رجب: شهر العطاء الروحي

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} صدق الله العظيم.

 

من هذه الأشهر التي اصطفاها الله شهر رجب, هذا الشهر الذي نسأل الله أن يوفقنا فيه لنيل فيوضات الرحمة الإلهية فيه. وقد ورد في هذا الشهر استحباب قراءة الكثير من الأذكار والأدعية التي تساهم في تحقيق هذه الغاية وتؤدي إليها.. وهذا الاستحباب ليس لقراءة هذه الأدعية ككلمات لا تخرج من القلب، وإنما الاستحباب لما تحتويه هذه الأدعية من مضامين روحية و تربوية للفرد المؤمن.

 

ونحن سنتوقف عند واحد من أدعية هذا الشهر لجلاء مضامينه، وهو الدعاء الوارد عن الإمام الصادق(ع) والذي علمه لأحد أصحابه, والذي يستحب قراءته بعد كل فريضة من أيام شهر رجب و كل أيام السنة حكما: "يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر. يا من يعطي الكثير بالقليل.. يا من يعطي من سأله.. يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة.. أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة.. واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة.. فإنه غير منقوص ما أعطيت.. وزدني من فضلك يا كريم.. يا ذا الجلال والإكرام.. يا ذا النعماء والجود.. يا ذا المن والطَّول.. حرّم شيبتي على النار".

 

فهذا الدعاء يبتدئ بنداءات أربع ونفتح من كل نداء باباً من الأبواب التي تلج بالإنسان إلى رحمة الله الواسعة، حيث يتطلع العبد بطلبات إلى ربه الذي تتسع عطاءاته لتشمل الدنيا والآخرة..

 

النداء الأول وهو: "يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر".. هذا النداء يشير إلى واحد من أبواب بلوغ رحمة الله وهو الرجاء، فعلى قدر رجاء العبد وأمله وثقته وحسن ظنه بربه يبلغ الرحمة الإلهية، فهي مفتاح لها..

 

وهذا ما أشار إليه الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيراً فخيراً"..

 

وقد ورد عن رسول الله(ص): "والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن لأن الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه".

 

وهذا الرجاء بالله والأمل بتحقيق ما عنده من رحمة وخير وبركات يبلغه الإنسان من معرفته بكرم الله وعطائه وسعة رحمته..

 

ومن باب الرجاء هذا ينفذ الإنسان إلى الإحساس بالأمن من عقابه وغضبه عند كل شر صادر من العبد..

فالعبد يعيش إذاً بذلك بين إحساس بالثقة بالخير النازل من الله وإحساس بأن الله لن يبادل الشر الصاعد منه.

 

وهذا ما عبر عنه الإمام زين العابدين(ع) أفضل تعبير: "تتحبب إلينا بالنعم، ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك، أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بآلائك.. فسبحانك ما أحلمَك! وأعظمك مبدئًا ومعيدًا! تقدَّست أسماؤك، وجل ثناؤك، وكرم صنائعك وفعالك، أنت إلهي أوسع فضلًا، وأعظم حلماً".

 

وهذا الإحساس بالرجاء والأمن قد غرسه الله فينا عندما أشعرنا برحمته وكرمه ومحبته {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}..

ولكن هذا الرجاء لم يرده الله لوحده، فحتى ينتج ولا يخرج عن دوره دعانا إلى أن نمزجه بالخوف.. فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا".

 

فالتوازن هو الحالة التي يريدها الله، التوازن بين الأمل برحمة الله والخوف منه.. فالرجاء حالة لا بد أن يعيشها الإنسان في علاقته بربه فمن دون الرجاء يشعر الإنسان باليأس والقنوط، والعكس هو صحيح، فالعلاقة مع الله إن كانت قائمة على الرجاء لا يخالطها الخوف فإنها تجرئ الإنسان على معصية الله وتجعله غير مبال في مراقبة نفسه ومتابعتها وحمايتها من الذنوب والمعاصي.

 

ولذلك ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(ع): "الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ".

 

أما النداء الثاني الذي نستجلب به رحمة الله فهو: "يا من يعطي الكثير بالقليل".. أي الكثير من الثواب بالقليل من العمل.

فقد جعل الله جهد الإنسان وعمله سبباً من أسباب الرحمة والمن الإلهي.. وهو قد وعد أن الجزاء سيكون أكثر بكثير من العمل، بل أن جزاء الله لا يقابله شيء من أعمالنا, فقليل اعمالنا و كل ما نبذله في جنب الله قليل قليل لكن جزاءه عند الله يضاعف أضعافا لا تعد و لا تحصى فمن ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا بأن يحسن الى عباده و يخلص في عباداته.. وقد بين ذلك في العديد من آياته:

 

{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ…} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}..

 

أما النداء الثالث وهو باب من أبواب بلوغ رحمة الله فهو: "يا من يعطي من سأله" وهو العطاء بالسؤال والدعاء من العبد ليعطيه الله من رحمته وهو ينطلق من قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.. فإن الله لا يرد دعاء عبد قط إلا أن يكون الدعاء لقلقة لسان لا يخرج من القلب فالله لا يقبل دعاء قلب ساه لاه..

 

فمتى تحققت الشروط فلن تعود اليد التي ارتفعت إلى الله صفراً.. لا بد أن تحصل على شيء إما بتعجيل الإجابة لأن المصلحة في تعجيلها أو بتأجيلها إلى أجل لأن المصلحة في تأجيلها أو إجابته ببديل عنها تحقق له مصلحة أفضل..

فقد ورد في الحديث: "إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً".

 

المؤمن من دعائه على ثلاث: إما أن يُدّخر له، وإما أن يعجل له، وإما أن يُدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه"..

فالكريم لا يمكن أن يرد سائلاً فكيف إذا كان الكريم هو أكرم الكرماء وأرحم الراحمين.

 

أما النداء الرابع والأخير الذي هو مفتاح من مفاتيح الرحمة الإلهية فهو: "يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة".. فالله يعطي عباده من رحمته وكرمه لأنهم عباده والفقراء إليه.. فمن دعانا إلى أن ندق أبواب الفقراء ونسد حاجاتهم لا يمكن إلا أن يتعامل مع عباده الفقراء ليسد حاجاتهم من عطاءاته ورحمته..

 

والخير الدافق منه للإنسان هو شاهد على ذلك في وجودهم وفي استمرار النعم التي يغدقها عليهم وفي رعايتهم وهدايتهم وفي رحمته التي سيتطاول إليها عنق إبليس يوم القيامة حتى لو لم يسألوا، ولم يبادلوه بعطاء بل حتى لو أعلنوا الحرب عليه واستكبروا عن الدعاء إليه.

 

بعد كل هذا الاستشعار لرحمة الله يتوجه العبد بكل ثقة إلى ربه سائلاً ماثلاً: "أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة.. واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة.. فإنه غير منقوص ما أعطيت.. وزدني من فضلك يا كريم" ليطلب لا خير الدنيا فحسب {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} بل خير الدنيا والآخرة {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وليصرف عنه لا شر الدنيا فقط بل شر الدنيا والآخرة..

 

بعدها يدعونا الدعاء إلى أن نتوجه إلى الله بأسمائه الحسنى وبأحب الأسماء إليه، ليمن علينا بأفضل ما يرجوه عبد من ربه وهو أن يحرم على جسده النار فيقول: "يا ذا الجلال والإكرام.. يا ذا النعماء والجود.. يا ذا المن والطَّول.. حرّم شيبتي على النار".

 

أيها الأحبة:

لننعم بأجواء هذا الشهر بدعواتنا بأذكارنا باستغفارنا بصلواتنا وصيامنا، حتى نحظى بفيوضات من رحمة الله وبركاته وفضله، ولننعم بزاد روحي نحن أحوج ما نكون إليه لنواجه التحديات التي تتحدانا في داخلنا وفي الخارج وما أكثرها ولنقل: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان يا أرحم الراحمين…

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالموعظة الَّتي وعظ بها الإمام الهادي (ع) الخليفة العباسي المتوكل، والتي أنشدها شعراً، عندما قال له:

باتوا على قللِ الأجبـال تحرسُهـم *** غُلْبُ الرجالِ فمـا أغنتهـمُ القُلـلُ‪

واستنزلوا بعد عزّ مـن معاقلهـم *** وأودعوا حفراً يا بئس مـا نزلـوا

ناداهمُ صارخٌ من بعد مـا قبـروا *** أين الأسـرّةُ والتيجـانُ والحلـلُ‪

أين الوجوه التـي كانـتْ منعمةً *** من دونها تُضربُ الأســتارُ والكللُ‪

فأفصـحَ القبـرُ حيـن سـاء لهم *** تلك الوجوه عليها الــدودُ يقتتـلُ

قد طالما أكلوا دهراً وما شربـوا *** فأصبحوا بعد طول الأكلِ قــد أكلوا

وطالما عمّـروا دوراً لتُحصنهـم *** ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلـوا

وطالما كثروا الأموال وادّخـروا *** فخلّفوها إلى الأعــداء وانتقلـوا‪

أضحت منازلُهـم قفـراً معطلـةً *** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلـوا

 

أيها الأحبة، إننا بحاجة إلى مثل هذه المواعظ، لتذكّرنا بضعفنا أمام جبروت الله وقدرته، وأمام الموت، حين لا يعيننا طبيب، ولا ينفعنا حبيب، ولتذكرنا أيضاً بموقفنا بين يدي الله، حيث لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذ لله، كي تلين قلوبنا فلا تقسو، ونعرف أنفسنا فلا نطغى ولا نتجبر، ونعي الدنيا على حقيقتها، فلا تبهرنا.. فالموعظة تحيي القلوب، وتجلو الغفلة، وتقسط من السبات..

 

لقد راهن الإمام الهادي (ع) على أن تترك الموعظة أثرها حتى في المتوكل المعروف بظلمه وطغيانه وجبروته، وهي تركت أثرها فعلاً.. فقد ورد أنه بكى عندما وعظه الإمام حتى اخضلَّت لحيته بالدموع..

 

فالمواعظ تفعل فعلها، وإن كان البعض سرعان ما ينساها ويعود إلى غفلته.. ولكن علينا أن لا نبخل على أنفسنا وعلى الآخرين بها، وما أكثرها في الحياة! وبذلك، نصبح أكثر قدرة على مواجهة الحياة بكلّ تحدياتها…

 

لبنان

والبداية من لبنان، الّذي استطاع، ومن منصّة جامعة الدّول العربيّة، أن يحظى بمساندة ودعم عربي، وهو ما عبّر عنه البيان الصّادر عن القمّة العربيّة الأخيرة الّتي انعقدت في عمان، في تأكيده حقّ اللبنانيين بتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا واسترجاعها، ومقاومة أيّ اعتداء يتعرَّض له من العدو الصهيوني بالوسائل المشروعة، وضرورة التفريق بين الإرهاب والمقاومة ضد الاحتلال الصّهيونيّ، وعدم اعتبار العمل المقاوم عملاً إرهابياً، ومساعدة لبنان لوضع حدّ نهائي لتهديدات الكيان الصّهيونيّ وانتهاكاته الدائمة، والإشادة بدور الجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة بصون البلد واستقراره، إضافةً إلى إدانة الأعمال الإرهابيَّة التي استهدفت العديد من المناطق اللبنانية، ورفض أي محاولة للفتنة داخل الساحة اللبنانية، ومواجهة سعي البعض لتوطين الفلسطينيين في لبنان، وبذل كل الجهود لعودتهم إلى ديارهم.

 

إنَّ هذا الموقف المساند، رغم أنَّه رمزي، وقد لا تكون له مدلولات عمليَّة، في ظلّ العجز العربي وواقع الجامعة العربيّة المتردّي، لكنه أتى نتيجةً للموقف الرسميّ اللبنانيّ الموحّد، الَّذي لم تؤثّر فيه محاولات البعض الإيحاء للقمة العربية بوجود انقسام لبنانيّ داخليّ.

 

ونعود إلى الدّاخل اللبنانيّ، لنرى أهميّة اتفاق الحكومة على موازنة العام الحالي، بعد غياب لسنوات، تمهيداً لإقرارها في المجلس النيابي، ما يجعل البلد يخطو خطوة باتجاه ضبط الصّرف والإنفاق وتعزيز الواردات، وإن كان الجدل لا يزال قائماً حول مدى جديّة الدّولة وقدرتها على ضبط الإنفاق، في ظلّ تمأسس الفساد المستشري، وبقاء وجود مزاريب الهدر، وعدم إمكانية تأمين التّمويل للموازنة ولسلسلة الرّتب والرّواتب للقطاع العام، من دون فرض ضرائب تثقل كاهل الطبقات الفقيرة والمستضعفة، في ظل العجز الكبير الموجود في الموازنة. وهنا، ننوّه بكل الأصوات التي تصرّ على أن يكون سدّ العجز من جيوب الأغنياء، ومن خلال تعزيز الجباية وضبط الفساد.

 

وفي هذا الوقت، تستمرّ القوى السّياسيّة على مواقفها من القانون الانتخابي، من دون أن تبدو هناك رغبة في الأفق القريب بالتوصّل إلى قانون يُرضي الجميع، وإن كنّا لا نزال نأمل أن تحمل الأيام القادمة قانوناً جديداً، وهو إن تحقّق، لن يكون بمستوى طموحات الشعب اللبناني، وذلك في ظلّ استمرار عقلية الاستئثار التي لا تزال تحكم غالبية الطبقة السياسية، ليأتي الحديث عن التمديد، الَّذي نراه سيكون أكثر من تمديد تقني، لأنّ الذي لم يتوصَّل إلى قانون انتخابي جديد طوال سنوات سابقة، لن يتوصل إليه لاحقاً إلا بتغيير عقليته أو فرض أمر واقع عليه.

 

ونبقى في الداخل اللبناني، لنشير إلى أهميَّة السّعي لحلّ أزمة الكهرباء المستعصية، وهي من أهم أسباب العجز في الخزينة، لكننا نخشى مما يُطرح حالياً، من استئجار لبواخر تعيدنا إلى تجربة سابقة لم يثبت نجاحها، ولأعبائها الكبيرة، ونظراً إلى ما يدور من أحاديث عن أنّ وراء ذلك صفقات وحسابات خاصّة.

 

القمة العربية

وفي مجال آخر، انعقدت القمة العربية وسط أجواء بالغة التعقيد، نتيجة الأزمات التي تعصف بالواقع العربي من داخله وخارجه، والتي تهدد وحدته وكيان دوله، وتستنزف قدراته وإمكاناته، وتهدّد بشره وحجره.

 

لقد كنا نأمل من هذه القمة أن تكون بمستوى التحديات، وأن تساهم قراراتها في حلّ المشكلات العالقة، أو في وضع أسس لبلوغ الحلول المرجوة، بدلاً من أن تكتفي بملامسة هذه القضايا، أو إبداء التمنيات حولها، بحيث سميت بقمّة التلطيفات.

 

إننا نعتقد أن الدول العربية تملك القدرة ـ لو أرادت ـ على حلّ المشكلات الراهنة، وإطفاء أسباب الحروب المشتعلة في أكثر من بلد فيها، لدورها الأساس والمؤثِّر في هذا الصراع. وإذا لم تمارس هذا الدور، فإن أزمات هذا العالم ستبقى مفتوحة، وستسمح بتدخلات الخارج الذي يستفيد من هذا الاستنزاف، لكونه يصبّ في مصالحه ومصلحة الكيان الصهيوني، الّذي يُراد له أن يكون الأقوى في المنطقة.

 

لقد كنا نتمنّى لو استجاب القادة العرب لنداء الضمير الذي خاطبهم به الرئيس اللبناني، عندما دعاهم إلى أن يكون دورهم إيجابياً، وأن يستعملوا نفوذهم بإيقاف هذه الحروب العسكرية والإعلامية والدبلوماسية، والجلوس إلى طاولة الحوار، فليس هناك رابح في كل هذه الحروب، والكل خاسر فيها.

 

وإلى أن يعي هذا العالم العربي دوره ومسؤولياته، ستبقى معاناة سوريا واليمن وليبيا والبحرين وفلسطين والقدس والأقصى، وسيبقى الواقع العربي كله على حاله من التشظّي والانقسام، وسيظلّ ألعوبة في يد الدول الكبرى، التي أصبحت صاحبة القرار الأساسي فيه، وستبقى هذه الاجتماعات صورية تؤدي إلى مزيد من الإضعاف والتّنازلات.

 

يوم الأرض

وأخيراً، نستعيد في الثلاثين من شهر آذار، ذكرى يوم الأرض، الّتي تذكّرنا بهبّة الشعب الفلسطيني في الثلاثين من آذار من العام 1967، حين أقدمت سلطات الاحتلال على مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي، لتقيم عليها آنذاك مستوطناتها، فاندلعت المواجهات مع الشعب، وسقط العديد من الشهداء، واعتقل الآلاف.

 

إننا نؤكد أهمية إحياء هذا اليوم في فلسطين وخارجها، لتبقى قضية فلسطين حاضرة في الذاكرة والوجدان وفي العمل، حتى لا تضيع وتُنسى كما يُراد لها، حيث لا يضيع حقٌ وراءه مطالب.. سنبقى نراهن على وعي الشعب الفلسطيني الذي أثبت أنه لن يتخلى عن قضيته، مهما كانت التضحيات، وسنراهن أيضاً على وعي الشعوب العربية، بأن تبقى فلسطين بوصلتها وهدفها، ولا تستجيب لمن يريد أن يحوّل هذا البلد العربي أو ذاك الإسلامي إلى عدو، وأن لا تيأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

Leave A Reply