قبل أن يغادرنا شهر الله
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
اللّهُمّ وهذه أيام شهر رمضان قد انقضت، ولياليه قد تصرَّمَت، وقد صِرْتُ يا إلهي منْهُ إلى ما أنتَ أعْلمُ به منِّي، وأحْصى لعدَدهِ من الخلْقِ أجمعين، فأسألُكَ بما سألَكَ به ملائِكتُك المقرَّبون، وأنبياؤك المرْسلون، وعبادُكَ الصّالحونَ.. إنْ كُنتَ رضيتَ عنّي في هذا الشّهر، فازْدَد عنِّي رضًى، وإنْ لم تكُن رضيتَ عنِّي، فمنَ الآن فارضَ عنّي يا أرحمَ الراحمين..
"عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَاَلْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَاَلنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، أَمَّا اَللَّيْل، فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ، رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا اَلنَّهَار، فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ..".
أيها الأحبة، ونحن نودّع شهراً أراده الله أن يكون شهراً للتقوى، عندما قال: {يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، لا بدّ من أن نسارع إلى العمل حتى نكون من هؤلاء المتقين، فبذلك نضمن قبول صيامنا وقيامنا وكلّ ما قمنا به، وبذلك نواجه التّحدّيات…
لبنان
والبداية من لبنان، حيث عاد الهاجس الأمنيّ إلى الواجهة، بعد ما حصل في القاع، ليشير إلى حجم الخطر الذي بات يحدق بالسّاحة اللبنانيّة، والّذي لم يعد مقتصراً على طائفةٍ أو مذهبٍ أو موقعٍ سياسيٍّ أو منطقةٍ محدّدة.. بل أصبح يمتدّ إلى كل الأماكن التي تغفل العيون الأمنيّة والشعبيّة عنها، وتكون الأرض رخوةً فيها.
ونحن في الوقت الّذي نعبّر عن اعتزازنا بصمود أهل هذه البلدة الطيّبة من بلدات البقاع الصّامد، وتجذّرهم في أرضهم، واستعدادهم لتقديم التضحيات، أسوة بالمناطق الأخرى الممتدّة على الحدود الشّرقيّة، وأيضاً بالتّضامن الّذي حصل بين اللبنانيين في مواجهة ما حصل، ما فوّت الفرصة على الّذين كانوا يريدون زرع فتنة طائفيّة داخل السّاحة اللبنانيّة وبين اللبنانيّين والسّوريّين… فإنّنا نقدّر الدّور الكبير الّذي تقوم به القوى الأمنيّة في مواجهة الإرهاب، وفي السّهر على أمن اللبنانيّين واستقرار بلدهم…
وندعو في مواجهة ما حصل وما قد يحصل، إلى حالة طوارئ أمنيّة وسياسيّة تساهم في تعزيز الواقع الأمنيّ في هذه المنطقة، لمنع تسلّل الإرهابيّين، وعدم توفير حواضن لهم، وتحصينها من كلّ ما قد يعرّضها لمخاطر لاحقة..
ولا بدَّ لنا من الدّعوة إلى تنظيم وجود اللاجئين السّوريين، حفظاً لهم، وحتى لا يستغلّ وجودهم لحساب الإرهابيين، ولا يقعوا فريسة لهم.. وهنا، ننبّه إلى خطورة الأصوات الّتي دعت إلى التعامل مع هؤلاء بصورة المتّهمين، لما في ذلك من تداعيات خطيرة على التّماسك الداخليّ، ولما يسبّبه من شعور بالظلم أو القهر، قد يكون باباً من الأبواب الّتي يستفيد منها الإرهاب.
إنّنا نأمل أن يساهم ما حصل في تحريك عجلة المؤسَّسات وتفعيلها، والخروج من حالة التعطيل الّتي تعانيها، وتجاوز الخلافات، لتدعيم وحدة الساحة الداخلية، فلا يوجد الآن وقت للمماحكات والسّجالات، وتسجيل النقاط، أو الاستغراق في الحسابات الطائفيّة والمذهبيّة والسّياسيّة.
وفي هذا الوقت، لا ينبغي أن يعيش اللبنانيون حالة من الذعر والشّلل باتت تجثم على واقعهم، كما لا ينبغي أن نستسلم للشّائعات الّتي تتحدَّث عن تفجيرات هنا وهناك، فهذا ما يهدف إليه هؤلاء، بل ينبغي أن نكون حذرين يقظين متعاونين مع القوى الأمنيّة والدّاعمين لها.
التفجيرات الإرهابية في تركيا
ونصل إلى ما جرى في تركيا من اعتداء إرهابيّ أصاب المدنيين، ونحن إذ ندين ونستنكر ما حصل، فإنّنا نأمل أن يكون ذلك حافزاً للجميع على العمل لإغلاق ملفّ الحروب، والتصدي للفتن الّتي تجري في أكثر من بلد، والتي باتت تتجاوز بتداعياتها حدودها، لتضرب كلّ مكان تملك القدرة للوصول إليه، فالإرهاب يتغذّى من تلك الفتن ويقوى بها.
وهنا نأمل أن تساهم أجواء التّقارب بين القوى المؤثرة في الصراع الدائر، في تسهيل فرص الحلول والإسراع فيها، رغم أننا لا نجد ذلك قريباً.
فلسطين
وإلى فلسطين، حيث نجدّد عهدنا في يوم القدس العالمي الَّذي يأتي في آخر جمعة من شهر رمضان، بالالتزام بهذه القضيّة الأساس، وإبقائها حاضرة في الوجدان بكلّ أبعادها الدينيّة والقوميّة والسياسيّة، فلا تضيع في خضم التّسويات واللامبالاة والإحباط، أو تتحوّل إلى قضيّة تخصّ الشّعب الفلسطينيّ وحده..
وهنا سيسأل الكثيرون: ماذا نستطيع أن نفعل للقدس؟ فما لدينا يكفينا! إننا نستطيع أن نصنع الكثير لهذه القضيّة، في ظلّ كلّ هذا الواقع المتداعي، وفي الحدّ الأدنى، نستطيع أن نعمل على أن تبقى حاضرة في وجداننا، وأن نربّي الأجيال عليها.. أن نقف مع كلّ الّذين يخطون بنا نحو القدس من خلال مواجهتهم للمشروع الصّهيونيّ، وأن نقف مع الشّعب الفلسطينيّ، ونؤمّن له كلّ سبل الصّمود والمساعدة، ونبرّد الجبهات الدّاخليّة لحساب هذه القضيّة، وأن لا نغيّر البوصلة عنها.
إنّنا في مرحلة يراد فيها أن نتطبّع على أنَّ حدودنا هي حدود الطّائفة التي ننتمي إليها أو المذهب الذي ننتمي إليه، وأبعد من ذلك حدود الوطن، ولذلك صار مستهجناً الحديث عن القدس وفلسطين أو أي قضية تهمّ العالم العربيّ والإسلاميّ أو تهمّ العالم.
عيد الفطر
وأخيراً، وبناء على المبنى الفقهيّ لسماحة السيّد(رض)، والّذي يعتمد على الأخذ بالحسابات الفلكيّة في تحديد بدايات الشّهور القمريّة، سيكون يوم الثلاثاء الخامس من شهر تموز، هو أوَّل أيام عيد الفطر، حيث أكّد علماء الفلك أنّ الهلال يولد نهار يوم الإثنين، حيث يُرى مساءً في عدد من مناطق أميركا الجنوبية التي نشترك معها بجزء من الليل، وإذا كان بعض الفلكيين يتحدثون أنه لا يُرى، فهم يقصدون غير هذه البلدان.
ونحن هنا، نتمنّى أن يكون العيد عيداً يتوحَّد فيه المسلمون، وتتوافق كلُّ المرجعيات الدينيّة على أساسٍ فقهيّ يوحِّد بدايات الشّهور القمريّة ونهاياتها، لما لذلك من تأثير إيجابي في علاقات المسلمين ببعضهم البعض، وإظهار لصورتهم الموحَّدة أمام العالم.. ولكنَّ هذا الأمر قد لا نتمكَّن من تحقيقه في هذه المرحلة، نظراً إلى التنوّع في الرأي الفقهيّ والاجتهاديّ..
ودائماً، نقول لكلّ الذي يختلفون في أوّل أيام العيد، إن اختلفتم في أوّل يوم من الشهر، فأكّدوا وحدتكم ولمّوا شملكم في اليوم الثاني، ولنسع جميعاً إلى تجاوز هذا الأمر، ليظلّ للعيد بهجته وفرحته.. سائلين المولى أن يتقبّل أعمالنا، وأن يعيده علينا وعلى أمّتنا بالخير والعافية.