عليّ عليه السلام… نموذج الزهد الأرقى

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} صدق الله العظيم.

 

"أعزبي عنّي (يا دنيا) فواللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني. وأيم اللّه يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّه لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص (أي تفرح بالرغيف من شدة ما حرمته) إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء، نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلي‏ء السّائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض؟ ويأكل عليّ من زاده فيهجع قرّت إذا عينه (دعاء على نفسه (ع) بالموت، الذي علامته سكون عينه) إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة، بالبهيمة الهاملة والسّائمة المرعيّة"…

بهذه الكلمات تحدث علي(ع) عن منهجه في الحياة…

 

هذا الإمام التي مرت علينا في الثالث عشر من هذا الشهر، شهر رجب الحرام ذكرى الولادة المباركة لأمير المؤمنين(ع) علي بن أبي طالب.

 

لقد عاش علي(ع) القمة التي حرص رسول الله(ص) أن يزينه بها عندما قال: "أزهدكم علي".

فأي زهد هو زهد علي(ع).. هل هو الإعراض عن الدنيا وطيباتها وما أحله الله منها، بالطبع ليس هذا هو ما أراده، فهذا ينافي قول الله سبحانه وتعالى عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}..

 

وقول رسول الله(ص): "لا رهبانية في الإسلام".. ولذلك عندما أُخبر(ص) أن بعض أصحابه قد أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الاعتزال عاتبهم على مواقفهم وقال لهم حينها: أنا نبيكم ولست أفعل ذلك.. وأعلن لهم أن الإسلام دين حيوي اجتماعي لا رهبانية فيه.

 

بل هو ما واجهه علي(ع) عندما جاء إليه رجل يشكو أخاه بأنه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا.. فطلبه علي(ع) وقال له: "يا عُديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك".

 

لقد رسم علي(ع) منهج الزهد عندما قال: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، ولكن الزهد ألا يملكك شيء".. فقد يكون الإنسان زاهداً وهو يملك أموال قارون وملك هارون الرشيد ما دام من خلاله.. فهو عندما يحصل عليها لا تأسره لحسابها ولا يصبح عبداً لها.. ولذلك لا تغيره.. كان متواضعاً ويبقى، كان يحرص على أداء واجباته ويستمر.. كان يأتي إلى المسجد ولا يزال.. وهو مستعد أن يضحي بكل ثرواته وأن يتخلى عنها عندما تكون على حساب كرامته وعزته وحريته.. أو تؤدي به إلى أن يخسر رضا الله وجنته.. أو أن يدوس على قيمة كبرى من القيم التي دعا إليها الله سبحانه ليعيش لذاته على حساب الالتزام بالمبادئ العطاء والإيثار ومواساة الناس في أزماتهم ومعاناتهم..

 

لقد عاش علي(ع) هذه القيمة في حياته، فقد كان زاهداً عندما كان فقيراً، فترك طعامه لحساب المسكين واليتيم والفقير، فنزلت فيه كما في الزهراء(ع) وأبنائه(ع) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً}

 

وكان زاهداً عندما أقبلت عليه الدنيا، فقال لها: "إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، واجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ… اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّه لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، ولَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي".

 

وهذا ما عبر عنه ضرار أحد أصحاب الإمام عندما طلب منه معاوية أن يصف له علياً فقال: واشهد بالله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه؛ وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: "يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلَيَّ تغررَّتِ، إلَيَّ تشوفت، هيهات هيهات، غُرِّي غَيْري، فإني قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السَّفر، ووحشة الطريق"..

 

وقال: "لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز.. لا ولكن هيهات أن يغلبني هواي…" هو روض نفسه على ذلك وقال: "لأروض نفسي رياضةً تهشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً".

 

فهو لم يرد للدنيا أن تأخذه إلى حيث تريد وتهوي به.. هو قرر أن يعاكسها عندما تكون على حساب قيمه حتى لو كلفته وقد كلفته كثيراً.. ولذلك تراه قادراً أن يقول لمن جاء إليه يريد منه أن يثبت دعائم حكمه ولكن على حساب ظلم الناس، فيعطي البعض أموالاً وآخرون يعطهم مواقع لا يستحقونها وآخرون يثبتهم في مواقعهم: "أتأمرونني أن اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟! فوالله لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله".

 

وهو داس على مشاعره الرفيعة عندما لم يجامل أخاه عقيل الكفيف حين طلب منه زيادة حصته من بيت المسلمين ورفض أن يعطيه لئلا يخل بمبدئه في المساواة بين الناس، ولما ألح أراد أن يريه لماذا هو يفعل ذلك..  أحمى له حديدة على النار وأدناها منه.. وعندما تألم وصرخ قال له: "ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارُها لغضبه".

 

ولأجل هذه القيمة قال لذلك الرجل الذي جاءه برشوة بعنوان هدية.. "أعن دين الله أتيتني لتخدعني! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت! إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها"..

 

ثم قال: "والله لئنْ أبيتُ على حسك السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مُصفّداً، أحبُّ إليَّ من أنْ ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحُطام، وكيف أظلِمُ أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البلى قُفُولها، ويطول في الثّرى حُلُولها".

 

ولم يقف زهد علي(ع) عند هذا الحد، بل امتد إلى كل مساحة علاقاته، فبه كان يواسي الناس الضعفاء من حوله، فهو عندما لم يستطيع أن يحل مشاكلهم نزل إليهم وشاركهم في معاناتهم.. ولذلك قال: "أأقنع من نفسي أن يُقال "هذا أمير المؤمنين" ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أُسوة لهم في جُشوبة العيش".

ثم قال: "وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِـدِّ".

وقال: "إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره".

 

أيها الأحبة:

لم يكن علي(ع) عدواً للدنيا، هو أحبها عندما تكون الدنيا في خط طاعة الله في خط رضوانه.. هو قدرها عندما تكون متجراً لأولياء الله…

ولذلك قال لمن ذم الدنيا: "إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها".

فهو كان واعياً لحقيقة الدنيا وأنها لن تبقى.. ولذلك قال: "وما لعلي ولذة تفنى ونعيم لا يبقى".. وهي لم تكن في نظره تحمل أي قيمة بنفسها، بل كان يرى أن قيمتها بمقدار ما يقيم حقاً أو يدفع باطلاً.. وهذا ما قاله لابن عمه ابن عباس عندما رآه وهو يخصف نعله.. قال له: "أترى هذا النعل، إنها أفضل إليّ من إمرتكم هذه إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً ".

 

ولذلك قال: "لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ".

 

أيها الأحبة:

لقد كان علي(ع) يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون، وكان قادراً على أن يبلغ ما بلغه الآخرون وأن يستميل قلوب الناس إليه، ولكن علياً لم يفعل ذلك.. لا لأن علياً لم يفهم السياسة وهو الذي قال: "واللـه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس".

 

وقال(ع): "قد يرى الحُوّلُ القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين…".

 

لقد كان علياً على وعي بكل ما يحدث، ولم يكن لديه أي طمع للسلطة، لذا لم يكن ليواجه الغدر بالغدر، كما يفعل أهل السياسة، لذلك عانى من الجميع، وأكثر ما عاناه من الناكثين والقاسطين والمارقين الذين لم يرتضوه بمنطقه الزاهد وبحكمه العادل.. ولهذا قيل آنذاك: والله لئن وليها علي لحملكم على المحجّة البيضاء..

وهو قال: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنما أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم".

 

ونحن أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى من ينتهج طهر علي وصفاء علي وشفافية علي ومصداقية علي…

إن أي قانون وبرنامج إذا تجرد من القيم الروحية والأخلاقية سيبقى حبراً على ورق.. وأمنيات في قلوب المؤسسين وأفكار في أدمغة الفلاسفة والعلماء.. لن يتم إلا الإصلاح إلا حينما نجسد الأفكار الصالحة والأهداف المقدسة بأياد طاهرة ونفوس تتسامى على شهوات الدنيا ولا تتحرك إلا وفق موازين الحق والمصلحة العامة..

 

فلو سلمنا أحسن القوانين وأفضل المراسيم وأول المخططات والمناهج إلى أيدي أناس عبدوا شهواتهم وركعوا أمام أنانيتهم وما رأوا إلا أنفسهم ولم يحسبوا لله حساباً.. فسوف تشوه وتنحرف ولا يبقى منها تأثير…

 

إن مشكلتنا ليستا في فقدان التفكير أو التخطيط، فلدينا كل ذلك ولكن مشكلتنا إننا بتنا أسرى المنصب والجاه والمال، بعدما فقدنا القلب الطاهر.. اليد الطاهرة… والإنسان الذي لا يؤنسه إلا الحق ولا يوجسه إلا الباطل…

 

تعالوا في يوم ولادة علي(ع) لنؤكد لعلي حبنا العميق عندما نبيع أنفسنا وكل كياننا لله لا لأي أحد مهما كان هذا الأحد.. بحيث لا يرانا إلا حيث يحب ولا يرانا حيث لا يريد..

 

جعلنا الله من المحبين له سلوكاً وعملاً ومواقف إنه مجيب الدعاء…

 

هذه الذكرى التي تعيدنا إلى رحاب هذا الإمام الذي لن يكتفي منا بأن نذكر مآثره وسجاياه وفضائله مما لا يحصى تعدادها…

 

فيكفي في ذلك ما نقل عن الزمخشري حين سئل عن فضائله(ع): ما أقول في رجل أخفى محبوه فضائله خوفاً وأخفى مبغضوه فضائله حسداً.. فشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين.. لا يريد كل ذلك.. إنما يريد منا أن نتمثله سلوكاً.. أن نقتدي به.. أن نكون بأفعالنا من محبيه ومواليه.. أن نكون زيناً له لا شيناً عليه.

 

فعلي(ع) في كل حياته لم يرد الذي يصفقون له ويبجلونه ويعظمونه.. ولو أراد ذلك لحصل على الكثير ولما عانى من كل ما عانى حتى قال: "ما ترك لي الحق من صديق".. هو كان يريد الذين يعينونه في الرسالة التي أفنى كل حياته حتى يثبت دعائمها، هذه الرسالة التي لأجلها جاهد، ولأجلها صبر ولأجلها تألم ولأجلها قدم حياته.

 

وهو ما قصده حين قال: "أعينوني بورع واجتهادٍ، وعفة وسدادٍ".. "أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟".

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالالتزام بما أوصانا به أمير المؤمنين عندما قال: "أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ، وَخَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ… أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَلَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ، وَلَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، أَلَا وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَلَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا، فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا، وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا، وَلَا ييخنّنّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ، أَلَا وَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْ‏ءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ"، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ..

 

أيّها الأحبّة، لقد أراد لنا عليّ(ع) أن نكون الواعين، أن لا تخدعنا الدنيا بخدعها، وأن لا تغرّنا بغرورها، وأن لا نستكين لها، وأن لا تكون أكبر همنا، وأن لا نرخي لها قيادنا ونحطّ لها رِحالنا، فالله لم يجعلها هي الدّار والقرار، ولذلك قال إنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان، وندّد بمن يؤثر الدنيا على الآخرة وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ}، فلنسارع حتى يكون لنا موقع فيها، لا أي موقع، ولنستنفر كل طاقاتنا لها، فهي خير وأبقى.

وعند ذلك لن ننسى الدنيا، فقد أمرنا الله بأن لا ننساها، بل أن نجعلها أكثر طهراً وصفاءً وأحسن عملاً، وبذلك نكون جديرين بها، وأكثر قدرةً على مواجهة التحديات..

 

لبنان

والبداية من لبنان، حيث لا يزال هذا البلد أسير طبقة حاكمة لم تقرر بعد أن تخرجه من الشرنقة التي وضعته فيها، أو من حالة التردي التي يعاني تداعياتها، حيث العجز المستمر الَّذي لا أفق له في ملء الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، أو تحريك العمل في المجلس النيابي، وتفعيل عمل مجلس الوزراء، فيما يعاني البلد الفساد الذي ينهش أركانه، والقضاء المغلوب على أمره، والتطييف ومذهبة الصراعات التي تجري داخل مؤسسات الدولة، وحتى الأمنية منها..

 

ويزيد في ذلك الضّغوط السياسيّة والاقتصاديّة، وأزمات المنطقة الّتي تدور حوله وتترك آثارها فيه، وما على اللبنانيين في كلّ ذلك، إلا انتظار عودة الضّمير إلى هذه الطبقة السّياسيّة، ونحن نخشى أن لا يعود، وهو فعلاً لن يعود إلا إذا شعر المسؤولون بأنهم أمام مواطن يراقب ويتابع ويحاسب، ولا يستكين لكلمات معسولة أو يرضخ لأمر واقع.

 

ومن هنا، ندخل إلى البلديات الّتي نريدها أن تعبّر عن إرادة التغيير لدى اللبنانيين في حُسن اختيارهم لممثليهم في هذا المرفق الحيوي الَّذي يدير شؤون قراهم ومدنهم، وأن يكون خيارهم في ذلك نابعاً من الكفاءة والنزاهة ونظافة الكفّ وحُسن الإدارة، بحيث يختارون الكفء والصالح، سواء كان من هذه العائلة أو تلك، أو هذا الموقع السياسي أو ذاك، أو هذا الحزب أو ذاك التنظيم…

 

يجب أن يخرج اللبنانيون مما اعتادوه في التعامل مع مثل هذه الانتخابات، حيث تبرز في ذلك الصراعات العائلية والسياسية والطائفية والمذهبية والتأثيرات المالية، على حساب الهدف الذي وجدت البلديات لأجله، فالبلديات موقع إنمائيّ، ولا بدّ لمن يتصدى لهذا الموقع من أن يكون جديراً به، وهي ليست تعبيراً عن أوزان سياسية أو مالية أو عائلية أو غير ذلك، فالَّذي يستحقّها هو الّذي يملك البرنامج الأفضل والتاريخ الأطهر، فلا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع، أياً كانت عائلته أو موقعه.

 

إنّ على اللبنانيين أن يعرفوا أن أصواتهم الّتي يضعونها في الصناديق غالية وثمينة ومسؤولة، ولا ينبغي أن توضع كيفما كان، ومن يضعها كيفما كان في البلديات أو النيابة، أو أيّ موقع مؤثّر في قرار البلد، ليس من حقّه بعد ذلك أن ينتقد أو يعارض، لأنه سيصير شريكاً فيما وصل إليه البلد فيما بعد، وهو ما يتطلّب من اللبنانيين أن يخرجوا أنفسهم من حالة الإحباط التي يعيشونها، وأن يكفوا عن الحديث القائل بأن لا أمل في التغيير، لأن التغيير سوف يأتي إن قرر اللبنانيون ذلك.

العالم الإسلامي

ومن لبنان إلى المنطقة العربيّة والإسلاميّة، حيث تستمر حالة الاستنزاف التي تعانيها سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها على المستوى السياسي والاقتصادي والمالي والإنساني، والتي تقضي على البشر والحجر، لتأكل أخضر هذا العالم ويابسه، حيث لا أمل في الحلول السريعة، وإن كان هناك لقاءات وقِمَم، فهي مع الأسف، تزيد الاحتقان، وتجيّش المتصارعين، من دون أن تصل بهم إلى الحل، فيما المستفيد الأول من كل ذلك هو الكيان الصهيوني، الذي بات قادراً على أن تجتمع حكومته في الجولان، وفي أرضٍ عربية وإسلامية، وعلى مقربة من كل الذين يتصارعون على أرض سوريا، ليقول رئيس حكومة هذا الكيان بأن الجولان سيبقى في عهدته إلى الأبد، وليدعو المجتمع الدولي إلى الاعتراف بهذه السيادة الصهيونية عليه.

 

ومع الأسف، لا يهزّ ذلك الجامعة العربيّة، ولا منظّمة التّعاون الإسلاميّ، ولا حتى الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، ولا يدفعها إلا إلى إصدار بعض البيانات الخجولة المعتادة في مثل هذه المواقف، فضلاً عن تنديدات لا تُسمن من جوع، وتحالفات تُقام لأهدافٍ أخرى.

 

لقد كنّا ننتظر أن يستدعي ذلك رداً قويّاً من الدّول العربيّة والإسلاميّة، حتى تضع مواجهة هذا الكيان في أولوياتها في لقاءاتها مع الدّول الّتي تملك القدرة على الضّغط عليه وعلى ردعه، لكن ذلك لم يحصل، ونخشى أنه لن يحصل، بعدما تبدَّلت الأولويات، ولم يعد وجود الكيان ومشاريعه وغطرسته ضمن هذه الأولويّة.

 

إنّنا لم نيأس، ولن تيأس الشّعوب العربيّة والإسلاميّة الّتي لا مصلحة لها في الدّخول في أتون الفتن، والتي تصر على إبقاء وجهتها نحو العدوّ الحقيقيّ الّذي يحتلّ الأرض والإنسان، وما العملية الأخيرة في القدس إلا تعبيراً عن هذه الروح البطولية المقاومة، والتي من المسؤولية أن تُحفظ.. وستعطي أُكُلها كلّ حين بإذن ربّها.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ :  15 رجب 1437هـ الموافق : 22 نيسان 2016م

 

Leave A Reply