حتى يميز الخبيث من الطيب

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}…
 
يسن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة الواردة في سورة آل عمران سنة من سننه الجارية في خلقه وعلى مر العصور والأزمنة وهي أن الله سبحانه لن يكتفي من المؤمنين بإعلان إيمانهم والتزامهم أو أن يقوموا بشكليات الدين حتى يمنحهم الله هذه الصفة ويكتبهم عنده من المؤمنين، فقد يكون من السهل ذلك، بل الله تعالى كشف بأنه سيخضعهم لامتحانات واختبارات وتجارب حتى يظهر الصادقون في إيمانهم وممن يعيشون عمق الإيمان، ويتحول الإيمان عندهم إلى سلوك وعمل، ما يميزهم عن الكاذبين ممن يستغلون الإيمان والدين لحسابات خاصة ومصالح ذاتية، وقد جعل الله ذلك قانوناً إلهياً وسنة جارية في كل الأزمنة، فالمجتمع المؤمن أيها الأحبة، هو عرضة دائماَ للغربلة وللتصفية من كل الذين يحسبون عليه فيما هم يشكلون عبئاً عليه وأزمة له…
 
وقد عرف المؤمنون في كل مراحلهم مثل هذه النماذج الذين تراهم يتواجدون دائماً في المساجد ويحرصون أن يكونوا في مقدمة الصفوف في صلاة الجماعة، ويصومون ويحجون.. ولكنهم بمجرد ما أن تتضرر مصالحهم من وراء إيمانهم ويفقدهم فرصاً تعرض عليهم يتراجعون عن هذا الإيمان، وإذا كان من الصعب عليهم أن يظهروا هذا الضعف في إيمانهم فإنهم يفتشون عن مخرج من الدين أي مخرج حتى يبلغوا ما يريدونه.
 
وقد تعددت أقوال المفسرين في طبيعة الاختبارات التي أدت إلى حصول التمايز بين المؤمنين الصادقين وبين غيرهم من غير الجادين في إيمانهم في أيام رسول الله(ص)…
 
هناك ثلاثة آراء أشار إليها المفسرون:
 
الرأي الأول: هو أن التمايز كان يحصل عندما كانوا يدعون إلى الخروج للجهاد.. فالقتال هو أبرز مظهر للاختبار لأن فيه بذلاً للنفوس والمهج، ويؤدي إلى خسارة فرصة الحياة الممنوحة للإنسان.. أما المؤمنون الصادقون في إيمانهم كانوا يجدون الدعوة إلى الجهاد فرصتهم لنصرة دينهم ومواجهة من يريدوا استباحة حريتهم وعزتهم وكرامتهم وباباً واسعاً يدخلون منه الجنة كما قال علي(ع): "إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه".. وكما قال رسول الله(ص) لذلك الشاب: "جاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل كنت حياً عند الله ترزق، وإن مت فقد وقع أجرك على الله".
 
فيما ضعاف الإيمان والمنافقون كانوا يسارعون إلى التهرب من الجهاد واختلاق الأعذار لذلك..
 
وهذا ما برز بشكل واضح عندما دعا رسول الله(ص) أصحابه للخروج إلى تبوك لمواجهة الروم.. وقد كانت هذه الدعوة امتحاناً كبيراً لهم لأن الروم كانوا إحدى أقوى قوتين في العالم آنذاك، وقد كان الوقت وقت حصاد والحر شديد، والمسافة إلى تبوك بعيدة تقدر بمئات الكيلومترات على مدى الصحراء القاحلة الجرداء، يومها سارع المؤمنون الصادقون بتلبية نداء رسول الله(ص) غير عابئين بالمشقة والتعب ولا بالحر، فيما المنافقون وضعفاء الإيمان تلكأوا عن المسير، وراح يدلي كلٌ بدلوه في تقديم أعذار واهية، كشفت حقيقتهم وأظهرت أن إيمانهم لم يكن صادقاً، فعندما يجد الجد يتراجعون عنه…
 
وقد تحدث القرآن عن ذلك: { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.. وقد ورد الحديث عنهم في آية أخرى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
 
الرأي الثاني: ويحدثنا القرآن عن أمر آخر به كان يتميز المؤمنون عن غيرهم، وهي الموقف من الغنائم التي كان يحصل عليها المقاتلون بعد المعركة، فالمؤمنون ما كانوا يرونها هدفاً… وعندما كانت توزع كانوا يرضون منها ما يرضاه لهم رسول الله(ص).. وقد برز ذلك في معركة أحد، حين تركت مجموعة من المسلمين موقعهم الذي أمرهم رسول الله بالبقاء فيه وهو الذي سمي بجبل الرماة مهما كانت نتائج المعركة، وهو ما أدى إلى ما دفع قريش إلى استغلال ذلك وتحويل النصر إلى هزيمة حتى كادت أن تودي برسول الله ويتعرض للقتل لولا ثلة من أصحابه وعلى رأسهم أمير المؤمنين(ع)…
 
ومن الاختبارات الإلهية في نفس هذا الإطار ولكنه يتعلق بالإنفاق في سبيل الله، حيث شكل الإنفاق عنصراً أساسياً لتمييز المؤمنين عن غيرهم.. وقد أشار القرآن الكريم إلى أولئك الذين كان إيمانهم يهتز عند بعض الاختبارات، حيث كانت علاقتهم برسول الله تتحدد بمدى إعطائهم من الصدقات، فإذا لم يعطوا منها لعدم استحقاقهم أو لأي سبب آخر أخذوا يهاجمونه(ص): {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}.. أما المؤمنون الصادقون فكانوا يأخذون ما يقسمه لهم رسول الله من دون نقاش ثقة منهم برسول الله، وأنه لا يريد إلا العدل.
 
الرأي الثالث: يشير إلى أن التميز بين المؤمنين يتم باختبارهم في موقفهم من السلطة أو الموقع ولا سيما في تلك المحطات التي يضطر فيها الإنسان إلى الاختيار بين السلطة على حساب الإيمان وبين الإيمان ولو على حساب السلطة، وقد يسقط الكثيرون في هذا الامتحان، وتحدثنا السيرة النبوية عن عبد الله بن أُبي الذي دخل إلى الإسلام، لكنه عندما شعر أن وجود رسول الله على رأس قيادة المسلمين سيحرمه من الموقع الذي كان يريده، جعله على رأس سدة المنافقين في موقع المواجهة مع النبي(ص)، حتى وصل الأمر إلى أن هدد بإخراج الرسول من المدينة بذريعة أن المهاجرين باتت لهم الكلمة العليا في المدينة وهم الأغراب، فيما أهل المدينة أصحاب الأرض باتوا في مواقع دونية، لذا وصف نفسه بالعزيز معتبراً رسول الله الذليل لأنه غريب عن المدينة وأهلها.. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}…
 
ونحن أمام تعدد آراء المفسرين يمكننا الأخذ بها جميعاً، ولكننا لن نكتفي بها بل سنوسع دائرة الامتحان والاختبار لكل مواقف الحياة حيث الصراع الدائم في داخل الإنسان بين النفس الأمارة بالسوء والأخرى الأمارة بالخير وبين ما فيه رضا الله وطاعته وما فيه معصيته..
 
وقد أشار القرآن الكريم إلى العديد من موارد الفتنة والاختبار التي تتمايز بها صفوف الصابرين من غيرهم والمجاهدين من غيرهم عندما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {… أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}..
 
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً…} {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}..
 
وعاشوراء أيها الاحبة هي تعبير عن هذه السنة الإلهية حيث يتميز فيها المؤمنون الصادقين من غير الصادقين.. وقد تمثلوا بمعسكرين متواجهين عند الامتحان والاختبار الصعب ولا يزال هذا الامتحان مستمراً..
 
لقد كان الكثيرون في كربلاء يصلون، وقد صلى الكثير منهم وراء الحسين عند أول قدومه إلى كربلاء ممن كانوا تحت قيادة الحر بن يزيد الرياحي.. ولكن هناك من سقط في الامتحان مثل عمرو بن سعد الذي عندما جاءه من يخيره بين ملك الري حيث يمسك السلطة ويستأثر بالمال، وبين قتال الحسين(ع) اختار ملك الري على حساب الحسين.. فيما في المقلب الآخر نجد من سموا إلى حد أن باعوا كل شيء من أجل الله وفي سبيله وتركوا كل متاع الدنيا وشهواتها وزينها.. وكان شعارهم:
 
إلهي تركت الخلق طراً في هواك    وأيتمت العيال لكي أراك
"هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّه بِعينِ الله" "إذاً لا نبالي أن نموت محقين".
 
لقد نجحوا في الامتحان الصعب عندما خيروا بين الدنيا وكل ما فيها من مال وشهوات وقصور وهي متاحة لهم، وكان بالإمكان الوصول إليها بقبولهم، وبين أن يختاروا الجنة فاختاروا الجنة على كل ذلك.
 
أيها الأحبة:
لقد انتهت عاشوراء بعد أن عبرنا خلالها عن عمق عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وأعلنا فيها استعدادنا للوقوف مع الحسين(ع).. ممن صدقوا مع الله عهدهم وأعطوه كل ما عندهم.. وقلنا بالفم الملآن لبيك يا حسين لبيك يا زينب.. علينا أن نستعد للامتحان في ساحة الحياة الخاصة في داخل بيوتنا في أحيائنا في قرانا ومدننا وفي ساحات العمل وحينما نكون.. فالوقوف مع الحسين ومع زينب ومع العباس سيكون مكلفاً.. فما دعوا إليه قد يمس مصالحنا، وقد ينتج ردود فعل علينا، فهل ننجح في الامتحان ونلبي كل هؤلاء ونصرة كل مفردات ديننا وإيماننا.. وهم الذين دعوا إلى ما دعا الله ورسوله، وقيمتهم أنهم أخلصوا لذلك وبذلوا لأجله الأرواح.
 
فهل سنكون جاهزين لنأمر بالمعروف وقد لا يرضى عنا من لا يريد المعروف.. هل ننهي عن المنكر وقد لا يرضى عنا من يريد المنكر.. هل سنقف مع المظلوم في مواجهة الظالم والظالم يملك قوة.. هل سنقف في مواجهة الفاسد المتلاعب بمصالح الناس.. والفاسد يملك السطوة والنفوذ.. هل سنقول كلمة الحق لو كان الحق على حسابنا.. إن معنى كربلاء الحقيقي هو صدقها أن لا نعطي إعطاء الذليل ولا نقر إقرار العبيد.. أن نقول بصدق هيهات من الذلة يأبى الله لنا ورسوله والمؤمنون…
 
لقد باع الذين كانوا في كربلاء جماجمهم لله وعلينا أن لا نبيعها لغيره، وأن لا نبيع آخرتنا بدنيانا ولا بدنيا غيرنا.. بذلك ننجح في الامتحان الإلهي القادم إلينا في كل لحظة وزمن، هذا وعد الله والله لا يخلف وعده…
{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}…
 
اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وأعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم…
والحمد لله ربّ العالمين
 
الخطبة الثانية
 
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا..}.
 

قد نختلف في الحياة بآرائنا وتوجّهاتنا وأساليبنا، وقد يُخطئ بعضنا بحقِّ البعض الآخر، ومن منا لا يخطئ! وقد يسيء بعضنا إلى البعض الآخر، ومن منا لا يسيء، ولو دون قصد! ولكن رغم كلّ ذلك، علينا أن لا نتفرّق أو نتباعد أو نتحاقد، أو نسعى إلى إسقاط بعضنا البعض، بل أن نتراحم، وأن يكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، ويقوّي بعضه بعضاً، وينصح بعضه بعضاً، ويعذر بعضه بعضاً، ويرى أنّ ما يجمعه مع الآخر، كبير كبير، وهو يتصل بالله، وأية علاقة أسمى من هذه العلاقة!

 

بهذا المجتمع المتحابّ المتوادّ، الذي يتمثّل بكلام رسول الله(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"، واجهنا تحديات الماضي، وبه نواجه تحديات الحاضر والمستقبل..

 

لبنان

والبداية من لبنان، الّذي لا يزال يعيش أجواء المراوحة في كلّ الملفات المطروحة، بفعل استمرار التّجاذب السّياسيّ بين أطرافه الداخلية، والتصعيد الجاري في المنطقة حوله، فقطار الحلّ لم تبدأ عجلاته بالتحرّك، وبارقة الأمل الّتي تعلّق بها اللبنانيون، للخروج من المأزق الّذي يعيشونه في الملفّ الرئاسيّ، لا تزال تنتظر الإنعاش، الَّذي لا يبدو أنه سيأتي سريعاً. والمسؤولية الأساس تبقى على عاتق القوى السياسية اللبنانية، التي من مسؤوليتها أن تنتج حلاً، رأفةً بالبلد وإنسانه.

 

في ظلّ هذا الواقع، نرى أهميّة الاستمرار في أجواء التبريد الّتي تشهدها الساحة السياسية الداخلية، والتي أدّت إلى انكفاء الحديث الحاد عن التحرّك في الشّارع، مع ما يستتبع ذلك من مخاطر وردود فعل، ووفّرت الفرصة لاستمرار جلسات مجلس الوزراء، وصدور قرارات كان من الصعب صدورها لو بقيت هذه الأجواء. ونأمل أن يُواكب ذلك بالمبادرة إلى تفعيل عمل المجلس النيابي، بعدما بدأت دورته التشريعية، ما يؤدي إلى الإفراج عن القوانين النائمة في أدراجه؛ تلك القوانين التي تهمّ مصالح اللبنانيين، ولا سيَّما قانون الانتخاب، فلا ينبغي أن يكون إغلاق المجلس النيابي وسيلة ضغط لأحد.

 

إنَّ اللبنانيين أحوج ما يكونون إلى استمرار أجواء التبريد، لتجاوز المرحلة الصَّعبة على المستوى الاقتصاديّ، حيث يزداد المأزق والفقر والحاجة والخوف الأمنيّ المتزايد، والَّذي عبّرت عنه تقارير التحقيقات الحالية مع الشّبكات التي جرى توقيفها، والتي أنبأت عن خطط لتفجيرات تطال أماكن عامة، وإمكانية انعكاس الصراع الدامي الذي تعيشه المنطقة على الداخل اللبناني، ولا سيما فيما تنتجه من توتر طائفي ومذهبيّ، أو في تأثيرها في القوى السياسية المحسوبة على محاور الصراع الدولي والإقليمي.

 

سوريا

وإلى سوريا، الَّتي يستمرّ فيها نزيف الدم والدمار، ولا نرى أي أفق لتسوية تنهي معاناة إنسان هذا البلد، في ظل اشتداد الصّراع الدولي والإقليمي، والحديث المتزايد عن السعي لتسليح المعارضة بأسلحة أكثر تطوراً، وعن تدخلات عسكرية، رغم كل هذا الدمار الذي يظهر جفاف المشاعر الإنسانية والدينية، وانسداد الأفق أمام حسم الأمور لحساب السوريين، في ظل هذا الصراع الدامي.

 

إننا نأمل، وإن لم يكن هذا الأمر سهلاً، أن تؤدي الاجتماعات المرجوّة القادمة في جنيف ولوزان، إلى تحريك هذا الملف، وتبريد الصراع الّذي نخشى نتائجه وارتداداته.

 

اليمن

أما اليمن، فقد كنا ننتظر أن تؤدي المجزرة التي حصلت فيه، والتي هزّت مشاعر الأمين العام للأمم المتحدة، إلى العمل من أجل إخراج هذا البلد من معاناته، منعاً لحدوث مجازر جديدة، ولكن يبدو أن قرار التّصعيد مستمرّ، وقد ازداد بفعل الغارات الأميركية، بعد الحديث غير الموثّق عن تعرّض إحدى بارجاتها لإطلاق نار، ما يزيد الأمور تعقيداً، ويترك هذا البلد يواجه مصيره لوحده، مع ما يستتبع ذلك من ازدياد معاناته. ونحن هنا، سنبقى نراهن على قدرة هذا الشّعب على الخروج من آلامه ومعاناته، واستعادة حريّته بيده.

 

العراق

وإلى العراق، الَّذي يستعدّ بكلّ طوائفه ومذاهبه وعشائره لتحرير الموصل وإخراجها من دائرة الإرهاب. ولكن في المقابل، وعلى المستوى الإقليميّ، هناك من يسعى إلى مذهبة هذا الصراع، وإلى حرفه عن مساره، أو جعله قومياً، بحيث صرنا نسمع حديثاً عن ضرورة عدم مشاركة هذا المذهب أو هذه القوميّة في المواجهة، ما يسيء إلى صورة العراق الموحّد على منطق مواجهة الإرهاب، والحريص على تنوّع طوائفه ومذاهبه وقومياته، وعدم طغيان طائفة على أخرى، أو مذهب على آخر، أو قومية على أخرى.

 

فلسطين

وأخيراً، نعود إلى فلسطين المنسيّة، الّتي يُصرّ شعبها على الصّمود، وعلى إظهار علامات القوة في مواجهة العدو الصهيونيّ، الّذي يُمعن قتلاً واعتقالاً واستيطاناً. وقد كانت العمليّة الأخيرة في القدس، الَّتي أصابت من العدوّ وجنوده مقتلاً، تعبيراً عن إرادة هذا الشعب، الَّذي لن يستكين لإرهاب العدوّ، ولن يسكت على احتلال القدس وفلسطين وتدنيس المقدسات، ما دام فيه رمقٌ من الحياة، وهو لن يأبه لكلّ اللاهثين وراء التّطبيع مع هذا العدوّ..

 

إنّنا نحيي الشّعب الفلسطينيّ الّذي يُثبت في كلّ مرحلة أنه قادر على ابتداع أساليب جديدة في مواجهة العدوّ والتصدي له، لإبقاء قضيّته حيّة، من خلال الحركة المستمرة في الشارع، والمواجهات البطولية، وصولاً إلى كلّ المواقف التي يطلقها هؤلاء الأحرار القابعون خلف القضبان، الّذين تنبض قلوبهم بالحرية..

 

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن ننوّه بالقرار الجريء الصّادر عن منظمة الأونيسكو، التابعة للأمم المتحدة، في نفيها لمزاعم الصّهاينة بوجود ارتباط بينهم وبين المسجد الأقصى، حيث يزعمون أنه بُنِيَ على أنقاض هيكل سليمان، معتبرةً أنه مكان مقدّس للمسلمين، ولا حقّ للصهاينة فيه.. ونأمل أن يُبنى على هذا الموقف ما يحفظ حقوق الشعب الفلسطينيّ في أرضه وبلاده ومقدّساته.

 

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :  13محرم 1438هـ الموافق :14 تشرين الأول 2016م

Leave A Reply