النفاق والازدواج في الشخصية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. صدق الله العظيم.

نزلت هذه الآيات في رجل اسمه "الأخنس بن شريق". كان هذا الرجل وسيماً، عذب البيان، طيب اللّسان. ويتظاهر بحبّه لرسول الله(ص) وللمسلمين. وحتى يبدّد أيّ شكّ في حبّه هذا، كان يقسم على ذلك بالأيمان المغلظة، والعهود الموثقة. لكن حقيقة هذا الرجل لم تكن كذلك.. فقد كان قلبه يمتلئ كراهية وحقداً وعدائية للإسلام والمسلمين.. وكان يتحيّن الفرص حتى ينال منهم.. وما إن توفرت له ظروف ساعدته على تولي إدارة مسؤولية مزرعة للمسلمين، حتى عاث فيها فساداً، وأباد زرعها، وأهلك أنعامها.. وعندما سئل عن سبب فعلته، راح يتذرع بأعذار واهية، فنزلت هذه الآيات على رسول الله، لتفضح هذا الرجل، وتبيّن حقيقته….
 
وحذَّر القرآن الكريم من النفاق، وفيه نزلت آيات كثيرة، ميز فيها الله بين النفاق والكفر (وعلى الهامش في زمن التكفير مفارقة جوهرية تتمثل في أن القرآن و كذلك الرسول لم يكفر الناس على ما كانوا يضمرونه في باطنهم، ولم يحاسبهم عليه بل اكتفى بالظاهر) ولكن مع هذا التمييز الإصطلاحي ذكَّر القران بخطر هؤلاء، الَّذي قد يفوق خطر الكافرين..، كونهم أي المنافقين قادرون على النخر من داخل الأمة والمجتمع. ومن هنا، كان تحذير رسول الله(ص): «إني لا أتخوّف على أمّتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن، فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيمنعه كفره، ولكن أتخوّف عليكم من كان منافقاً عليم اللسان…». وقد توعد الله هؤلاء بالقول { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار..}
طبعاً، النّفاق كما هو معروف هو أن يظهر الإنسان نفسه بغير صورته الحقيقيّة،  وقد قال الامام علي: «أحذّركم أهل النفاق، فإنهم الضالّون المضلّون، والزالّون المزلّون، يتلونون ألواناً، ويفتتنون افتتاناً.. قلوبهم دوية، وصفاحهم نقية»..وبالمناسبة فقد شمل تحذير القرآن الكريم النفاق بأن خصص سورة باسم المنافقون وهناك استحباب لقراءتها في صلاة الجمعة لمضامينها التربوية، والتذكير بخطر أولئك في المجتمع.
 
ويتمظهر النفاق بمظاهر مختلفة لا تقف حدوده عند الجانب العقدي بل يتعداه إلى النفاق الاجتماعي، والنفاق السياسي، والنّفاق الإعلاميّ، والنّفاق الأسريّ، وغير ذلك من مواقع النّفاق… 
وصفات المنافق تتمظهر وتتمثل بدرجات مختلفة في كل أولئك الذين يظرون الودّ والحبّ والمشاعر الحسنة للآخرين، ويقبلون عليهم بالابتسامات، فيما قلوبهم لا تلهج بكل ذلك.
 
وترى النّفاق في الَّذين يسايرون ويلبسون لكلّ حالة لبوسها.. فمع هذا قناع، ومع ذاك قناع.. هم مع المؤمنين يتكلَّمون بلغة الإيمان، ومع الكافرين بلغة الكفر، ومع المنحرفين يمارسون الانحراف.. ومع الوطنيين بلغة الوطنية ومع العروبيين بلغة العروبة يعني ينقلون البارودة من كتف الى كتف لا لتغير القناعات بل لتغير المصالح، وحالهم كحال الّذين قال الله فيهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. 
 
أيها الأحبة:
إن النفاق مرض، لكن عندما يعشعش في كيان الأمة تنعدم الشفافية والوضوح والصّراحة.. عندها، ستنعدم الثقة في المجتمع تصوروا الرجل لا يثق بأخيه، والجار بجاره، والإبن بإبيه، مجتمع هذه حاله ستعبث به دواعي الفتنة، ويتسلّق المواقع فيه من يملكون القدرة على التلاعب بالعقول والقلوب.
ومن هنا، جاء التنديد بهذا النّموذج من الناس.. فعن رسول الله(ص): «تجدون شرّ النّاس، ذا الوجهين الَّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».
وعنه(ص): «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم.. من هؤلاء، رجل استقبلك بودّ صدره، فيواري وقلبه ممتلئ غشاً».
وعنه(ص): «من مدح أخاه المؤمن في وجهه، واغتابه من ورائه، فقد انقطع ما بينهما من العصمة».
وعن الباقر(ع): «بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه في الله شاهداً، ويأكله غائباً، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله».
وعنه(ع): «بئس العبد عبد همزة لمزة يقبل بوجه ويدبر بآخر».
لقد أراد الله لعباده أن تكون صورتهم في الحياة واضحة جليّة.. ولذلك، قال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
وورد في الحديث المقدّس، أنَّ الله تبارك وتعالى خاطب السيّد المسيح قائلاً له (وهذا الخطاب هو لنا أيضاً): «ليكن لسانك في السرّ والعلانية لساناً واحداً، وكذلك قلبك، إني أحذرك نفسك، وكفى بي خبيراً! لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد…».
إن من يتابع الواقع يجد إن ظاهرة الوجهين واللسانين والقلبين باتت من أساس العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كثير من مجتمعاتنا، فكم من الناس يتبادلون القبلات والمجاملات واللقاءات ولكن كل يكيد للآخر من وراء ظهره او من تحت الطاولة .. بات التملق  والتكاذب سمة هذا الواقع وازمته ومعاناته…
هنا، لا بدّ من التمييز بين المجاملة والنفاق.. فهناك خطّ رفيع بينهما والمطلوب أن تُداري الناس، أن تكون دبلوماسياً ومجاملاً في الأسلوب، حتى تصل إلى قلب الآخر وعقله.. ولكن هذا لا يعني أن تكون متناقضا وأن تبدّل وجهك حسب الظروف، وأن تكون كل يوم في شأن وفي حال ..
 
أيّها الأحبّة:
إنَّ التقليل والتخفيف من سطوة ظاهرة النفاق في مجتمعاتنا، يكون بأن نعالج أسبابها (من ناحية) وأن نتعامل مع نتائجها (من ناحية أخرى)، 
فمن أسبابها ضعف الإيمان والتقوى، وحبّ المسايرة، والرغبة في الوصول، وفقدان الثقة بالنفس، وعدم الشجاعة في قول الحق او النصح.. وعدم القدرة على تقبل من يختلف معك في الرأي، والاهم عدم استحضار رقابة الله الذي يعلم ما تخفي الصدور..
وتبقى مسؤوليّة الناس، تجاه المنافقين، أن لا يستسلموا لهم، ألاّ يقعوا أسرى مديحهم وتزلّفهم… وللامام علي موقف رائع يكثف ويفضح حالة النفاق: عندما جاء رجل يمدحه وبالغ في مدحه بالطبع لم يفرح الامام ولم يستأنس فقد كان شديد الحساسية لسماع المدح. لماذا؟ لأن ميزانه دقيق، لم يخجل من فضح مادحه بوجهه، فقال له "انا فوق ما في نفسك ودون ما تقول" ..
وهو الذي تنسب اليه ابيات الشعر:
لا خير في ودِّ امرءٍ متملقٍ حلو اللسان وقلبه يتلهب
يلقاه يحلف أنه بك واثقٌ     وإِذا توارى عنك فهو العَقْرَبُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ً ويَرُوغُ مِنْكَ كما يَروغُ الثَّعْلَبُ
 
 اذا، فلتكن لدينا الحساسية، والقدرة على النقد وتشخيص كلّ ما يقال ومن يقول في مجتمعاتنا فلا ننغش بحلو كلام أو مديح أو حتى تدين ظاهر، ولا يغشنا الظهور على الفضائيات ومن تسلط عليهم الاضواء، ومن يكرسهم الاعلام نجوماً بين ليلة وضحاها. حذار أن يتسلّل هؤلاء إلى واقعنا ليمرروا أجندات فكرية أو اجتماعية أو حتى أمنية… إنّ مسؤولية المجتمع أن يفضح كلّ هؤلاء الذين يسيئون إليه وإلى مسيرته، في حال لم يستطع تصويب مسارهم.. مطلوب ان يعم الصفاء بين الأفراد اولا. مطلوب ازالة الاقنعة وليقل كل إنسان ما يريد قوله.. ولا يخشى ما دام يقول رأيه بالتي هي احسن، ومن دون أن تتحول صراحته الى وقاحة.
قد يكون من الصعب ان نصل الى نكون مجتمعا صافيا نقيا فالنفس البشرية امارة بالسوء، ولكن على الاقل لِنكن حذرين ومتربصين بظاهرة النفاق من ادنى المستويات، من نفاق التحية والابتسامة الى نفاق الموقف، ونفاق المبادئ الذي هو في ذروته هذه الايام. (حيث يطالعنا من هو مع هذه القضية هنا وهو نفسه مع عدو القضية هناك.. يعلن موقفاً مع هذا وعكس الموقف مع ذاك، والى ما هنالك من كوارث على مستوى المواقف التي يغلفها النفاق في البدء، ولا تنتهي الا بفتن  شيطانية حارقة في آخر المطاف
 
أيها الأحبة:  لنحذر المنافقين، ونسحب البساط من تحت اقدامهم، وليتحسس كل منا نفسه باستمرار حتى لا يصاحب ايا منهم أو يحاط بالمتملقين الغشاشين، وليحذر ان لا يستسهل هو النفاق، والفحص يتم دوما على اساس مطابقة الظاهر بالباطن والسر بالعلن والقول بالفعل. ان تقف للحظة وتسأل كم وجهاً لي وكم لساناً وكم شخصية وكم قلباً..فالمصيبة تبدأ في اللحظة التي ترضى فيها بالازدواجية، وتحت اي سبب من الاسباب.. وليكن دعاؤنا لله دوماً في السر قبل العلن:
«أللَّهم طهِّر قلبي من النِّفاق، وعمَلي من الرِّياء، ولساني من الكذب، وعيْني من الخيانة، فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».
 
الخطبة الثانية
 
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولزوم أمره، واستحضار قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}.

ونحن نقف أمام ذكرى انتقال الزهراء(ع) إلى رحاب ربّها في السّادس من جمادى الثّانية، على الرواية الَّتي ترى وفاتها بعد خمسة وتسعين يوماً من وفاة رسول الله(ص)، لا بدَّ من أن نعيش مع الزهراء لحظات حياتها الأخيرة، فهي ما إن أحسّت بدنوّ أجلها، حتى أرسلت خلف عليّ(ع)، وكان في المسجد، وقالت له: "يا بن عمّ، إنه قد نعيت إلى نفسي، وإنني لا أرى ما بي إلاّ إنني لاحقة بأبي، يا بن عمّ، ما عهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني..

 

فقال(ع): "معاذ الله، أنتِ أعلم بالله، وأبرّ وأتقى وأكرم، وأشدّ خوفاً من الله من أن أُوبّخكِ بمخالفتي.. لقد عزّ عليَّ مفارقتكِ وفقدكِ إلاّ أنّه أمر لا بدَّ منه (هو أمر الله ولا راد لأمره نقبل بقضائه وحكمه).. والله، لقد جدّدتِ عليَّ مصيبة رسول الله(ص)، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها، وآلمها وأمضّها وأحزنها!! هذه مصيبة لا عزاء منها، ورزيّة لا خلف لها"، وبكى.

 بعدها، أوصته الزهراء بوصاياها، ثمّ فاضت روحها إلى بارئها، تاركةً وراءها حزناً طويلاً، وأي حزنٍ هو هذا الحزن الَّذي أشار إليه عليّ(ع) عندما وقف على قبرها الشريف قائلاً: "أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي داركِ التي أنت فيها"!

أيها الأحبة، لقد غادرت السيّدة الزهراء الحياة الدنيا، لكنّها لم تغادر القلوب والعقول، ولن تغادرهما، فهي حاضرة معنا، وستبقى حاضرة على مر الزمن؛ تقدم أنموذجاً للرجال والنساء في الطهارة والعطاء والسّموّ الإنساني، وفي العبادة والعلم والجهاد والتضحية والإيثار والجهاد والموقف الجريء.

إنَّ إخلاصنا للسيّدة الزهراء هو أن نطبع صورة حياتها في حياتنا، فلا نختزلها في مأساتها، كما يسعى البعض، بل علينا أن نجعل المأساة في خط الرسالة، فالزهراء لم تظلم ولم تعان إلا لأنها وقفت مع الحق ومع العدل، ولم تهادن ظالماً. فلتكن عاطفتنا للزهراء عاطفةً تتفجّر في كلّ موقف حقٍّ وعدلٍ وعزة. وبذلك نخلص لواقعنا ونواجه التحديات.

 

الحدث اليمني

أقفل الأسبوع الماضي على انفجار الوضع اليمنيّ، من خلال ما جرى في اليمن من تدخّل عسكريّ، وقد بلغت الأحداث في هذا البلد مرحلة خطيرة يُخشى من تداعياتها على الصّعيد الداخليّ، حيث الانقسام بين مكوّنات الشعب على المستوى المذهبي والديني والقبلي والمناطقي، وعلى الصّعيد الخارجي، حيث يشتدّ الصّراع الإقليميّ والدّوليّ، والّذي بات اليمن إحدى ساحاته، بل يمكن أن نعتبره إحدى ساحاته الأساسيَّة.

ومن هنا، فإننا لا نرى في التدخل الخارجي الذي حصل، ومهما كانت مبرراته، حلاً للأزمة، بل إنّه سيزيدها تعقيداً وتفاقماً، وسيساهم في زيادة شعور الفئات التي ترى نفسها مهمّشة، بالقهر والغلبة، وفرض أمر واقع عليها لا تريده، ما قد يدفعها إلى خيارات غير محسوبة، سيساعد عليه حمى الصراع الإقليمي الدائر.

 

ولذلك، وحرصاً على عدم تفاقم هذا الصراع، نرى ضرورة الخروج سريعاً من هذا الخيار العسكري، لكونه يؤدّي إلى المزيد من الانقسام وسقوط الدماء البريئة، وسيدخل المنطقة في حالة من الاستنزاف الذي تعانيه بلدان العربيّ والإسلاميّ في مقدّراتها وإمكاناتها، ولن يستفيد من ذلك إلا العدوّ الصّهيونيّ والجهات التكفيريّة، الَّتي تتغذى من أيّ صراع داخليّ أو خارجيّ لتزيد قوّتها.

 

إنَّ الحلَّ في اليمن لن يكون إلا بعودة مكوّنات هذا البلد إلى الحوار فيما بينهم، في ظل رعاية تأخذ بالاعتبار هواجس الجميع وما يشعرون به من غبنٍ وتهميشٍ وخوف، للوصول إلى بناء دولة عادلة يشعر فيها الجميع بالمواطنة، ولا تميّز بين منطقة ومنطقة، أو بين مذهب وآخر؛ دولة تساهم في إخراج هذا البلد من أزماته، دولة تشعر بالأمان من جيرانها، ويشعر جيرانها بالأمان منها.

وفي الوقت نفسه، نرى أنّ الحاجة ماسّة، وأكثر من أي وقت مضى، للخروج من حالة الاستعداء بين الدول العربيَّة والإسلاميَّة، بحيث تُقام الأحلاف وتجيّش الجيوش تحت عنوان مذهبيّ أو طائفيّ، أو ضد هذا البلد العربي أو ذاك الإسلامي، وإننا نرى البديل في التلاقي، ومدّ اليد، والحرص على الحوار الجادّ والموضوعيّ، فلن يعرف هذا العالم الهدوء والاستقرار إلا بذلك.

 

إنَّ قوَّة العالم العربيّ والإسلاميّ لا تتحقق إلا من خلال دوله، التي هي وحدها تحفظ أمنه واستقراره، لا عبر الدول الكبرى التي ستعمل على تخويف هذه الدول من بعضها البعض، وتسعى إلى زيادة الانقسام فيما بينها، وذلك لبيعها أسلحة تُستخدم في الداخل، وليس لمواجهة العدو الصّهيونيّ، كما أنَّ قوّة هذا العالم هي في المزيد من التماسك والتعاضد بين دوله.

إنّنا نريد للعالم العربيّ والإسلاميّ أن تبقى وجهته واحدة، وهي مواجهة أعدائه الحقيقيين؛ مواجهة العدو الصهيوني وكلّ الّذين يسيئون إلى ثروته وتاريخه وقيمه. وكم كنّا نتمنّى لو أنّ هذه القوّة الّتي رأيناها، والحشد الذي شهدناه، قد سُخِّر لمواجهة العدوّ الصّهيونيّ الّذي لا يزال يعبث بأمن هذا العالم وبمقدّساته!

إنَّ المرحلة تستدعي بروز الأصوات التي تدعو إلى الحوار، وتصفية القلوب، وإزالة التشنجات، لمعالجة كلّ الملفّات، بدلاً من الاستنزاف الذي يُراد له أن يكون طابع المرحلة، ومع الأسف، فإننا نقع فيه من حيث نشاء أو لا نشاء.

 

لُبنان

ونصل إلى لبنان، الَّذي لا يزال موقع رئاسة الجمهوريَّة فيه شاغراً، إضافةً إلى تعطيل المجلس النيابيّ وما يتبع ذلك من تأثيرات سلبيَّة في مصالح الدّولة والمواطنين، وصولاً إلى عدم المعالجة الجادة للمشكلات الأساسيَّة في مجلس الوزراء، والتي تتصل بالخلافات حول الصّيغة المناسبة لآلية القرار، في الوقت الَّذي يعاني البلد اهتزازاً أمنياً على حدوده الشرقية، واستباحة العدو الصّهيونيّ لسمائه، وما يستتبع ذلك من رسائل.. وما يجري في محيطه من تجاذبات نخشى أن تؤثّر في الهدوء النّسبيّ الّذي تنعم به السّاحة اللبنانيّة.

 

إننا في هذا المجال، نعيد الدَّعوة إلى الإسراع في تعزيز الاستقرار الأمنيّ والسياسيّ، عبر معالجة كلّ الملفّات المطروحة بروح مسؤولة، بعيداً عن كلّ الحسابات الخاصّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة، فالوقت ليس وقت تصفية الحسابات، بل وقت حفظ وحدة الوطن وحمايته.

ومن هنا، نشدّد على أهميَّة استمرار الحوار الجاري في هذا البلد وتفعيله، حيث يتعرض هذا الحوار لهزات مستمرة مع ثقتنا بصموده.

 

وهنا، لا بدّ من أن نتوقَّف عند التصريحات التي انطلقت من المحكمة الدوليَّة، لا لنناقش مدى صوابية ما جرى فيها أو عدم صوابيته، بقدر ما ننبّه إلى الانعكاس السلبي الذي تخلقه مثل هذه التصريحات على الساحة اللبنانية، في وقت أحوج ما تكون فيه هذه الساحة إلى التماسك.

 

وهنا نقول: إذا لم يمكن تفادي هذه التصريحات لأيّ اعتبار، فإننا ندعو إلى أن لا تكون في الهواء الطلق، بحيث تساهم في إثارة المشاعر والغرائز التي يختلط فيها المذهبي بالسياسي، وسرعان ما يتلقّفها العابثون بأمن هذا البلد واستقراره.

إنَّنا أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى الكلام الَّذي يطفئ نيران القلوب ونيران الأرض، لا الكلام الذي يصب الزيت على النار ويوقد الفتن. وقد ورد أنّ "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".

 
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : الجمعة7 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق: 27 اذآر 2015
 

Leave A Reply