قصَّة النّبيّ داوود(ع) مع القضاء

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}. صدق الله العظيم.

هذه واحدة من القصص القرآنيّة التي تتعلَّق بنبيّ من أنبياء الله، وهو داوود(ع)، الذي آتاه الله الحكم والنبوَّة، فقد كان نبيّاً وصاحب كتاب سماويّ، وكان ملكاً يدير شؤون مملكته، وفي الوقت نفسه، كان قاضياً يحكم بين النّاس.

وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُور}، وقوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}.

 

قصّة المتخاصمين

القصَّة التي وردت في القرآن في سورة "ص"، تتحدَّث عن حادثة حصلت مع هذا النّبيّ، يوم قرَّر أن يخلو بنفسه، وأن يتفرَّغ للعبادة، وطلب لذلك من حرَّاسه أن لا يُدخلوا عليه أحداً، ولكن، وبينما هو مستغرق يتعبَّد في محرابه، تفاجأ برجُلين لا يعرفهما يدخلان عليه المحراب فجأةً، بعد أن غافلا الحرس وقفزا من فوق السّور العالي المحيط بالبيت الّذي كان يسكنه داوود(ع).. ففزع منهما كما أشار القرآن الكريم: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}.

وبعدما اتَّضح سبب حضورهما، وأنهما يريدان عرض خلافٍ حصل بينهما، أشار النبيّ داوود إليهما بعرض القضيَّة، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ وقال أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}، أي أنّ أخي الذي يملك تسعاً وتسعين نعجةً، يصرّ عليّ أن أتنازل له عن نعجتي الوحيدة ليضمّها إلى نعاجه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}، أي شدَّد الطلب حتى أحرجني، ولم أعد قادراً على ردِّ طلبه، وأنا جئت إليك لتعينني عليه وتنصفني.

 

الحكم المتسرّع

استثار هذا الكلام النبيَّ داوود(ع)، لذا سارع إلى التَّعاطف مع الشَّاكي، فيما أبدى انزعاجه وغضبه من الآخر، فهو بدل أن يكون عوناً لأخيه ويعطيه من نعاجه التسع والتّسعين، احتراماً لمشاعر الأخوَّة، يضغط عليه، ليأخذ منه نعجته الوحيدة التي لا يملك غيرها، أمر عجيب أن يحدث هذا! لذا التفت إلى الشّاكي، ونطق بالحكم: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِه}.

وأضاف: {وَإِنََّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}.

 

وبهذا الكلام، أراد النبيّ داوود(ع) أن يخفِّف عن الرّجل، فقال له إنّ هذا ليس بجديد، فالكثير من الخلطاء الأخوة والأصدقاء والشركاء والجيران، يبغي بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً، فلا يراعون في تصرفاتهم العدالة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، واعتبر هذا هو حال الأكثريّة من الناس، وطبعاً، استثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

إذاً، جاء الحكم حاسماً من النبيّ داوود(ع) لصالح الشّاكي صاحب النّعجة الواحدة وإدانة الآخر. انفضّ المجلس، ورغم هذا الحكم ووضوحه، لم يصدر عن الأخ الآخر أيّ تبرير أو تفسير للطّلب غير المنطقي بضمّ نعجة أخيه إلى نعاجه، على الأقلّ ليدافع به أخلاقيّاً عن نفسه، ليحفظ ماء وجهه أمام النبيّ الّذي وضعه في خانة الباغين.

 

النّدم والاستغفار

غادر الأخوان المكان، ويبدو أنهما اقتنعا بكلام داوود(ع)، فيما بدأ النبيّ داوود(ع) يراجع نفسه، وغرق في التفكير وهو يسترجع ما حصل، إلى أن أدرك أنّه تسرّع. كيف؟ انتبه إلى أنّه استمع إلى طرف دون آخر. يا لهذه السقطة!!!

أدرك بعدها النبيّ داوود(ع) أنّه لم يكن كافياً أن يعتمد على سكوت الآخر، على قاعدة أنّ السكوت علامة الرّضى، بل كان الأجدر به أن يستحثّه ليبدي رأيه، حتى ولو لم يكن ما سيقوله ليغيّر في مجريات الحكم.

المهمّ أنّ النبيّ داوود لام نفسه، وهنا أدركته طبيعته وندم.

 

وينقل القرآن الكريم: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}. ويُروى أنّ النّدم بلغ من داوود(ع) أنه قضى ما تجاوز الأربعين ليلةً في طلب الاستغفار على ما بدر منه.

 

والله سبحانه وتعالى قابل استغفاره بالقبول والتّوبة: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ}.

وهنا نذكر، استطراداً، أنَّ ما صدر عن داوود(ع) من حكم، وثمَّ من استغفار وتوبة، لا يناقض عصمة الأنبياء التي نعتقدها، ولكن ننظر إليه من زاوية أنَّ معيار الشعور بالذّنب عند الأنبياء مختلف، فالأنبياء يشعرون بالذَّنب عندما يتركون الأَوْلى والأفضل والأكمل، وليس شعوراً بالذَّنب على معصية ــ مما لم يسمح به الله لهم ــ فميزانهم يتميَّز بحساسيَّة ودقَّة في تقييمهم لما يتوجَّب عليهم تجاه ربِّهم. هذا دأب الأنبياء، مثل آدم ويونس وغيرهما، ممن حدَّثنا القرآن الكريم عن استغفارهم.

 

لذا، بمجرَّد أن التفت داوود(ع) إلى أنه قصَّر، ولو في المقدِّمات أو في الشكليَّات، كما يُقال، لم يحتمل، بل ندم واستغفر الله وسجد له كلّ تلك المدّة.

 

عبر ودروس

ونعود إلى القصّة وما نستلهمه منها من عبر ودروس.

وسنركّز على ثلاث من هذه العبر:

 

أوّلاً: تأكيد المنهج الذي توجَّه به الله سبحانه وتعالى إلى داوود(ع) ليكون منهجاً يُعتمَد في القضاء والحكم: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}، {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}. فالقاضي العادل ينبغي إذا حكم بين اثنين أو أكثر، أن يستمع إلى كلّ واحدٍ منهم، وأن يبقى على مسافة واحدة من الجميع، وأن لا يحابي أحداً حتى في توزيع النظرات واللّحظات ومنح الألقاب. وهذا ما ورد عن رسول الله(ص) في توجيهه لأحد القضاة، عندما قال له: "إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقضي للأوَّل حتى تسمع كلام الآخر". وعن عليّ(ع) أنّه أوصى شريح القاضي: "وواسِ بين المتخاصمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، وآس بينهم في اللَّحظة والنّظرة".

نحن اليوم، وكما نشاهد، أحوج ما نكون إلى استحضار هذا المنهج، لنعالج به واقع القضاء الذي باتت تتدخّل فيه المحسوبيّات والعلاقات والأهواء والمصالح والرّشاوى، وكم من هؤلاء ممن يقضون بين النّاس، يحتاجون أن يخرّوا ساجدين مستغفرين نادمين، ليس أربعين ليلةً فقط، بل كلّ الدّهر، اللّهمّ إلا من وعى منهم يوم الحساب وكان صاحب ضمير، ولا تخلو الأرض منهم.

 

وثانياً: استلهام المنهج الّذي توجَّه به الله سبحانه وتعالى إلى داوود(ع)، وتطبيقه لا في القضاء فقط، بل في حياتنا اليوميَّة وعلاقاتنا عندما نحكم، فنقول الحقّ ولا شيء غير الحقّ، حتى لو كان النّطق بالحقّ مكلفاً ومخسراً. فعند الحكم على الأشخاص أو الجهات أو الأفكار، لا نصدر أحكاماً بوحي انفعال أو عصبيَّة أو مصلحة أو محاباة، بل لا بدَّ من أن نتأنّى وندقِّق، ولا نتبع في ذلك الهوى… فالهوى ستار سميك يباعد بين النّاس والحقّ، وخصوصاً إن تلبَّس بلباس المنطق والصَّواب، فإنَّه يوصل إلى الضَّلال، ولذا كان جزاؤه عذاباً شديداً.

 

وأخيراً؛ تعكس لنا قصّة الأخوين وخصامهما واقع الخلافات المستشرية، للأسف، بين الإخوة والأخوات في مجتمعنا، والتي باتت تؤدِّي إلى تباعدٍ مخيفٍ وقطيعة، يتحوَّلون معها إلى أعداء، والسّبب في أغلب الأحوال، هو الإرث أو التجارة أو المشاكل العائليّة بين الأولاد أو الزوجات أو الأزواج. أليس هذا واقعنا اليوميّ في مجتمعنا الذي نفترض أن يكون أكثر تماسكاً، وأكثر ألفةً وتواصلاً وإحقاقاً للحقّ وعدالته؟! أليس المجتمع الإيماني هو طريق لتحقيق العدالة ومنع التعدّي والبغي الموجود بين أفراده؟! {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.

 

نحن واقعيّون، ولا ننكر الخلافات في الرأي والرغبات والإرادات، التي قد تحدث بين الإخوة والأخوات، ولكن كلّ المشكلة هي في التَّمادي وعدم الإسراع في علاجها، بحيث تتفاقم وتتعقَّد معها الحلول، كما في مشاكل الإرث التي غالباً ما تحصل بسبب النِّكايات أو التعصّب أو الجشع أو الإهمال، وتنتقل المشكلة إلى الأولاد، وتورَّث للأحفاد، ويتعذَّر معها الحلّ… أليس هذا هو واقعنا؟! للأسف.

 

نحن نعتبر أنَّ اللّجوء إلى الحكم الشّرعي ضروريّ لحلّ المشاكل إن وجدت، ومن دون تأخير. وحذار من تركها وإهمالها.

ولكن الأهمّ هو الوقاية والتحصّن منها، باستحضار الإيمان وسلوك التَّقوى، وهو القائل: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.

إنَّ العلاقات الأخويَّة لا تقدَّر بثمن ولا بمال ولا بإرث، مهما كان كبيراً، المال يزول والأخوَّة تبقى، ووصيّة رسول الله هي البوصلة، وبها تستقيم كلّ الأمور: "أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها".

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بخير الزاد، وبما رغَّبنا به الله، عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.

 

وقد بيَّن أمير المؤمنين(ع) الصورة التي يكون عليها المتقون في اللّيل والنهار، عندما قال: "أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ، رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ. وَأَمَّا اَلنَّهَارَ، فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ اَلْخَوْفُ بَرْيَ اَلْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ اَلنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ اَلْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ اَلْكَثِيرَ".

 

هذه هي الصّورة التي كان أمير المؤمنين(ع) يراها في المتّقين، وهو يريدها أن تطبع مجتمعنا، ليكون، كما أراده الله، قويّاً وقادراً على مواجهة التحدّيات، فمن أراد أن يكون أعزّ الناس، فعليه أن يتّقي الله، {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.

 

ماذا بعد انتهاء القمَّة؟!

والبداية من لبنان، الذي انتهت فيه القمّة العربيّة الاقتصادية والاجتماعية وما رافقها من جدل، ونحن في الوقت الذي كنا نرى أنّ هذه القمّة كغيرها من القمم، غالباً ما لا تنتهي بالنّتائج المرجوّة منها، ولا تلامس التحديات الكثيرة التي تواجه هذا العالم العربي، لكنّنا نرى أنها، وعلى المستوى اللّبناني، أعادت إلى لبنان دوره في العالم العربي، وأظهرته أنه بلد قادر على توفير كلّ الظروف لانعقاد قمة على أرضه، ولفتت إلى ما يعانيه على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والآثار التي يتركها وجود العدد الكبير من النازحين السوريّين على أرضه على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والأمني، والمخاوف التي يعيشها اللّبنانيون من استمرار هذا الوجود، وعدم تهيئة الظروف لإعادتهم إلى بلادهم بعد عودة أكثر الأراضي إلى حضن الدولة السوريّة.

 

ولكن يبقى على المسؤولين اللّبنانيّين أن يدرسوا الأسباب التي دعت الكثير من الدول العربية إلى خفض مستوى حضورها، للعمل على معالجة ما يمكن معالجته. ولا يخفى أنّ من بين الأسباب، بل قد يكون من أبرزها، هو عدم وجود حكومة. لذلك، من المهمّ عودة الحراك بعد القمّة للعمل على خطّ تشكيل الحكومة.

 

وفي هذا المجال، نلاحظ عودة الحديث عن التفاؤل بولادة الحكومة خلال أيّام، ونأمل أن يكون هذا التفاؤل في محلّه، وأن تكون القوى السياسية قد وعت مدى حاجة اللّبنانيّين إلى حكومة ترعى مصالحهم للخروج من دائرة السقوف العالية والخطوط الحمر التي يرفعها هذا الفريق أو ذاك، وإن كنّا لانزال نرى أن الطبخة الحكومية لم تنضج بعد، لا داخلياً ولا خارجياً، حيث لايزال كل فريق على موقفه، ولم يتقدّم بالخطوة المطلوبة، بل نخشى أن تكون هناك عقدة جديدة قد نشأت بعد حديث المبعوث الأميركي عن تفعيل حكومة تصريف الأعمال.

 

إنّنا لانزال نرى أن المشكلة الأساس والعقدة في هذا البلد، تتّصل بحالة انعدام الثقة بين القوى السياسية والطوائف والمذاهب، ولذا نخشى ألا يكون الفرق كبيراً بين ولادة الحكومة وعدمها، لجهة النهوض بالبلد، وإخراجه من أزماته الكثيرة التي تعصف عند حدوده، ووضعه الاقتصادي الصّعب، بل يتعدّى ذلك إلى المخاوف من تصعيد على مستوى المنطقة قد ينعكس على الساحة اللبنانيّة.

 

ولذلك، فإننا نكرّر الدعوة إلى لقاءٍ وطنيٍّ جامع، تتغلَّب فيه المكاشفة والصّراحة، مهما كانت جارحة، على لغة المجاملة والمداهنة التي تتقنها الجهات اللّبنانيّة في خطابها السياسي، لإخراج البلد من حالة المراوحة التي يعيشها، من خلال دراسة أسلوب التعامل مع القضايا الخلافيّة الشّائكة فيما يتعلّق بالنزوح السوري أو العلاقة مع سوريا، أو أسلوب مواجهة الخطر الصهيوني، ومعالجة هواجس الطوائف والمذاهب والقوى السياسيّة من بعضها البعض، للوصول إلى صيغةٍ ليس فيها مستأثِر ولا مستأثَر به، ولا غالب أو مغلوب.

 

الفساد المستمرّ!

ضمن هذه الأجواء، تنكشف كلّ يوم أكثر من فضيحة فساد في هذه المؤسّسة الحكوميّة أو تلك، وتهدر بسببها أموال طائلة من الخزينة اللّبنانية، ما يشير إلى مدى الانحدار الذي وصل إليه البلد على هذا المستوى، ولا سيَّما أنّ هؤلاء الفاسدين يحظون بالتّغطية والرعاية والحماية.

 

إنَّ الخروج من هذا الواقع لن يتمّ إلا عندما تتوافر الحرية والاستقلالية والصلاحية للقضاء وللأجهزة الرقابية، فلا يكفي التهديد بشنّ الحرب على الفساد حتى يهرول الفاسدون إلى بيوتهم ويكفّوا عن الفساد!

 

سوريا في مرمى العدوان

وفي مجال آخر، يتكرَّر العدوان الإسرائيلي على العاصمة السوريَّة دمشق، حتى في يوم انعقاد القمّة العربية في بيروت، حيث مرّت الطائرات فوق رؤوس المؤتمرين. ومع الأسف، يجري هذا من دون أن تبرز مواقف عربيّة مستنكرة، وفي ظلّ صمت مجلس الأمن الدولي الذي تمرّ أمامه أخبار التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية يومياً، ولا يُحرّك لذلك ساكناً، وربما يطالعنا بعد أيّام بالحديث عن انتهاك لبنان للقرار 1701، متناسياً أنّ الطائرات الإسرائيلية تخرق الأجواء يومياً، وتقوم بممارسة اعتداءات أخرى على الحدود اللبنانيّة ــ الفلسطينيّة.

 

إننا نرى في العدوان الإسرائيلي الجديد، وفي الغارات المتكرّرة على العاصمة السورية، محاولة جديدة لهزّ الاستقرار السوري، والحؤول دون أن تصل سوريا إلى مرحلة الاستقرار الأمني، وإلى العافية الاقتصاديّة والعمرانيّة، ومحاولة لإيجاد الشّرخ بين سوريا وحلفائها، لتحقيق شروط العدوّ التي نخشى أن تحظى بدعم أكثر من جهة دوليّة؟!

 

إنّنا نقول للعرب، دولاً وشعوباً، إنّ عليكم أن تعوا خطورة قصف عاصمة عربيّة بحجم سوريا، لأن السكوت عن ذلك سوف يمهِّد السبيل للعدوّ للاعتداء على عواصم عربيّة أخرى إذا اعترضت على سياساته، على خلفيَّة أنَّ أمنه لا يقف عند حدود بيروت ودمشق، بل يتعدَّاه إلى السودان والعراق، وقد سبق له أن قصف هاتين الدّولتين، ولا يظنّنّ أحد أنه بمأمن من عدوانه وأطماعه.

 

 

 

Leave A Reply