في أجواء ميلاد السيِّد المسيح(ع)

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}. صدق الله العظيم.

 

في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوّل، نستعيد ذكرى الولادة المباركة للسيّد المسيح(ع)، هذه الولادة التي شاء الله سبحانه أن تكون إعجازيّة، وقد شبَّهها الله سبحانه بولادة آدم(ع) عندما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

 

لماذا نحيي هذه المناسبة؟!

ونحن عندما نحيي هذه الولادة المباركة، فإنّنا نحييها، أوّلاً، انطلاقاً من ديننا الذي يرى أنَّ هذا النبي هو من الأنبياء المرسَلين، وقد دعانا إلى أن لا نفرِّق بين أحدٍ من رسله، فنحن لا نفرِّق بينهم في الإيمان، وفي اعتبارهم نماذج قدوةً لنا: {قُولُوا آَمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.. {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.

 

وثانياً، للإشارة إلى الدّور الذي قام به هذا النبيّ، فقد كان له دوره في إشادة بناء الدين الذي جاء رسول الله(ص) بعد ذلك ليتمّمه، فرسول الله(ص) لم يأت برسالته من فراغ، بل جاء مصدّقاً لكلّ الرسالات السماوية التي جاء بها الأنبياء الذين سبقوه ومتمِّماً لها. وقد أشار رسول الله(ص) إلى هذا الدّور عندما قال: "إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويتعجّبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللّبنة؟". قال: "فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النبيّين". ولذا، كان رسول الله(ص) يقول: "أنا أولى النّاس بعيسى بن مريم".

 

وثالثاً، لإظهار الموقع الذي حظي به هذا النبيّ عند الله سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ}.

 

وقال عنه الله سبحانه في آيةٍ أخرى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.

 

المسيح عند المسلمين

ومن هنا، فإنَّ إحياءنا لهذه الذّكرى، يأتي من موقعنا كمسلمين، ومن موقع ما نؤمن به من تقديس شخصيَّة السيّد المسيح(ع)، وطبيعة الدَّور الرسالي الذي قام به، وما تعرّض له من معاناةٍ وآلام، حتى كاد يتعرّض للصلب لولا عناية الله. فنحن في الوقت الذي نؤكّد في هذه الذكرى ما يجمعنا مع أتباع السيّد المسيح من المسيحيّين من الإيمان به، فإننا لا بدّ من أن نؤكّد خصوصية معتقدنا فيه وفي سائر الأنبياء، كما بيَّن القرآن الكريم وبيّنت السيرة النبويّة وأحاديث أهل البيت(ع).

 

فنحن، وانطلاقاً مما نؤمن به، لا نؤمن بصلب السيّد المسيح(ع)، حيث جاء في القرآن: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيم}، ولا نؤمن بكونه ابناً لله أو أنّ الله تجسّد فيه، لإيماننا بقول الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. وننتقل إلى قوله تعالى للسيّد المسيح(ع) عندما قال: {وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}. ونحن لا نرمز إلى ولادة السيد المسيح(ع) بالرمز المتداول بشجرة السّرو، بل نراها في شجرة النّخيل التي استظلّت بها السيّدة مريم عند الولادة، والذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً…}.

 

من دروس السيّد المسيح(ع)

ونحن في هذه المناسبة، لا بدَّ من أن نستعيد بعض المعاني التي تمثَّلت بسيرته(ع)، والكلمات النورانيّة التي كان يتحدَّث بها إلى الناس، لنتمثَّلها في سلوكنا ومواقفنا.
 

طرد لصوص الهيكل

نتوقّف أوّلاً عند كلمة قالها: "أخرجوا اللّصوص من الهيكل"، وهو قالها في مواجهة رعاة بيت المقدس آنذاك، ممن كانوا يستغلّون موقعهم الديني واحترام الناس لهذا الموقع، لحساب من يغدقون عليهم المال، أو من أوصلوهم إلى مواقعهم، فكانوا يجيّرون الدين لحسابهم، ويبرّرون لهم أعمالهم على حساب الدّين وقيمه. والنبيّ عيسى(ع) كان يراهم لصوصاً، لأنّ اللّصوص ليسوا فقط من يسرقون المال، وإنما هم أيضاً من يسرق من الناس الإيمان الصافي والوعي، وحتى المسؤوليّة.

 

لقد أراد السيد المسيح من هذه الكلمة للناس أن لا يُخدعوا بالمظاهر، وأن يميّزوا الذين يمثّلون الدين ممن يعيشون قيمه ومبادئه ويلتزمون به، ولو كان ذلك على حسابهم، عن أولئك الذي يبررون الظلم والاستكبار والانحراف والفساد والإرهاب، كما نرى، مع الأسف، في أفعال وعّاظ السلاطين وحكّام الجور والأغنياء أصحاب المال.

 

إدانة النّفس أوّل

وكلمة أخرى قالها عندما اجتمع كثر من الناس وهم في حالة غضب وشماتة، ليرجموا امرأة اتُّهِمَت بالزنا، فقبل البدء بتنفيذ الحكم، وقف السيّد المسيح آنذاك بين الجموع، محدِّداً شرطاً للذين يريدون أن يشاركوا في رجم هذه المرأة، فقال: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر".

لقد أراد السيد المسيح(ع) بذلك أن يعلّم الناس درساً، وهو أنَّ الذي يريد أن يدين الآخرين، لا بدَّ من أن لا يكون مداناً، فليدن نفسه وليهذّبها قبل أن يدين الآخرين، وأن لا ينظر إلى عيوب الناس قبل أن ينظر إلى عيوب نفسه، وأن لا ينتقد الناس قبل أن ينتقد نفسه، وأن لا يرمي الناس بالتقصير قبل أن يدقّق في تقصيره…

 

التّفكير الإيجابيّ

وفضيلة أخرى أراد السيّد المسيح(ع) أن يؤكّدها، عندما مرّ مع بعض حواريّيه بجيفة كلب، فأمسك الحواريّون أنوفهم وقالوا: ما أشدّ نتن رائحة هذه الجيفة! فقال السيد المسيح(ع): "ما أشدّ بياض أسنانها!"..

 

فقد أراد(ع) لحواريّيه أن لا يتسرّعوا وينظروا فقط في سلبيّات الآخرين، بل إلى إيجابيّاتهم، أن يروا الجانب المشرق والمضيء منهم، وهذا لا يعني عدم النظر في السلبيّات، لكن بعد التبصّر في الإيجابيّات.

 

التّربية الحسنة

ودرس آخر له، عندما مرّ يوماً بقبر يعذَّب صاحبه، ثم مرّ به في السنة التّالية، فإذا قد رُفِع العذاب عنه، فسأل الله: رفعت العذاب عنه وهو يستحقّه؟! فأوحى إليه: يا روح الله؛ لهذا الرجل ولد صالح أصلح درباً، وآوى يتيماً، فغفرت له بسبب ابنه. فالتفت إلى حواريّيه وقال لهم: هكذا ربّوا أولادكم..

 

مواجهة الفساد

وكلمة أخيرة له عبَّر بها عن الموقف من الظالمين والمجرمين: "بحقّ أقول لكم: إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلايزال ينتقل من بيت إلى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأوّل فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النار محلاً، وكذلك الظالم الأوّل، لو أخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النار في البيت الأوّل خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً".

فهو أراد أن يبيّن للمجتمع أن يكون حريصاً على إطفاء الحرائق التي ينتجها الفساد والظلم والانحراف في مهدها، قبل أن تنتقل إلى مواقع أخرى ويتعدّى مداها، كما يحرص على إطفاء حرائق النار التي قد تنشب في البيوت كي لا تصل إلى بيوت أخرى.

 

مسؤوليّة إنقاذ العالم

هذه بعض القيم التي دعا إليها السيد المسيح(ع)، وهي التي جاء بعد ذلك رسول الله(ص) من أجل أن يثبّتها ويؤكّدها ويدعو إليها. فإخلاصنا للسيد المسيح، كما إخلاصنا لرسول الله(ص)، لا يكون إلا عندما ننزل هذه القيم إلى ساحتنا، فهي التي نحتاج إليها.

 

ونحن في هذا المجال، نقول لأتباع السيّد المسيح(ع)، ولأتباع رسول الله(ص)، وفي هذه الذّكرى الجامعة، إنّ مسؤوليّتكم ومسؤوليّتنا أن نعمل معاً لإنقاذ هذا العالم، فهذا العالم لن ينقذ إلا بعودة القيم الروحيّة والإنسانيّة، وعودة الأخلاق التي لأجلها جاء السيّد المسيح(ع) وجاء رسول الله(ص)، وأن نقف معاً في مواجهة اللاروح واللاقيم واللاأخلاق واللاعدل الذي يعاني العالم نتائجه، لتستعيد الحياة رونقها وجمالها وإحساسها بإنسانها، وتخرج من براثين الظلم والتسلّط والطغيان.

 

الآخرون، كلّ الآخرين، صوّروا ويصورون الأديان مشكلة الحياة، فيما المشكلة في الذين أخرجوا الدين من سياقاته، وحوّلوه إلى عصبية وطائفية وأداة تناحر وانقسام.

فلنعد للدّين المحبة والرحمة والإنسانية والتوحيد. بهذه المعاني نبني الحياة، ونصنع المستقبل، ونعيد للدين إشراقته، وللعالم وحدته.

 

 

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما كتبه الإمام الحسن العسكري(ع) إلى بعض أصحابه، هذا الإمام الَّذي استعدنا ذكرى ولادته في الثامن من شهر ربيع الآخر، وعلى رواية، في العاشر من هذا الشّهر.. فقد طلب منه أحد أصحابه أن يعلّمه دعاءً يدعو به دائماً، فكتب إليه أن يكثر من هذا الدعاء:

"يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا عزّ النّاظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمّد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدَّ لي في عمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري".

لقد أراد الإمام (ع) من خلال هذا الدعاء، أن يبيّن لنا الصّورة التي نرى الله بها، أن نراه سامعاً لنا، مبصراً، محاسباً، وحاكماً، حتى نشعر به حاضراً في حياتنا، ونحسب له حساباً عند كلّ كلمة، وفي كلّ مشهد، وعند كلّ موقف.

وقد بيَّن(ع) بعد ذلك الاهتمامات الّتي يريدها أن تكون اهتماماتنا، هو يريدنا أن نعيش الحياة، وأن نكون أقوياء فيها.

ولذلك، دعانا إلى أن نسأل الله أن يوسّع علينا من أرزاقنا، فلا نحتاج أحداً، وأن يمدّ لنا في أعمارنا، وأن نحظى برحمته وتأييده، وفي الوقت نفسه، أن نكون دعاةً لله لننتصر لدينه، فنكون في كلّ موقع نملك فيه التأثير، فلا نكون حياديين، أو يكون الدّين على هامش اهتمامنا، بحيث يرانا الله غير جديرين بحمل رسالته، وهذا أصعب موقف يقفه إنسان!

بهذه الاهتمامات التي دعانا إليها الإمام(ع)، ومن خلالها، نستطيع أن نكون أكثر وعياً وقوّةً ومسؤوليّة، وأن نواجه التحديات.

 

في انتظار الحكومة

والبداية من لبنان، الذي بات الجميع فيه ينتظرون ولادة حكومة جديدة طال انتظارها، بعدما تكلَّلت بالنجاح الجهودُ التي بُذِلت، بدءاً بجهود رئيس الجمهوريّة، من أجل حلّ العقدة السنيّة التي شكَّلت عقبةً كأداء أمام تأليفها، وبعدما شعر المعنيّون بهذه العقدة بأن لا خيار لهم إلا تقديم تنازلات متبادلة.

 

لقد جاء هذا الحلّ، وبالطريقة التي تمّ بها، ليؤكّد مجدَّداً ما كنا قلناه في هذه الأزمة، أن لا غالب ولا مغلوب في هذا البلد، وأنّه محكوم دائماً بالتسويات.

 

لذلك، من حقّ اللّبنانيّين، وبعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، أن يتساءلوا: أما كان الأجدر أن تحصل هذه التسوية قبل سبعة أشهر؟ ومن يتحمّل مسؤوليّة التأخير الذي أوصل البلد إلى كلّ هذا التردّي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وأشاع أجواء التوتّر التي شهدها؟

 

إنّنا لن نقف في ذلك على أطلال الماضي، ولا نرى جدوى في الحديث عن المحاسبة لكلِّ القوى السياسيّة، ولكنّنا نريد لهذه القوى أن تستفيد مما جرى، لتفادي الكثير من العقبات التي قد تنتصب أمامها، وللإسراع في علاجها، فلا تعالَج مجدَّداً بمنطق النزال والصِّراع والمناكفة، أو بأن يقف كلّ في موقعه ولا يتنازل للآخر، فمثل هذا المنطق لا يحقّق أيّ نتائج في بلدٍ كهذا البلد.

 

إنَّ على الحكومة القادمة أن تضع نصب عينيها الواقع المزري الَّذي وصل إليه البلد، والذي جعله في دائرة المخاطر، ومعاناة إنسانه ومتطلّباته، إذ إنَّ الإنسان فيه بات يفتقد أدنى مقوّمات الحياة، ولا يشعر بأنَّه يعيش في بلدٍ يحترم إنسانيَّته.

إنّنا لن نغالي في قدرات الحكومة القادمة، فنحن نعرف حجم الأزمات التي يعانيها لبنان، ولكن من حقّ الإنسان في هذا البلد أن يرى أنَّ هناك عقليّة جديدة في إدارة شؤونه، تكون بعيدة كلّ البعد عمّا اعتاده اللبنانيون، عقليّة تأخذ في الاعتبار تقديم المصالح العامّة على المصالح الخاصّة، عقلية تواجه الفساد والاستئثار والمحاصصة وتقاسم الجبنة، عقلية تتفاعل مع الخارج، ولكن لا تقدّم مصالح الخارج على حساب مصلحة الداخل.

 

إنَّ العهد الذي اعتبر أنَّ هذه الحكومة حكومته، هو اليوم أمام تحدّ، وعليه أن يثبت نجاحه الذي لن يحصل إلا إذا تعاون مع الجميع وتعاون الجميع معه.

 

مع التحرّكات الشّعبيّة

ومن موقعٍ آخر، وليس بعيداً من هذا الموقع، شهدنا في الأيام السابقة تحركات شعبيّة متعدّدة الأطراف والجهات في الشارع، تطالب بوقف الهدر والفساد والإصلاح وتأمين حقوق النّاس المهدورة على كلّ المستويات، ونحن في ذلك نرى أنفسنا مع أيّ تحرك شعبي ومطلبي مدروس وحكيم، لأننا نرى دوراً للشّعب لا بدَّ من أن يقوم به في مواجهة الأزمات التي يعانيها، لأنّ أيّ فئة من الطبقة السياسية في هذا البلد، لن تضبط حركتها أو تقوم بدورها أو تصغي إلى معاناة إنسانه، إن لم تشعر بوجود شعب يضغط، بوجود رقابة شعبيّة حقيقيّة تتحرّك، حيث ينبغي أن تتحرَّك لا بقرار سياسيّ من هنا أو هناك، أو أن تكون جزءاً من اللعبة السياسيّة أو في خدمة مواقع سياسيّة.

 

القضاء في مواجهة الفساد

ويبقى أن نشير، وفي إطار الحديث عن تلوّث الليطاني والكارثة التي حلَّت به، إلى أهميّة الإجراءات القضائيّة التي حصلت على خلفيّة هذا التلوّث، الذي يشير إلى استفاقة القضاء في التعامل مع الّذين يسيئون إلى بيئة الناس وصحتهم.

إنّنا نأمل أن يتعزَّز هذا المسار، وأن لا تعرقله تدخّلات، كما يحصل غالباً، سياسيّة أو طائفيّة.. إنّنا نريد تعميم هذه المحاسبة، لتشمل كلَّ الذين يفسدون، ليروا أنفسهم مدانين من قضاء ينطق بالحقّ، ويكون بعيداً كلّ البعد عن أيّ تدخلات سياسية.

 

ماذا وراء الانسحاب الأمريكيّ؟!

وإلى سوريا، التي شهدت أخيراً قراراً أميركياً للانسحاب منها، استدعى ردود فعل متعددة، فإننا، وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية للانسحاب، سواء اتصلت بالخروج من احتمالات التورّط في صراعات مقبلة، أو بصفقات سياسية مع بعض الدول، نرى أنّ لهذا الانسحاب آثاراً إيجابيّة في المنطقة، فهو يقلّص من الطموحات العدوانيّة للكيان الصهيوني، الذي يتغذّى من أيّ وجود أميركي حليف في جواره، ويخفّف من تعقيدات الأزمة السورية، كما أنّه يدفع بعض القوى الكرديّة ذات النزعة الانفصاليّة إلى أن تعيد حساباتها.

 

إنّنا في ضوء هذا الانسحاب، نعيد مجدَّداً تنبيه القوى المحليَّة في المنطقة إلى عدم الرهان على أيّ قوّة خارجيَّة للاستقواء بها في مواجهة خصومها، لأنَّ مثل هذه القوى، سرعان ما ستجد نفسها أداةً للخارج في صراعاته، والتي بالإمكان الاستغناء عنها أو التضحية بها في أيِّ لحظة تقتضيها مصالحه. إنَّ خيار التفاهم مع الخصوم الداخليّين هو الخيار المناسب والمفيد، وخصوصاً حين يلبي المطالب المشروعة والواقعية لها.

 

تهنئة عيد الميلاد

وأخيراً، إننا بمناسبة ميلاد السيد المسيح(ع)، نتوجَّه إلى اللّبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، بالتهنئة بهذه المناسبة التي نأمل أن تطلّ على مساحة من السلام والأمن والاستقرار في البلد، وعلى المزيد من التضامن واللّحمة والتوحّد، ثم المحبّة والرّحمة والسّلام.

 

Leave A Reply