قارون: نموذج الفساد الماليّ في المجتمع

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

إن القرآن الكريم عندما يعرض لنا قصة من قصص السابقين، فإنما يريد لنا أن نتدبرها وأن نقرأها بعين الناقد والباحث. فالحياة بتاريخها وحاضرها هي مدرسة والعاقل هو من يتعلّم ويتعظ ويعتبر ولهذا الهدف كان ورود القصص في القرآن الكريم {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي أن في قصص الأولين عبراً لذوي العقول الذين يتفكرون ويتدبرون فيها والتدبر عندما يحصل فإنه يُساهم في انتاج معرفة لها دورها في بناء الشخصية الإيمانية.

 

والقصة التي نطل عليها اليوم هي قصة قارون، لنتعرف الى شخصية صارت مضرب مثل، فما إن يُسمع باسمها حتى يتبادر الى الذهن المال، الثراء الفاحش، الكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، والغرور والتكبّر، والعقاب وخسف الأرض به وبداره وهذه الشخصية هي شخصية قارون.

فمن هو قارون هذا وما هي علاقته بقوم موسى وبني اسرائيل وبفرعون.

يحدثنا القران الكريم في سورة القصص عن جبهتين تواجهتا في عصر قارون، واشتعل الصراع بينهما، جبهة الحق التي تمثلت أنذاك بالنبي موسى(ع) والذين آمنوا برسالته وجبهة الباطل التي تمثلت بفرعون وجنده والدائرين في فلكه.

ونحن نستطيع أن نلتمس العبر والدروس في قصة قارون، ما ان نحدد موقف هذا الرجل في أية جبهة هو وفي أي محور كان.

 

تقدم لنا سورتا غافر والعنكبوت الجواب، ففي سورة غافر يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وفي سورة العنكبوت {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}

وهنا يبرز لنا بوضوح موقع قارون فهو لم يكن مجرد خادم عند فرعون او أحد الذين استضعفهم وسخرهم للعمل كما كان يفعل مع بني اسرائيل بل هو أحد دعائم وأركان حكمه، أو على الأقل هو ذراع من الأذرع التي كان فرعون يبطش بها وينفذ سياسته الظالمة.

لقد اعتمد فرعون على ثلاث قوى أمّنت له حضوره: هامان الذي كان له العصا الغليظة وقارون الذي كانت بيده قوة المال، وبلعم بن باعوراء الذي كان يملك السلطة الدينية والذي كان يبرر لفرعون جرائمه وظلمه وطغيانه.

 

والمفارقة أن قارون كان في الأساس في المقلب الأخر كما في قوله تعالى {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} كان قارون من هؤلاء القوم من بني اسرائيل الذين بلغ الظلم بفرعون أن يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويذلّ رجالهم ويستعبدهم، هؤلاء كانوا قوم قارون وأهله وعشيرته، ولكن قارون انتهى به المطاف إلى أن انضم لفرعون و تنكر في ذلك لديانته وقومه حتى صار يصف النبي موسى بالساحر الكذاب، وصار عين فرعون ويده التي يبطش بها ولعله كان أقسى على قومه وأهله من فرعون نفسه (وهذا حال الذين يبيعون أهلهم ليعلّق لهم العدو والظالم نيشان وهذا ما خبرنا جزءا منه إبان احتلال الجنوب وكنا نرى كيف كان يفعل العملاء بأهل بلدهم وأرضهم، ولكن هيهات أن يدوم هذا وها هم اليوم يعيشون أذلاء يشحذون لقمة العيش عند العدو الغاشم الذي لطالما كرمى له ولعينيه تفننوا في إبكاء عيون الأمهات والآباء، فهذه هي حال من يخرج عن اهله ويخون شعبه).

 

ولكن ما هو الثمن الذي غير قارون وأوصله إلى ما وصل إليه؟ وهنا نأتي إلى الدرس الثاني من دروس هذه القصة.

إنه المال… فقد وضعه فرعون في منصب يتيح له الحصول على ما يشبع نهمه. وكان ذكيا وقادراً فتمكن في منصبه (وتاجر وباع واشترى كما يقال) والاهم أنه تاجر وباع قومه بالمال، وسقط امام امتحان المال، وأدار ظهره لكل تاريخه. وصار أنموذجاً لكل الذين سقطوا ويسقطون تحت وطأة اغراءات المال.  (ومع الأسف هناك من يسقطون امام القليل من المال، لا مال قارون الذي كان يعجز عن حمل مفاتيح خزائنه الرجال الأشداء.)

 

 ومن هنا. فالحذر الحذر من سطوة المال واغراءاته وفتنته، نقولها حتى للمؤمنين الذي قد تطمئنهم أعمالهم او كونهم في مجتمع مؤمن او في جو إيماني. فلا يكفي ان اكون ضمن المجتمع الإيماني حتى أكون محصناً، فالجماعة المؤمنة لا تكفي وحدها لتحصين الفرد ان لم يسع هو الى تحصين نفسه وتربيتها وتزكيتها، حتى لا تقع في حبائل الشيطان، فالمال من أبرز الأبواب التي ينفذ منها … فقد ورد في الحديث «إنّ الشيطان يدبّر ابن آدم في كلّ شيءٍ، فإذا أعياه جثم له عند المال، فأخذ برقبته».

 

وإن المال أيها الاحبة يجر معه فلسفة تبرر المعاصي، وهذا أيضا درس آخر من دروس قصة قارون، فعندما بدأ قارون بالانحراف جاء إليه من يذكره بالله الذي يؤمن به (إله موسى) لكن الغرور الذي بلغه قارون جعله يصم اذنيه عن كل ذلك وتمترس وراء عناده وانحرافه واعتبر نفسه أنه هو من صنع نجاحه وثروته ويقول كما أشار القرآن الكريم: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}… فما دخل الله بكل ما عندي من ثروة، أنا حصلت عليه بخبرتي وبشطارتي… ونسي أن كل الامر يعود الى الله وكل شاردة وواردة هي بإرادته وأن الرزق والمال منه تعالى{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}. 

 

هذا الدرس نستحضره في حياتنا حيث يدأب الانسان لتحصيل الثروة والاثراء، ويسعى ويتمنى ويدعو الله ولكن ما إن يصل ويحصل على ما يريد حتى يتملكه الشعور أن ما وصل إليه هو نتيجة جهده وتعبه واستحقاقه ويتعمق لديه هذا الشعور أكثر فأكثر لينسى كلياً أن الله هو المنعم عليه بالصحة والعقل والتدبير وتهيئة الاسباب التي أوصلته إلى ما هو عليه، وينطلق من خلال كل هذا الغرور ليمنن الفقراء والمساكين وينسى فضل الله ويتعامل مع كل من هم دونه في الثروة بفوقية وتكبر.

وقارون لم يقف عند هذا الغرور الذي جعله ينكر لله ربه وخالقه، بل بلغ به الشعور بالعظمة الى أن خرج بموكب حشد فيه كل مراكبه وخيوله وخدمه في استعراض للقوة أمام الناس البسطاء، ليريهم ما عنده وليستميل قلوبهم. لقد أراد قارون من خلال استعراضاته أن يبلبل النفوس ويخرب ما بناه النبي موسى(ع) الذي كان يدعو الناس الى عدم الانخداع بالمظاهر والنفاذ الى الجوهر وأن يروا عمق الصورة لا شكلها.

وهذا الأسلوب هو أسلوب كل الطغاة الذين يسعون إلى السيطرة على عقول وإرادات الناس، والدعاية بأشكالها المختلفة كانت ولا تزال السلاح الأقوى للهيمنة على العقول، وإلهاء الناس وسحر أعينهم وقلوبهم بالمظاهر البراقة والكلام المعسول والمظاهر الخداعة، ومما لا شك فيه ان لا عصر يخلو من نماذج قارونية مشابهة، نجدها تتسلل الى الاقتصاد والثقافة والاعلام والسياسة والدين. إن المخادعين عادة يخاطبون البصر، او يضربون على الوتر الحساس او نقاط الضعف في النفوس، وفي قصة قارون يتجلى ذلك عندما برزت فئة تأثرت بكل هذه المظاهر والبهرجة فنظرت الى الثراء بأفواه فاغرة يسيل منها اللعاب وعيون زائغة لبريق الزينة وآذان تهفو لصوت رنين الذهب والفضة:{… قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}

 

 ولكن مقابل هذه الفئة، برزت فئة أخرى لم تنخدع بكل هذه المظاهر البراقة والاستعراضات الشكلية، فئة العلماء الذين يشكلون صمام الأمان في المجتمع حين يظهرون علمهم فقالوا للذين غرّهم ما عند قارون وخدعوا بما يملك من ثروة {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}

بعد كل هذا المشهد، مشهد التكبر والغرور كانت مشيئة الله الحاسمة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} ولم تنفع حينها استغاثاته ولا استغاثات الذين كانوا معه {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} ولتبقى حقيقة ينبغي أن لا تنسى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أما الذين خدعوا بقارون وزينته وتمنوا لو حصلوا على ما حصل عليه، فقد ندموا على سذاجتهم وضيق افقهم وقصر بصرهم حين أخرجوا من حساباتهم الله {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}

 

أيها الأحبة، من وحي ندم هؤلاء المنخدعين لما رأوا الخسف، علينا ألا ننتظر أحداثا في حجم الخسف حتى نراجع حساباتنا وولاءاتنا وأهدافنا في الحياة، بل أن نراجع وعلى الدوام مواقفنا لنتبين إن كنا في صف المستكبرين بالسلطة والمال والإعلام أم نحن في صف المدافعين عن الحق، وفي جبهة الحق والمناضلين المقاومين.

هذه بعض عبر قصة قارون وهناك الكثير من العبر مما قد نعود إليها في لقاءات أخرى والحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية 

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، وبما أوصانا الله به عندما قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا* الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا* وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا* وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا* وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

 

أيّها الأحبَّة، بيّن الله من خلال هذه الآيات حقيقة الحياة وما يجري بعدها، حين يقف الناس جميعاً بين يدي ربهم، ليواجهوا الحقيقة الَّتي غفلوا عنها، وليجدوا ما عملوه حاضراً ومسجّلاً ومكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.

ويبقى السؤال: تُرى أيّ كتاب كتبناه ونكتبه؟! والكتابة ليست بالحبر، بل بالأقوال والأفعال، ومتى وعينا الجواب، سنحسن الاختيار، وسنستطيع أن نواجه مسؤولية الحياة.

 

انتهى الأسبوع الفائت على عدّة نقاط سنشير إليها:

النقطة الأولى هي الحوار الجاري بين حزب الله وتيار المستقبل، حيث أظهرت الأيام السّابقة صلابته، ورغبة قيادات الطّرفين في متابعته واستمراره، رغم التّباينات التي عبّرت عنها هذه القيادات في العديد من القضايا.

إننا نثمِّن عالياً هذا الحرص على الحوار، نظراً إلى دوره في تجنيب لبنان تداعيات ما يجري من حوله، والَّذي يحمل أبعاداً مذهبيّة وطائفيّة وقوميّة، ويعدّ صراع محاور إقليميّة ودوليّة، رغم بقاء هذا الحوار عند حدود معيّنة لا يتجاوزها، كما رُسِم له، ونعيد الدَّعوة إلى تعزيزه، بضبط الخطاب، حيث نجد، وتحت عنوان شدّ عصب الجمهور، أنَّ الأسقف تُرفع، وأنّ الحساسيات والغرائز والعصبيات التي تنتج التشنّج، تُثار.. وهناك في الداخل والخارج من هو جاهز لإشعال فتيل الفتنة مجدداً.

إننا أحوج ما نكون إلى مَن يُعقلِن الجمهور ويستميله بخطابه المقنع والهادئ، لا الموتِّر، لأنَّنا إذا عوَّدنا جمهورنا على التوتر، فلن يستجيب لنا عندما نريده هادئاً، بل سيذهب إلى آخرين يستفيدون من تشنّجه وتوتّره. كما أنَّنا بحاجة في هذا البلد إلى العقلانيين، وإلى من يصغي إلى هواجس الآخر أو ما يطرحه، وأن لا نتسرَّع في اتهام الآخر، ولا يكون همنا تسجيل النقاط ضد بعضنا البعض.

وعلى مستوى الحوار، فإننا نريد له أن يتوسّع ليشمل مواقع أخرى في هذا البلد، ونريد حواراً يساهم في حلّ الملفات العالقة، بدءاً من موقع رئاسة الجمهوريَّة، وتحريك عجلة المؤسَّسات الدستورية، إلى مجلس النواب ومجلس الوزراء، وملء الشّغور في المواقع الأمنيّة، فلا يمكن أن نواجه التحديات التي تحيط بنا، سواء على حدودنا الجنوبيّة أو الشرقيّة، بالترهّل، بل بتضافر الجهود والتعاون.

 

أمّا النّقطة الثّانية الَّتي نحبّ أن نشير إليها، فهي الدّعوة التي أُطلقت إلى إنشاء استراتيجيّة وطنية لمواجهة الإرهاب. ونحن هنا، نضمّ صوتنا إلى كلّ الأصوات الداعمة لها، في ظل الخطر الداهم الذي يتهدّد لبنان، سواء في الداخل أو على حدوده الشرقيَّة في هذه المرحلة، حيث تستمر الاعتداءات على الجيش اللبناني، وتجري الاستعدادات لتصعيدها مع بداية الربيع، ما يجعلنا نخشى تطور الأمور إلى ما هو أبعد من ذلك.

 

إنَّ التوافق حول هذه الاستراتيجيَّة ضرورة وطنيَّة، فلا يمكن أن يواجه هذا الإرهاب بتلاوينه المختلفة، بفريق واحد، أو بمذهب واحد، أو بطائفة واحدة، بل المطلوب تضافر جهود كلّ الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة، والمجتمع الأهلي، وتكاتفهم مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللذين يبقى لهما الدور الأساس في هذه المواجهة.

ونحن في الوقت الذي نثمّن جهود هذه القوى، نرى أنَّ المطلوب هو الإسراع في إقرار هذه الاستراتيجية، والمبادرة إلى تنفيذها، حتى لا تضيع في ظلّ التجاذبات والصّراعات والحساسيّات، بعدما بات واضحاً أنَّ الحلول في المنطقة بعيدة المنال، وأن التخلّص من الإرهاب يحتاج إلى سنوات وسنوات.

 

أمّا النقطة الثالثة، فهي تتعلَّق بالآثار السّلبيّة الّتي يتركها المناخ البارد في المواطنين، ولا سيما في المناطق الداخليّة، حيث تزداد الحاجة إلى المازوت، والَّتي تُضاف إلى الأزمة المعيشية الخانقة التي يعيشها إنسان هذا البلد، ما يستدعي تدخّل الدَّولة لتأمين المازوت الّذي يسعى البعض إلى احتكاره، أو تهريبه خارج الحدود، مع دعوتنا إلى تعزيز التكافل الاجتماعي بين الناس، لأنَّ المؤسَّسات الاجتماعيَّة تنوء بحمل هذا العبء، إضافة إلى مدّ الميسورين يد العون إلى الفقراء. وهنا، لا بدّ من أن نلفت إلى معاناة النازحين السّوريين، الَّذي يعانون أكثر من غيرهم في هذه الظّروف المناخيّة الصَّعبة.

 

والنقطة الرابعة، تتعلَّق بالإرهاب التكفيريّ الَّذي بات يتهدّد أمن المنطقة العربيّة والإسلاميّة واستقرارها، وهذا ما يحصل في لبنان وسوريا والعراق وليبيا ومصر، والَّذي كان آخر جرائمه قتل عمال مستضعفين، جاؤوا إلى ليبيا لتحصيل لقمة عيش كريم، ولا ذنب لهم سوى كونهم مصريين، ومن دين معيَّن.. وفي الوقت الَّذي ندين هذه الجريمة بوحشيتها ودمويتها، فإننا نعتبر أنّها بعيدة كلّ البعد عن أيّ منطق دينيّ أو إنسانّي، ولا نراها إلا تشويهاً لصورة الإسلام، وزيادةً في الانقسام الطّائفيّ والمذهبيّ، واستدراجاً جديداً للتدخّل الأجنبي، ولا تخدم سوى الكيان الصّهيوني.

 

ومن هنا، فإننا نعيد الدَّعوة إلى استراتيجيَّة عربيَّة وإسلاميَّة لمواجهة هذه الظاهرة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بعد أن بات واضحاً أنَّ التَّحالف الدّوليّ ليس جاداً في إنهاء هذا التحدّي، أو ليس مستعجلاً في ذلك، ما دام يستنزف المنطقة، أو فاقداً للمصداقية فيما يتصل بالتمييز بين إرهابٍ وآخر، وهذا يحتاج منا إلى السّعي لإزالة التشنّجات والصراعات التي تشغل كلّ قوانا عن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، سواء منها الصراعات ذات الطابع المذهبي أو الطائفي أو القومي، أو بين الدّول العربيَّة والإسلاميَّة، لما تؤمّنه هذه الخلافات من أجواء حاضنة للفئات التكفيرية، أو فرصة لتعزيز دور القوى الأجنبيَّة.

فمزيداً من العمل وبذل الجهود لتوحيد الصّفوف وإزالة أسباب التوتر والانقسام، لمواجهة هذه الظاهرة التي بات خطرها لا يتوقّف على الحجر والبشر، بل على القيم والمبادئ الإنسانية، وعلى معاني المحبة والرحمة التي هي عنوان كل الأديان.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله.

التاريخ : 1 جمادي الأولى 1436هـ الموافق : 20 شباط 2015م

 

 

Leave A Reply