سلاح الصّبر في مواجهة التحدّيات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(آل عمران: ١٧٣-١٧٤-١٧٥).

معركة أحد: النّصر بعد الهزيمة

ترتبط قصّة هذه الآيات بمحطّة مفصليّة من تاريخ الرّسالة؛ إنها ترتبط بالألم وبالجراح، وهي معركة أُحد، الّتي مثّلت نكسةً للمسلمين، حيث سقط عدد كبير من الشّهداء والجرحى. يومها، وبينما المسلمون على تلك الحال، وصلهم خبر أنّ أبا سفيان قرّر أن يعود إلى المدينة كي يغزوها ويجهز على المسلمين. طبعاً هزّ الخبر أركان المسلمين، فهم لم يدفنوا شهداءهم بعد، ولم يداووا جرحاهم. هنا، وُضع المسلمون أمام خيارين: الانهزام والهلع والضّياع، أو الثّبات والتوكّل على الله، ومواجهة التحدّي بالتحدّي، وكان قرار الرّسول(ص)، أن أمر مقاتلي أُحُد بالاستعداد للخروج إلى معركة أخرى مع المشركين.

 يومها لبّى المسلمون جميعاً، بمن فيهم الجرحى والمصابون، دعوة رسول الله، وخرجوا بقيادته(ص) لملاقاة العدوّ.

ومن إحدى صور الثّبات تلك، يقول رجل من أصحاب رسول الله(ص): "شهدت أُحُداً وأخاً لي، فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج لملاقاة أبي سفيان وجيشه، لم نتردّد بالخروج رغم ما نعانيه، أنا أحمله مسافة وهو يحملني مسافة، وقلنا: لا يفوتنا شرف الجهاد تحت راية رسول الله".

وكما تلاحظون، فإنّ التكافؤ من الناحية العسكريّة لم يكن متحقّقاً، لكنّ الحرب، أيّها الأخوة والأخوات، ليست سلاحاً فقط، إنما هناك عدة أخرى توازي السّلاح أهميّةً، بل قد تتفوّق عليه, وهذا ما تسلّح به المسلمون يومها: إصرار، عزيمة، إرادة، شجاعة…

تسلّح المسلمون بالإيمان بأنّهم على حقّ، فقد آمنوا بصوابيّة أهدافهم، وكانت لديهم الثّقة المطلقة بقيادة رسول الله، وأنّهم لا يقاتلون لحساب شخص، إنما لحساب الحقّ، ولأجل الله والله وحده، وهذا ما جعلهم مهابين في عيون أعدائهم.

لهذا، عندما بلغ أبا سفيان خبرُ قدوم المسلمين لملاقاته، وما هم عليه من عزيمة وإرادة وتصميم على القتال، خاف وآثر أن يتراجع عن قراره، ويقفل راجعاً إلى مكّة منتصراً بأُحُد بدلاً من أن يعود إليها مهزوماً.. وهنا نزلت الآيات على رسول الله(ص): {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

سلاح يقلب المعادلات

أيّها الأحبّة: كان يمكن لقرار أبي سفيان أن ينجح، وتتحوّل المعركة إلى هزيمة مدوّية للمسلمين بعد معركة أحد، ولكنّ المسلمين استطاعوا أن يحوّلوها إلى نصر. كيف؟ الجواب فيما يقوله لنا القرآن في هذه الآية: {إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}(الأنفال: ٦٥). نعم، إنّه الصّبر: عشرون صابرون مسلّحون بالصّبر، وسيغلبون بإذن الله. وهذا وعد من الله تعالى…

فبالصّبر وتحمّل الألم، وبالثّبات وعدم السّماح للجبن والضّعف أن يتسلّلا إلى النفوس، يستطيع الإنسان أن يصنع المعجزات، ويقلب المعادلات، يستطيع أن يردّ كيد أعدائه ولو كان هو قلّة وهم كثرة، فليس هنالك من دواء أو جرعة أفضل من الصّبر ليصل الإنسان إلى النّصر الّذي يصبو إليه في كلّ معركة من معارك الحياة، صغيرة كانت أو كبيرة.

والصّبر طاقة وملكة، يحصّلها الإنسان المؤمن بالتّدرّب والتعلّم، ويكتسبها من دروس العبادات، ولا سيَّما الصّوم، يستمدّها من الرضا بقضاء الله، ومن قناعات على رأسها "أنّ ما عند الله هو الخير"، و"كن مع الله ولا تبال"، وأنّ الله هو المدبّر، وهو لا يخيّب عبده إذا قصده في ضيق أو دعاه لشدّة أو كرب. ثم ماذا لو لم يكن هناك صبر؟ لكان هناك جزع وهلع وعدم تماسك وسقوط.

فعندما تتراكم الصّعاب والمخاوف والتّهديدات، ويكون الردّ اعتصاماً بحبل الله، وصبراً على المواجهة والتحدّيات، عندها يتعطّل مفعول "مكر الآخرين ونواياهم"، حسبما وعد الله المؤمنين: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}(آل عمران: ١٢٠). 

طريق معبَّد بالتحدّيات

إذاً الصّبر ضرورة للحياة في جميع مستوياتها، وإن كان ضرورةً لمواكبة حركة الإنسان العاديّ، فهو ضرورة أشدّ لحركة الرّسالات ودعاة الحرية والعدالة والعزّة، حيث لا يمكن تحقيق كلّ ذلك إلاّ بالصّبر. فطريق الرّسالات ودعوات الحريّة لم تكن ولن تكون معبّدة ومفروشة بالورود.

إنّ الإنسان، أيّها الأحبّة، كلّما كبرت أهدافه في الحياة وسمت وعلت، عظمت التحدّيات الّتي يواجهها وطالت، ولهذا سيكون محتاجاً إلى سلاح الصّبر أكثر من غيره،  طبعاً هذا إضافةً إلى أسلحة أخرى: سلاح العقل، وسلاح ما استطاع من قوّة.

ومن يتابع تاريخ الرّسالات السماويّة، وكلّ دعاة الحريّة والعدالة، يجد الآلام والمعاناة والدّماء والجراح، ويجد كذلك الصّبر، وقد ورد في الحديث: «أشدُّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثم الصّالحون، ثم الأمثل فالأمثل». هذا ما نجده في معاناة كلّ الأنبياء؛ نوح وإبراهيم وموسى وشعيب وهود وصالح ولوط، ومعاناتهم كان مصدرَها طواغيتُ قومهم والجاهلون والمتعصّبون. أمّا قمّة المعاناة، فنجدها فيما واجهه رسول الله(ص) من أذى؛ الأذى الجسديّ والمعنويّ، وهو الّذي قال: "ما أُوذي نبيّ مثلما أُوذيت"، لهذا كان في قمة الصّبر والثّبات، وفي مرحلة أمير المؤمنين(ع)، كانت المعاناة مع الخوارج كما مع النّاكثين والقاسطين والمارقين، حتى ملأوا قلبه قيحاً، وجرّعوه الغصص والآلام، فواجه بالصّبر، وفي العين قذى، وفي القلب شجى. وكم يشبه الماضي الحاضر!

إنّنا اليوم نقف أمام تحدّيات كبيرة تواجهنا، تتمثّل في الرّعب من الموت المتنقّل الّذي يسلب حياة النّاس، ومن الظّلم والعنف والتوتر وانعدام نعمة الأمان، وما يستتبعها من انعدام لنعمة الصحّة بسببها، إنّنا أمام ذلك كلّه، نتمسّك بسلاح الصّبر.

بالصّبر نثبت على مواقفنا، فلا نتراجع عنها، ولا نتحرّك بوحي من التوتّر والعصبيّة والانفعال، ولا نخضع للخوف والتّهاويل والتّهديدات. بالصّبر لن نستعجل الوصول إلى النّتائج، فقد نحتاج إلى وقت ونفس طويل لبلوغها، فقد ورد عن رسول الله(ص): "الصّبر أن يتحمّل الرّجل ما ينوبه، ويكظم ما يغضه ولا يستعجل".

 والصّبر، أيّها الأحبّة، ليس ضعفاً، ليس انهزاماً وقبولاً بالأمر الواقع، كما قد يتصوّره البعض، بل هو يعني الثّبات على الحقّ والعدل والقيم والمبادئ، وعدم التّراجع عنها. نصبر ونصرّ على أن نكون أعزّاء أحراراً، رغم الإغراءات والتّهاويل والتّخويف.

خيار لا بدّ منه

أيّها الأحبّة: سنصبر لأنّ الصّبر هو القيمة الّتي يعلّمنا إيّاها ديننا، وهي الّتي ستمكّننا من نيل مرادنا ولو بعد حين، وهي الّتي ستبلغنا أعلى المواقع عند الله، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون: 111].

سنصبر، لأنّنا نثق بأنّ الحال مهما كانت سيّئة فلن تبقى، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(الشّرح: ٥-٦).

  سنصبر، لأنّنا ورغم الجراح والآلام الّتي نعانيها، نتطلع إلى معادلة: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(آل عمران: ١٣٩-١٤٠).

وليكن مثالنا: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ* فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 146_ 148].

والحمد لله ربّ العالمين.

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله؛ التّقوى الّتي تجعلنا نتحرّك حيث يريد الله، فلا نقدّم رجلاً أو نؤخّر أخرى، حتّى نعلم أنّ في ذلك لله رضا. ومن التّقوى، أن نستلهم العبرة الموجودة في هذه القصّة، إذ يذكر أنّ سفينة ضربتها الأمواج، حتّى أشرف ركّابها على الغرق، فأصابهم الفزع والهلع، وضجّوا إلى الله بالدّعاء والبكاء والتوسّل، وكان بينهم شابّ مشغول لسانه وقلبه بذكر الله بكلّ هدوء، ولم يظهر عليه الخوف والاضطراب، فتعجَّب الركّاب من حاله، وقالوا له: "ألم تر ما حلَّ بالسّفينة وبنا، لمَ لا تلجأ إلى الدّعاء، لعلّ الله ينجينا بدعائك من هذا البلاء!؟". فقام الشابّ، ورفع يديه إلى السّماء، وقال: "إلهي، أريتنا قدرتك فأرنا عفوك". فسكن البحر، وهدأت الأمواج، فتعجّبوا من كرامة هذا الشابّ عند الله، وراحوا يسألونه عن سبب إجابة دعائه دون أدعيتهم، فقال لهم: "تركت ما أريد لما يريد، فترك ما يريد لما أريد".

أيّها الأحبّة، هذه التّقوى هي الّتي أشار إليها الله عندما قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. فالتّقوى هي السّبيل لاستجابة دعواتنا وإزالة همومنا، وهي الّتي تجعلنا نبصر النّور وسط الظّلمات، ونبصر الأمل وسط انسداد الأفق من حولنا، وهي الّتي تجعلنا قادرين على مواجهة التحدّيات، مهما عظمت وكبرت، وما أكثرها!

لبنان: الأمن المستهدف

لا يزال الإنسان اللّبنانيّ يعيش معاناة يوميّة، في ظلّ عدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، حيث امتدّت مجدّداً اليد الآثمة إلى حارة حريك؛ هذه المنطقة الّتي لم تنفض بعد آثار الجريمة السّابقة عنها على مستوى الحجر والبشر، لتستهدف أمن الضّاحية الجنوبيّة بكلّ ما تمثّل من أمن الوطن كلّه، وتحت عناوين واهية، فالفاعلون والمخطّطون يعرفون أن لا علاقة لكلّ هؤلاء الضّحايا بالمجزرة الآثمة الّتي نفّذت بحقّ أطفال عرسال، ولا بقتل أطفال سوريا، وتكفي جردة سريعة لكلّ الضّحايا، حتّى تظهر لنا حقيقة كلّ ذلك.

وهنا، نتساءل ونقول لمن قاموا بهذه الجريمة: أسألتم أنفسكم ما هي الجريمة الّتي اقترفتها ماريا الجوهري وهي في ربيع العمر، وأحمد عبيدة؛ السّاعي إلى رزقه، وعلي بشير، وقبله ملاك زهوي، وعلي خضرا، ومحمد الشعار! واللائحة تطول لتضمّ أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا في موقع التّفجير، يتنقّلون إلى أعمالهم، أو يشترون ما يحتاجون، فضلاً عن أولئك الّذين طاولهم التّفجير وهم في بيوتهم؟!

إنَّ ما يحصل من تفجيرات، يشير إلى أنّ الفاعلين والمخطّطين، لا يميّزون فيما يقومون به بين أتباع دين ودين، وأتباع مذهب وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، وأنّه ليس من هدف لاستباحة هذه الدّماء سوى القتل للقتل، وهم يعرفون أنّ ذلك لن يُصرف في السياسة، ولن يؤدّي إلى تغيير الوقائع الميدانيّة الجارية، سواء في لبنان أو خارجه، بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من تعقيدات.

التوحّد لمواجهة الإرهاب

إنَّ ما يجري بات يستدعي من كلّ القوى السياسيّة والدّينيّة، التّلاحم والتّكاتف والتّعاون، لمواجهة هذه الظّاهرة، فهي لا تمثّل خطراً على منطقة معيّنة، أو مواقع محدّدة فحسب، بل تمثّل خطراً على كلّ المناطق اللّبنانيّة، وكلّ البلد، وكلّ النّسيج اللّبناني، وعلى القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة الجامعة بين الدّيانات، كما أنها تشكّل خطراً على صورة الإسلام الّذي يشوّهه هؤلاء بتصرّفاتهم، ويظهرونه على أنّه دين قتل، وأزمة للبشر والحجر، فيما هو دين رحمة ومحبّة وانفتاح وأخلاق، حتّى في أشدّ النزاعات والحروب والمآسي، كما جاء به رسول الله(ص)، ومثّله بسلوكه لا بكلماته فقط.

ومن هنا، فإنّنا ندعو إلى الإسراع في أيّ عمل يساهم في تعزيز وحدة اللّبنانيّين وتماسكهم في هذه المرحلة، وقد نظرنا وننظر بإيجابيّة إلى كلّ أجواء التفاؤل الّتي أشاعتها مواقف الأطراف اللّبنانيّين المختلفة، واستعدادهم للتّنازل لحساب الوطن واستقراره وأمنه، ومواجهة العواصف الهوجاء الّتي لا تزال تحيط به، وذلك بالعمل على تشكيل حكومة وحدة وطنيّة، قد لا تساهم في حلّ كلّ المشاكل، أو إزالة أجواء الخوف من التّفجيرات الّتي تحصل، ولكنّها قد تمهّد لمنع وجود بيئة حاضنة لكلّ هؤلاء الّذين يشتدّ نفوذهم ويقوى في ظلّ الخلاف السياسيّ أو التوتّر المذهبيّ.

إنّنا ندعو كلّ الأفرقاء الّذين يؤثّرون في تشكيل الحكومة، للخروج من حساباتهم الخاصّة إلى حسابات الوطن كلّه. ولكنّنا، مع الأسف، نجد في هذا الوطن من لا يزال يتغافل عن حساسيّة المرحلة وخطورتها، وكأنّ شيئاً لم يحدث في الدّاخل والخارج، فيما المطلوب من كلّ المسؤولين، أن يعوا أنهم موجودون لخدمة النّاس ومعالجة أزماتهم، لا لكي يزيدوا الوضع تأزّماً.

ووسط كلّ هذا الواقع الأمني، نشدّ على أيدي القوى الأمنيّة لمتابعة دورها في حماية مختلف المناطق اللّبنانيّة، مقدّرين جهودها، في الوقت الّذي ندعو المواطنين إلى أن يمارسوا دورهم، كلٌّ في حيّه ومنطقته، ليكونوا خفراء عليها، لمواجهة هذه المرحلة الصّعبة.

فرصةٌ لتسوية الأزمة السوريّة

وفي الوقت الّذي نعيش وسط كلّ هذا الواقع، نرى أنّ ما يجري الآن في جنيف، يمثّل خطوة على الطّريق الصّحيح، بصرف النّظر عن التعقيدات الّتي رافقت الدّعوات إلى هذا المؤتمر.

إنّنا نأمل أن يساهم هذا المؤتمر في رسم عناوين التّسوية الّتي تزيل معاناة الشعب السوري بكلّ أطيافه ومذاهبه، في الدّاخل والخارج، لإيقاف نزيف الدّم، وفكّ الحصار عن أكثر من منطقة سوريّة، والبدء بحوار سياسيّ، لطالما أكّدنا وسنظل نؤكّد، أنّه الخيار الوحيد للسوريّين في كلّ المراحل، حيث لا مجال للحسم العسكريّ في هذا البلد، نظراً إلى التّعقيدات الكبيرة في داخله وخارجه، وإن كان هناك من لا يزال يراهن عليه.

وكم كنّا نتمنّى أن يتمّ هذا الحوار في الداخل السوريّ، بعيداً عن التدخّلات الخارجيّة، ومصالح الدّول الكبرى والإقليميّة، الّتي ستعمل على أن تكون الحلول لحسابها، لا لحساب الشّعب السوري.

إنّنا نعيد التّشديد على ضرورة أن نحفظ سوريا، أن نحفظ وحدتها وحريّتها وخيارات شعبها، وأن تبقى موقعاً من مواقع القوّة للعالم العربي والإسلامي، في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ وكلّ المتربّصين بالأمّة شرّاً.

وهنا، لا بدّ من أن نبدي ملاحظة وسط كلّ ما سمعناه في افتتاح المؤتمر، لنقول: إنّ على الّذين يتحدّثون عن الجرائم والمجازر، ويدافعون عن حقوق الشّعوب، أن يكونوا ممن لم تتلطّخ أيديهم بدماء هذه الشّعوب في هذا البلد أو ذاك، وخصوصاً أولئك الّذين يتحدّثون عن العفّة والطّهارة، ليصدقوا القول بالفعل، في زمن باتت الهوّة سحيقة بينهما.

مصر: الخشية من الفوضى

وعندما نتطلّع إلى مصر، وسط كلّ هذه الضّوضاء التي تلفّ المنطقة، فإنّنا نخشى تسلّل أجواء الفوضى والفتنة إليها، حيث يعمل الكثير من الأطراف على استغلال الخلافات السياسيّة، من أجل الدّخول على خطّها، والقيام بتفجيرات أمنيّة متنقّلة، لإبقاء مصر في دائرة الاهتزاز والاستقرار.

إنّنا أمام هذا الوضع، ندعو الجميع في مصر، إلى العمل السّريع لتطويق السّاعين إلى الفتنة، من خلال لملمة الجراح، والتّركيز على أولويّة بناء الوحدة الوطنيّة الدّاخليّة، ونبذ الخلافات الهامشيّة، لأنّ في سلامة مصر وأمنها واستقرارها، سلامة للأمّة، وحماية للمنطقة كلّها، فهي بأمسّ الحاجة إلى دور مصريّ فاعل، يعيد التّوازن إلى السّاحة السياسيّة الإسلاميّة والعربيّة، ويحفظ قضايا العرب والمسلمين.

أين فلسطين من الاهتمام؟!

وأخيراً، كم كنّا نتمنّى أن يكون هذا الاهتمام العالميّ، وهذا الحشد الدّوليّ، مكرّساً لمواجهة ما يعانيه الشّعب الفلسطيني، الّذي تستباح أرضه وإنسانه وممتلكاته وهويّته كلّ يوم، وتطرح التّسويات على حسابه وحساب مستقبله بمباركة دوليّة، لأنّ حسابات الكيان الصّهيوني هي الوازنة والمؤثّرة في ميزان الخداع الاستكباريّ، فهو الابن المدلّل للعالم الغربي والشّرقي، ونخشى أن يكون كذلك للعالم العربي والإسلامي.

ويبقى أن ندعو كلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، وسط كلّ الجراح الّتي تعانيها، إلى أن تتطلّع إلى فلسطين، وإلى معاناة أهلها، وإلى كلّ المخطّطات التي يراد لها أن تمرّر في هذه المرحلة، مستفيدة من كلّ هذه الحرائق المشتعلة، لتبقى فلسطين القضيّة المركزيّة، فنحن نخشى ابتلاعها مع القدس والأقصى، وإسقاط كلّ من هو في خطّ الدّفاع الأوّل عنها، حتّى تمرّ هذه المؤامرة.

 

 

Leave A Reply