معركة صفّين، لأصحابه الّذين راحوا يسبّون أهل الشّام كردّ فعل لسبّ أهل الشّام لهم: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين".

إنّ أيّ مجتمع يتوانى عن المحافظة على أمنه واستقراره، هو كمن يشرّع أبواب بيته لرياح السّموم، وللّصوص والعابثين. لهذا يحذّرنا القرآن الكريم: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 25].

فالفتنة إذا اندلعت، لن تميّز بين هذا وذاك. النّار ستطاول الجميع، المذنب والبريء. ومتى توانى المجتمع عن تحمّل مسؤوليّاته، أفراداً وجماعات، انعدم الأمن، وتساوى النّاس في تحمّل المسؤوليّة.

حلول في طريق المواجهة

أيّها الأحبّة: إنّ نذر الفتنة تدقّ أبواب بيوتنا، ولا حلول إلاّ من الدّاخل، والمطلوب الخروج من شرنقة الطّائفة والمذهب إلى رحاب الإسلام السّمح، إسلام الحبّ والتّراحم.

المطلوب لجان حكماء ومخلصين وعقلاء، لتشكيل خلايا تدير الأزمة، تحاصر الفتنة، تزيل ألغامها الّتي بدأ يزرعها المصطادون في الماء العكر. إنّ أصابع الطّابور الخامس تتسلّل إلى كلّ الأمكنة، حتّى إلى المساجد.

إنَّ المؤتمرات، والخطب والمواعظ من وراء المنابر، مهمَّة لإيقاظ الضَّمائر، وتبصير النَّاس، لكنَّها لم تعد كافية.

المطلوب توسيع دائرة الانفتاح، والنزول إلى الأرض. إنّ توصيف المشكلة لم يعد يكفي، بل المطلوب العمل.

نعم، المطلوب من كلّ المخلصين، علماء ومفكّرين وإعلاميّين ومتطوّعين، النزول إلى الأرض، للتّفتيش عن أفضل الحلول الّتي تهدم المتاريس المذهبيّة، وتطفئ النّار.

ألم ينصحنا الرّسول(ص): "إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه

هذا هو الوقت الّذي نحتاج إلى علم كلّ عالم ومخلص، ليعلن للجميع أن لا مكان للفتنة، والرّسالة بين أظهرنا.

لا مكان للفتنة والقرآن بين أيدينا، نتلوه وهو يدعونا: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران: 103]، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].

لنكن مخلصين لمسؤوليَّاتنا تجاه الله وأنفسنا ووطننا وأمَّتنا.

الله الله في دماء المسلمين، الله الله في وحدتهم..

حمى الله المسلمين من أعدائهم ومن أنفسهم، إنّه أرحم الرّاحمين.

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي مصدر عزّتنا، كما قال رسول الله: "من أراد أن يكون أعزّ النّاس، فليتَّق الله". هذه التَّقوى عاشها رسول الله بأسمى معانيها، وعبَّر عنها بهجرته من مكَّة إلى المدينة مطمئنّاً؛ الهجرة الَّتي نستعيدها في الأوَّل من شهر ربيع الأوَّل. وقد سجّل الله هذا الموقف بقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 40].

أيّها الأحبَّة، بهذا الإحساس العميق والجادّ بأنَّ الله معنا، نستطيع أن نواجه كلّ الواقع الصّعب، فالله الّذي نصر نبيَّه، وأخرجه من تحت سلطة قريش، وحماه في الغار، حاضر معنا، وقادر على أن يغيِّر سوء حالنا بحسن حاله، وأن ينزل سكينته علينا، ويؤيِّدنا بجنود لم نرها. ولذلك، لن نحزن، ولن نضعف، ولن نتراجع، برغم كلّ التحدّيات، وما أكثرها!

الإجرام مجدّداً

لم يكد اللّبنانيّون يلملمون جراحهم، ويكفكفون دموع حزنهم على أبنائهم الّذين قضوا جرّاء عمليات التّفجير والاغتيال الّتي طاولت النَّاس في شوارعهم ومساجدهم وأماكن تنقّلهم وعملهم، في طرابلس وبيروت والضّاحية، حتى امتدَّت يد الإجرام مجدّداً إلى حارة حريك، لتضيف إلى كلّ هذه المآسي في الوطن مآسي جديدة، وخصوصاً في الضّاحية الّتي لم تلملم بعد جراحها من آثار العدوان عليها.

ونحن إذ ندين هذا العمل الإجراميّ البشع الّذي استهدف أهلنا الصّابرين والمجاهدين، نسأل الله سبحانه وتعالى للضّحايا علوّ الدّرجة، وللجرحى والمصابين الشّفاء العاجل، ولا سيَّما من أصيبوا إصابات حرجة، ولأهالي الضّحايا ولأهل هذه المنطقة، المزيد من العزيمة والقوّة والعنفوان، فهم بالطّبع، وكما عهدناهم، لا تلين عزائمهم، ويثبتون في وجه العدوّ الصّهيونيّ، وكلّ الّذين يريدون العبث بأمن هذا الوطن، وتنفيس أحقادهم ومشاريعهم الاستكباريَّة فيه.

إنّنا نضع هذه الجريمة في سياق ما تشهده هذه المنطقة من دخول ثقافة غريبة إلى الدّين، الّذي كان ولازال يدعو إلى الرّحمة والمحبّة والتّواصل والانفتاح، ويؤكّد ثقافة العيش المشترك رغم الاختلاف الدّيني والمذهبي والسياسي… ولكنَّ هذه الثّقافة إلغائيّة وإقصائيّة، وبعيدة عن قيم الإنسان، كلّ الإنسان، ولا تقبل الآخر، ولا تقبل أيّ وجود يخالفها، أو أيّ لون غير لونها؛ ثقافة تستبيح الدّم وتحلّل إراقته.

ثقافة التّحريض!

ونحن نرى أنَّ هذه الثّقافة ما كانت لتجد لها طريقاً إلى واقعنا، لولا الحاضنة التي تأمَّنت لها، وحاضنتها الأساس هو الخطاب التَّحريضي الطائفيّ والمذهبيّ، وخطاب التَّخويف والتَّخوين الّذي يُلقى جزافاً، والمستغلّون لهذه الثّقافة والمستفيدون منها كثر، من دول وأجهزة استخبارات ومتعهّدي أحقاد. ولكن يبقى المستفيد الأوّل والأساس هو العدوّ الصّهيونيّ، الّذي يريد لهذا البلد الّذي هزمه، أن يتخبَّط في انقساماته وصراعاته، ويريد للضّاحية الّتي عصت عليه، رغم آلامها وجراحها، أن تعاني وتتألّم، وألا تعيش الاستقرار، وألا تبقى حاضنة للمقاومة، وموقعاً من مواقع القوّة.

ومن هنا، ندعو اللّبنانيّين، وانطلاقاً من المشهد المروّع الّذي حصل في حارة حريك، مشهد الدّماء النّازفة والدّمار الكبير، إلى جانب كلّ المشاهد المروّعة الّتي حصلت سابقاً، إلى أن ينطلق صوتهم واحداً، ليقولوا لكلّ النّادي السياسيّ في لبنان: كفى عبثاً بأمن إنسان هذا البلد واستقراره!

لقد آن الأوان لكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، وبعيداً عن كلّ الحسابات والارتباطات والاختلافات، الجلوس والتّلاقي والتّواصل، لدراسة كلّ السّبل الّتي تقي هذا البلد هذا الشّرّ المستطير، ومنع هؤلاء التّكفيريّين من أن يجدوا أيّة بيئة حاضنة لهم في أيّ منطقة، وعدم الاكتفاء بإصدار البيانات وتبادل التّعازي أو توصيف المشكلة، والعودة بعد ذلك، كلّ إلى موقعه وطائفته، لا يفكّر في ما ستحمله الأيّام القادمة لنا.

لقد بات البلد بحاجة إلى إطفائيّين حقيقيّين، يطفئون نيران الفتن، ويمنعون امتداد لهيبها، ويعزلون كلّ الأصوات الّتي تريد للفتنة أن تستمرّ، ولنارها أن لا تنطفئ. قد لا نستطيع إطفاء نيران ما يجري في ظلّ تعقيدات الدّاخل أو الخارج، ولكنّنا نستطيع أن نحاصرها، وأن نمنع امتدادها. ولو توافق اللّبنانيّون على مصلحة وطنهم، ولم يصغوا إلى هذا البلد أو ذاك، أو هذا الشّخص المجيّش للغرائز والانفعالات أو ذاك، لاستطعنا أن نصنع المزيد في هذا المجال.

إنَّنا نعيد التَّشديد على الجميع أن يرتفعوا إلى مستوى هذا الجراح النّازفة، والمخاطر المحدقة الّتي تهدّد مستقبل هذا البلد، وأن يقفوا صفّاً واحداً، لا خلف نعوش الشّهداء فقط، بل خلف وحدة الوطن واستقراره.

لحكومة جامعة تحمي البلد

وفي هذا المجال، ووسط إضرام النّار الّتي نخشى امتدادها، نعيد الدّعوة إلى الامتناع عن أيّة خطوة قد تساهم في تعقيد العلاقات بين اللّبنانيّين، والعمل على اتخاذ خطوة جامعة، من خلال حكومة يلتقي فيها الجميع، على أن تكون حكومة تعمل، لا حكومة تتنافر وتسقط عند أيّ اختلاف، حكومة تساهم في تحريك عجلة المؤسَّسات وتأمين الاستحقاق المرجوّ في انتخاب رئيس جمهوريّة جديد، لا حكومة تعطيل.

ولا بدَّ هنا من توجيه الملاحظة إلى كلّ النّادي السياسيّ، بضرورة الخشوع أمام مشهد الدّماء الّتي تسيل، بدلاً من استغلال الحدث لتسجيل نقطة على هذا الفريق أو ذاك، فيمكن للجميع أن يسجّلوا مواقفهم في أيّ وقت، ولديهم المجال واسعاً لتسجيل النّقاط.

إنَّنا أمام هذا الدّم؛ الدّم الطّاهر، الدّم المظلوم، وأمام أسلوب الجريمة الّذي لا يفرّق بين كبير وصغير، ولا حتَّى بين من ينتمي إلى هذا النَّهج السياسيّ أو ذاك، نؤكِّد أنَّ المطلوب هو استنكار الجريمة، فجرائم التَّفجير ينبغي أن لا تبرّر تحت أيّ اعتبار سياسي أو غير سياسي، حتّى يشعر اللّبنانيّون بوحدتهم أمام الجراح والآلام، وتكون المأساة سبباً لوحدتهم لا لتفرّقهم، فكيف نبني وطناً إذا كان أبناؤه لا يبالون بجراح بعضهم بعضاً!؟ بل والأنكى، أنّ هناك من يشمت بجراحات الآخرين ومآسيهم!

وفي الوقت الّذي نقدّر جهود القوى الأمنيَّة، لتفكيك الخلايا الإرهابيَّة والإمساك بقياداتها، ندعوها إلى العمل أكثر، بمزيد من التّنسيق فيما بينها. وهنا، لا بدّ من أن نقدّر أيضاً كلّ جهد أو هبة لتعزيز الجيش وتقويته، للوقوف بوجه إرهاب الدّاخل وإرهاب العدوّ الصّهيوني، فقوّة هذا البلد تكمن في تهيئة مناخات التّلاقي، وتقديم الحريصين عليه كلّ الدّعم لمؤسَّساته، لتسيير عجلتها بما يخدم مصلحة الوطن وأهله.

وفي هذه الظّروف، ندعو مجدّداً كلّ اللّبنانيّين إلى أن يكونوا خفراء، لا على مناطقهم فقط، بل على كلّ المناطق، فمسيرة السّلم في البلد واحدة، وأيّ خلل يصيبها في موقع ما، سوف ينعكس على المواقع الأخرى، كما أنّ أيّ تهديد لأيّ فريق، هو تهديد لكلّ الفرقاء، فالبلد لا يقوم إلا بكلّ مكوّناته وفئاته ومواقعه.

العراق: مواجهة التّكفيريّين

ويبقى لنا كلمة عن العراق؛ هذا البلد الّذي يعاني فيه المسلمون، سنّة وشيعة، والمسيحيّون، بسبب هؤلاء الّذين يتهدّدون الجميع في مساجدهم وحسينيّاتهم وكنائسهم وأسواقهم، وحتى الجنائز ومجالس العزاء… لنقول إنّ هؤلاء الّذين يزرعون الدّماء في هذا البلد، ليسوا مشكلة لمذهب دون آخر، أو لطائفة دون أخرى، بل مشكلة لجميع الطّوائف والمذاهب.

إنّنا ندعو الجميع في العراق إلى الوقوف صفّاً واحداً في وجه من يعبثون بأمن البلد واستقراره، كي لا يتحوّل إلى ساحة فتنة طائفيّة ومذهبيّة تسقط البلد وتمهّد لتفتيته على وقع حروب أهليّة مدمّرة.

إنّنا نثق بأنّ الشعب العراقي بكلّ مكوّناته، سيتجاوز هذه المرحلة، ويصطفّ ضمن مؤسّساته الوطنيّة الّتي نريدها أن تبقى دائماً عنواناً جامعاً لكلّ العراقيّين، وأن تكون الحاضنة لهم جميعاً بكلّ طوائفهم ومذاهبهم.

أمّا البحرين، فإنّنا نريد للحراك فيه أن يبقى سلميّاً، وأن لا تتفاقم الأمور ليحصل في هذا البلد ما حصل في بلدان أخرى، كما نريد للسّلطة أن تلبّي مطالب المواطنين، وتحترم قياداتهم، ولا سيّما القيادات الواعية، وأن لا تساهم في تعقيد الأوضاع.

 

Leave A Reply