قصّة موسى(ع) والعبد الصالح : فوائد وعبر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله تعالى: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

نتوقف اليوم امام احدى القصص الغريبة في أحداثها ومجرياتها، ذكرها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف . هي قصة النبي موسى(ع) مع  من أشار اليه الله تعالى: " عبدا من عبادنا "  :{فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} (وعدم التسمية هو اسلوب القرآن في العديد من القصص وتفيد التركيز على الصفات والمضمون اكثر من كونها تأريخاً .. فالقرآن ليس كتاب تاريخ ، بل كتاب تربية لا يعير اهتماما للاسماء بقدر ما تهمه العبر ).

وقد أشارت  الروايات المتعددة الى أن العبد الصالح المقصود هو الخضر  (الذي تنتشر مقاماته في لبنان كثيرا والناس تؤدي نذوراتها اليه :الخضر الاخضر) وسمي بالخضر لانه كان حيث يحل خلال تنقلاته الكثيرة، تخضرّ الارض، وتنتشر البركة والخير وقد يكون  هذا فعليا او رمزيا .

المهم ان هذا العبد الصالح أتاه الله امتيازا خاصا إذ يقول القرآن الكريم: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } كما وخصه الله بالعلم الوفير {..وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} وجعله مقصداً لطالبي العلم ( و هذه الخلطة من الرحمة و العلم هي التي أجرت على يدي الخضر كل الخير الذي اتصف به وتفسر الموقع الذي وصل اليه).

  بدأت احداث هذه القصة عندما توجه موسى(ع) الى هذا العبد الصالح حيث أخبره الله ان عنده علما خاصاً ، وعليه ان يقصده ليتعلم منه. {وانطلقا} (  النبي موسى يرافقه مساعده ووصيه يوشع)   ومعه بعض الاشارات والعلامات

 وحثا السير وجرت معهما أحداث (يمكنكم العودة لتفاصيلها والتمعن فيها) ، الى ان التقيا؛ النبي موسى والعبد الصالح. فسأله النبي موسى  مستئذنا بكل تواضع:

، { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا…}  تصوروا، نبي من انبياء اولي العزم، كليم الله، وقاهر فرعون وجنده وسحرته، يجلس في موقع التلميذ  التابع المنضبط الذي يسأل ويستأذن… ( وفي هذه وحدها عبرة )

 المهم، رحب العبد الصالح بالنبي موسى(ع) (عرفه او لم عرفه وهذه تفاصيل ايضا يقفز فوقها القرآن الكريم) وكان العبد الصالح واضحاً وصريحاً عندما قال لموسى ومنذ البداية بشكل واثق : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}  فوعده النبي موسى بالصبر ولكن العبد الصالح  اشترط عليه:{.. فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }

 وهذا الاسلوب من العبد الصالح فيه رحمة  للنبي موسى،  لان أبعاد المعرفة التي لديه تختلف عما هي عند النبي موسى،  بالرغم من كونهما نبيين. فمعرفة الخضر تستند الى بعد  علمي الهي محض، فيما علم النبي موسى ينطلق من  بعد آخر من موقعه التشريعي، اذا، قال له العبد الصالح  ان رافقتني عليك ان تصبر لأن بعض الامور لن تفهمها وأضاف مبررا: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} وكان رد النبي موسى { … سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}

   ورغم وعد النبي موسى، فإنه لم يستطع الصبر على ما قام به العبد الصالح من أمور لا يقبل بها عاقل فكيف اذا كان نبياً، ودوره ان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.  فها هو يرى  العبد الصالح الذي يفترض ان يتعلم منه ، يُحدث حفرة في قعر السفينة التي ركبا فيها معا، ويحدث فيها عيبا او خرقا من دون ان يراه أحد. يسأله النبي موسى _كردة فعل طبيعية_  سؤالا استنكاريا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا }  هنا يذكره العبد الصالح : {….أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فيعتذر النبي موسى ويتذكر وعده: {..لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} .

ويمضي النبي موسى في تجربة التعلم، وبعد فترة  وأمام ناظريه يقوم الخضر بعمل اكثر فظاعة: يقتل غلاما لقياه وسط الطريق..  هنا ينطلق لسان النبي موسى بالاستنكار وهو في قمة غضبه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا }،( الاحظتم منطق التشريع الذي ينطلق منه النبي موسى) ويكرر العبد الصالح {….أَلَمْ أَقُلْ لك إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فيعتذر النبي موسى ويتذكر وعده ويتعهد بوعد جديد :{ .. إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا } .

 

ونأتي للحادثة الثالثة وهي نقطة الفراق بين المعلم والتلميذ: فعندما  وصلا الى قرية  كانا جائعين، فطلبا الطعام من اهلها ولكنهم  أبوا ان يطعموهما وردوهما خائبين . وبينما هما فيها، وإذا بالخضر يلمح جدارا  يكاد ينهار فيبادر الى إصلاحه وتدعيمه من دون ان يطلب منه أحد ذلك ، وعلى الاقل وفق المنطق الطبيعي للامور كان بامكانه ان يطلب أجرا . فيسجل النبي موسى اعتراضه  الاستنكاري :{…. لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} عند هذا الحد يعلن له العبد الصالح  انتهاء العقد : { .. هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } .

………………..

و بدأ الخضر يكشف من علمه ورحمته المستمدة من علم ورحمة الله عز وجل   فتتوالى الدروس والعبر :

_ أما السفينة ،فأنا لم اخرقها لأغرق اهلها ( كما بان ظاهريا ) ولكن هذه السفينة كانت لمساكين يعيشون منها ،وثمة ملك ظالم كان يلاحق كل سفينة صالحة ليستولي عليها ويضمها الى اسطوله البحري ،فرفقاً بأولئك المساكين اردتُ ان اعيبها حتى اذا رآها الملك بهذه الصورة تركها لكونها غير صالحة..  الله تدخل وسخرني لاقوم بعمل غير عادي، رحمة بأولئك المساكين . هذا أول أمر.

_وأمّا الغلام الذي قتلته، فلم اقتله حباً بالقتل او ظلما وطغياناً ولكن، رأفة بأبويه المؤمنين فقد كان ولداً مشاكساً سيء الأخلاق، كافراً، لا يتوانى عن ايذائهما

والإساءة اليهما والضغط عليهما واجبارهما على ترك دينهما، فاشفق ربك عليهما فأمرني ان اقتله كي لا يرهقهما طغياناً وكفراً.

_ واما قصة الجدار الذي اصلحته بدون اجر، ورغم حاجتنا الى المال لشراء الطعام فقد كان هذا الجدار لغلامين يتيمين وتحته كنز، وكان ابوهما رجلاً صالحاً وهو قبل ان يموت اوصى لهما به، وكي لا يُكتشف هذا الكنز إذا تداعى الجدار، أمرني ربي ان أبنيه وأدعمه حتى يكبر اليتيمان و يبلغا اشدّهما ويستخرجا كنزهما…

هذا تأويل ما فعلته، فكل ما قمت به لم يكن  مزاجا او رغبة، ولا بحساب عقلي المحدود ولا بقدراتي المحدودة ، انما هو  من أمر ربي المنطلق من رحمته وهو أرحم الراحمين.

…………..

أرأيتم كيف تبدلت نحن نظرتنا الى الأمور بين البداية والنهاية !

فبعد توضيح العبد الصالح وتأويله : لم يعد خرق السفينة ظلماً لأصحابها بل خيرا. ولا قتل الغلام  صار جريمة بل مصلحة لأبويه. ولا تدعيم الجدار تفريطاً بحق بل حماية ايتام .

 لقد كنا نرى جزءا من صورةٍ غير مكتملة، ووجهة واحدة من المشهد، وظاهر الامور لا خلفياتها .

 ايها الاحبة :

إن  قصة الخضر ذاك العبد الصالح تعلمنا  ان ليس كل ما تراه العين يمكننا ان نطبق عليه منطقنا البشري المحدود . هي تقول لنا: ان اتركوا مجالا  لمنطق الله، المنطق الرحموي الرحماني  الشامل الذي يتجاوز حدودي  أنا و حدودك انت،.. الله يرحم كل الكون حتى الطيور والبهائم. قد يرى الله ان رحمة طير ضرورية فيسخر له من يطعمه، وحتى الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين مرات نراها نقمة علينا، فيما هي رحمة بالأرض، فان  في حدوثها رأفة وتخفيفا للارض من الضغوطات..  (حتى ان الله اعتبر أن من يموتون جراء هذه الكوارث لهم أجر الشهداء .. المهدوم عليهم والغرقى).

في قصة العبد الصالح نرى ما لا يُرى عادة، نرى نموذجا وعينة في كيف يحقق الله ما وعدنا به..  كيف يسخر الله بعض عباده لحساب البعض الآخر نيجة دعاء او صدقة او حسنة او أي عبادة.  إن تفاصيل هذه القصة تكشف لنا ما هو مستور خلف مسرح الحياة الواقعية، مسرح شغل الله .. نحن نشتغل ونسعى ونكد ،ولكن الله ايضا له شغله وتدبيره وسعيه ومكره وتخطيطه ونصره  ويفعل كل هذا من دون ان نشعر، وقصة الخضر هي نمودج صغير ..وهذا وعد الله { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ..}‏

 وقصة الخضر عيّنة، ﻠ كيف {يدافع الله عن الذين آمنوا} .. وقصة الخضر نموذج ﻠ كيف تتحقق استجابة الدعاء ، ولكيف يُدفع البلاء  قصة الخضر  تأكيد للتوكيل : كفى بالله وكيلا  وتأكيد للتفويض  وللتسليم والتسديد  وهذه كلها  هي  من أسس ايماننا ، لا يصح  من دونها ،  هي خير معبّر عن ثقتنا بالله  .. وان لا ثقة فوق الثقة به .

هذه الثقة التي تولد  لدينا اطمئنانا وأماناً وسلاما داخليا، نتغلّب به على صعوبات الحياة وعلى مشاقها، ونحن نسير في دروبها السهلة والوعرة  على السواء حيث نحتاج دائما  الى يد حنونة تمتد الينا ..

 ان اصعب ما يواجهه الانسان في هذه الحياة  ان يشعر بالوحدة ، يشعر بالغربة، يشعر بالظلم ويشعر بان لا سند له ..  يشعر بالخوف من المستقبل القادم، ومن تبدلات الحياة  والظروف والتغيرات  …ان من رحمة الله بنا انه فتح لنا الباب واسعا  لطلب العون والمدد و يكفي  ان نثق به، نصفي النوايا، نحسن العمل, ونتوجه اليه للتوفيق والتسديد بدعاء من اللسان والقلب, فيسخر لنا ما لا نراه او ندركه بحواسنا الضيقة .. نترك الامور لتدبيره ورحمته  يسدد، يلهم يقدم، يؤخر،  يفيض علينا من رحمته رحمة ومن علمه علما  فتفيض قلوبنا بالاطمئنان : {الا بذكر الله تطمئن القلوب}   تطمئن القلوب وتصفو وتمتلئ حكمة ومعرفة وأملا  … وما توفيقنا الا بالله عليه توكلنا  واليه ننيب.والحمدلله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي زادنا في الدنيا، وسبيل فلاحنا يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. ولبلوغ التقوى، علينا أن نستهدي بما قاله أمير المؤمنين(ع) للصحابي الجليل عمار بن ياسر، حيث تروي السيرة، أنَّ عمار بن ياسر كان جالساً مع أمير المؤمنين(ع)، فتأوّه. فقال له الإمام(ع): "عَلاَمَ تَتَأَوَّهُ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ، يَا عَمَّارُ، إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ: الطَّعَامِ، وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةٍ، المشْرُوْبَاتِ، وَأَفْضَلُهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ، المَلْبُوْسَاتِ، وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ، وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ، المَشْمُوْمَات، وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ"، (وعاء المسك في جوف الغزال).

أيها الأحبَّة، هذه هي وصيَّة عليّ(ع) للجميع، فلا تغرّنكم الدنيا بغرورها، ولا تخدعكم بهارجها وزخارفها، عندما تكون على حساب آخرتكم. وأهلاً بدنيا تكون في خط إقامة العدل، وفي خط العزة والحريَّة، في مواجهة عدوٍ متغطرس متكبّر.

والبداية من لبنان، فما إن بدأ هذا البلد يسير بخطوات ثابتة لتحقيق الاستقرار الأمني، حتى دخل في أتون الأزمات الاجتماعية والمعيشية، التي أدار لها المسؤولون الظهر طويلاً في الحكومات المتعاقبة، أو كانت تعالج بالمسكّنات والمهدّئات، والحلول الآنية، أو المساومات السياسية.

إنَّ مفاعيل هذه الأزمات، لن تقف عند الحدود التي وصلت إليها، بل ستمتدّ إلى كلّ الفئات، إن لم يسعَ الجميع إلى معالجتها جذرياً. ومن هنا، نثمّن أية خطوة يقوم بها المجلس النيابي أو الحكومة، من شأنها أن تساهم في تعزيز الوضع الاجتماعي للمواطنين، ورفع الغبن عنهم، ولا سيما هؤلاء الذين يقدّمون خدمات جليلة لوطنهم.

وعلى هذا الأساس، ثمّنا خطوة تثبيت متطوّعي الدفاع المدني والمياومين، وندعو إلى التعامل مع كل المطالب المطروحة، سواء من قِبَل هيئة التنسيق النقابية، أو أساتذة الجامعة، أو غيرهم، بروحٍ مسؤولة، بعيداً من الارتجال أو المزايدات، بل من خلال قراءات مدروسة، تُبنى على دراسات واقعية توازن بين المطالب المشروعة، ومتطلّبات الاستقرار النقدي، ونموّ الواقع الاقتصادي، وضمان استقرار المؤسسات، فمن حقّ كلّ مواطن أن يشعر بالأمان الاقتصادي والمعيشي في لقمة عيشه، وأن يطمئن إلى مستقبل أولاده.

إنّ مَن يتابع المناقشات التي تجري في المجلس النيابي، يلاحظ حجم المأزق الذي وصل إليه الواقع الاقتصادي، حيث الفرص محدودة، سواء لزيادة الضرائب، أو لتمويل الخزينة، في حال تمّ إقرار الزيادات الجديدة. ومن هنا، ندعو الدّولة بكلّ أجهزتها، وانطلاقاً من هذا المأزق، إلى إعلان حالة طوارئ اقتصادية تشارك فيها القطاعات الاقتصاديّة والنقابيّة والعمّاليّة، لدراسة سبل النهوض بالواقع الاقتصادي والإنمائي، وفي الوقت نفسه، العمل على معالجة أوجه الفساد الإداريّ والماليّ، وهدر المال العام بجدية، والاستفادة القصوى من الموارد المتاحة للدولة.

لقد تعب اللبنانيون من السياسات الاقتصادية الفاشلة الّتي اتُّبعت منذ عقود، ومن التهرّب من أية إصلاحات حقيقية، كما تعبوا من مسؤولين يفكّرون في مصالحهم أكثر مما يفكّرون في مصلحة الناس، فعسى أن يؤدي الحراك القائم إلى جعل المسؤولين يشعرون بأن هناك وطناً له حق عليهم، وأن هناك مواطنين توحّدوا على المعاناة، وأن من حقهم عليهم، أن يلتفتوا إليهم، ويفكّروا في مستقبلهم.

ونعود إلى الحديث عن الجانب الأمني، حيث ننظر بإيجابية إلى الخطوات الثابتة التي اتخذت في هذا المجال، من حيث الجدية في تنفيذها، وعدم التمييز في التعامل بين منطقة وأخرى، ورفع الغطاء عن أيّ مخلٍّ بالأمن، وندعو إلى الاستمرار بالروحية نفسها في المناطق الأخرى في البقاع، وبعدها في بقية المناطق اللبنانية. ونريد للجميع أن يتعاونوا مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية، وأن يقدموا التسهيلات لهم، ونحن على ثقة بأن أهلنا في البقاع، الذين كانوا خزاناً للجيش، كما هم خزان للمقاومة، والذين قدموا التضحيات لهذا الوطن، هم أحرص ما يكون على نجاح هذه الخطة الأمنية بكل جدية.

وفي إطار الحديث عن الخطة الأمنية ونجاحها، ندعو إلى أن تواكب بخطاب ديني وسياسي هادئ، بعيدٍ عن التوتر والشحن المذهبي والطائفي، نقول ذلك لمن هم في المواقع الدينية والسياسية، أو الذين يكتبون ويصرّحون في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي.

ولا بد لنا في حديثنا عن الأمن، من أن ندعو إلى عدم العودة إلى لغة الاقتتال، كما جرى في مخيم المية ومية، ونعيد التشديد على أهلنا في المخيمات، أن لا يكونوا وقوداً لسياسات تريد العبث بأمنهم وأمن محيطهم، وأن تبقى بندقيتهم مصوّبة في مواجهة العدو الصهيوني، ولا سيما في هذه المرحلة، حيث يستمر العدو في سياسته الاستيطانية، وتهويده للقدس وفلسطين، ويسعى إلى الضغط على الفلسطينيين بكل الوسائل، لجعلهم يوقّعون على صكّ استسلامهم، ومنعهم من ممارسة حقهم في الدفاع عن أنفسهم في المحافل الدولية أو الانضمام إليها. إن خيار الشعب الفلسطيني، يجب أن يكون المزيد من الوحدة، لمواجهة العدو الذي لا يريد المفاوضات إلا تقطيعاً للوقت، ولا يفهم إلا لغة القوة.

ويبقى أن ندعو الشعوب والدول العربية والإسلامية، التي تعاني جراء استنزاف طاقاتها ومواردها، وإثارة الفتن في داخلها، أو الحرب عليها، كما يحدث في سوريا والعراق والبحرين ومصر وليبيا وباكستان، إلى مزيد من الوعي والوحدة، وإلى تغليب لغة الحوار الموضوعي، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم.

وأخيراً، إننا في الذكرى السنوية الرابعة والثلاثين لاستشهاد المرجع الإسلامي الكبير، السيد محمد باقر الصدر؛ هذا المفكّر الذي ملأ الساحة الإسلامية فكراً وفقهاً وحركية وحيوية ووحدة، عندما نستذكر هذا الاسم، وخصوصاً في ظل معاناة الشعب العراقي، وفي أجواء الانقسامات وصناعة الفتن المتنقلة في أرض الرافدين، نستذكر كلماته ووصاياه، ومنها كلمته التي جاء فيها: "إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة، بذلت هذا الوجود من أجل المسلم الشيعي والمسلم السني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تهمّهم جميعا".

وهو لذلك، ركّز في آخر وصاياه لكل الطليعة الإسلامية، على أن يكون ولاؤها لله لا الدنيا، وقد كان يقول: "إنّ الولاء لله والولاء للدنيا، لا يجتمعان في قلب واحد، وإن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة"، وكان يدعو كلّ واحد منا إلى أن يفحص حقيقة إيمانه، فقد ندّعي أننا أكثر ورعاً من هارون الرشيد، فعجباً! هل عُرضت علينا دنيا هارون الرشيد ورفضناها؟ 

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 11جمادي الآخرة 1435هـ الموافق : 11نيسان 2014م

 

 

 

Leave A Reply