كيف نستعدّ لاستقبال شهر رمضان؟!

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الاولى

في آخر جمعة من شهر شعبان، وقف رسول الله(ص) خطيباً في المسجد، يعدّ أصحابه لاستقبال شهر رمضان، وقد كان(ص) في خطبته تلك واضحاً في دعوة أصحابه، ومن خلالهم المسلمين جميعاً، للاستنفار، استعداداً لتحمّل الجوع والعطش وعظيم المعاناة…

الاستعداد للشَّهر الكريم

وقد قرن هذا الاستعداد للصّيام بأمر ثانٍ مطلوب أيضاً في شهر رمضان، ألا وهو: تلاوة القرآن: "فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ».

أمّا لماذا؟ فلأنَّ شهر رمضان هو شهر القرآن بامتياز، ففيه نزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[سورة القدر].

والأحاديث الشَّريفة ما كانت لتحثّ على هذه الصّلة بين الصّيام والقرآن، لولا أهميَّة القرآن العمليَّة في حياة المسلم، وخصوصاً أثناء عبادة الصّوم، حيث ورد: «إنّ لكلّ شيء ربيعاً، وربيع القرآن هو شهر رمضان»، ويقول الصَّادق(ع): "إنَّ الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً؛ فغرَّة الشّهور شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر، فاستقبل الشّهر بالقرآن".

قراءة القرآن وتدبّر آياته

فشهر رمضان المبارك هو شهر توبة وعمل وإعادة صيانة للنّفس والرّوح، ومَن غير القرآن دليلاً ومعيناً للإنسان المسلم كي يستكمل ورشة الصّيانة هذه، في حال عرف كيف يستثمر آياته، وكيف يقرأها ويتلوها ويتدبَّرها؟!

فالقضيَّة إذاً هي أن نقرأ القرآن ونتدبَّر آياته. وكثيرة هي الأحاديث الّتي دعت المؤمنين إلى قراءة القرآن، وأعطتها توصيفات:

ـ فهي «كفّارة للذّنوب»، وهي، كما جاء: «إذا أحبّ أحدكم أن يحدِّث ربّه فليقرأ القرآن»، وهي «جلاء القلوب من الصَّدأ»، و«حياة القلوب»، و«حياة العقول»، و«ستر من النّار»، و«أمان من العذاب»، وهي «الجلوس على  مأدبة الله».

والجلوس إلى مائدة الله، أيّها الأحبّة، يعني أنّك لست في حضرة حاكم دنيويّ. ليس المهمّ ماذا تلبس، ولا الشكليّات والرّسميات، المهم هل تُقبل على كتاب الله بذهن منفتح، وهل تقبل وقلبك خال من حسابات الدّنيا، فتكون قراءتك كلّها لله عزّ وجلّ، وليس للكسب أو الاستطالة؟!

والبداية تكون دائماً من حيث يقول الإمام الصَّادق(ع): "أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة ـ (أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم) ـ وافتحوا أبواب الطّاعة بالتّسمية" (بسم الله الرّحمن الرّحيم).

بعض النَّاس يظنّ أنَّ ثواب القراءة يكبر بقدر ما يكبر عدد الآيات، لهذا يحذّر رسول الله(ص) من قراءةٍ كهذه، ويقول: "بيّنه تبياناً، ولا تهذّه ـ أي تجزّه وتقطعه ـ هذَّ الشّعْر، ولا تنثره نثر الرَّمل، ولكن أفرغوا قلوبكم، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السّورة".

لأنّه لا يمكن لقارئ همّه آخر السّورة أن يتدبّر مفاتيح خزائن العلم، ولن يُتاح له بالتّالي أن يعرف ما فيها، حيث يقول الإمام زين العابدين(ع): "آيات القرآن خزائن العلم"، فكلّما فتحت خزانة، ينبغي لك أن تتمعَّن فيها. ووحدهم الخاشعون عند قراءة القرآن، هم القادرون على فتح تلك الخزائن. الخشوع هو المفتاح لإدراك معاني هذه الآيات، أي لتدبّر آياته.

معنى التدبّر

وفي معنى التدبّر: دبّر الأمرَ يعني قلّب الأمر ونظر في معانيه المختلفة، فأنت عندما تتأمّل منظر حائط على وشك السّقوط، فقد يظلّ تأمّلك في إطار المشهد أمامك، لكن عندما تذهب في تفكّرك إلى ما وراء ما تنظر، وهي أسباب السّقوط  ومخاطر سقوط الحائط، وما ينجم عنه، وكيف يمكن منع حدوث ذلك، فإنّك تنتقل في التّفكير إلى حالة التدبّر. يعني أنت تحوّل أفكارك إلى عمل، أو إلى مخطّط عمل. فالتدبّر تأمّل وتفكير يستبطن العمل والسّلوك، وتحويل الفكر إلى برامج وخطط.

لقد دعا الله إلى تدبّر القرآن في أكثر من آية: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}(النّساء: 82). {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(ص: 29).

والدّعوة هنا إلى التدبّر واضحة وجليّة. ومن هنا يقول الإمام عليّ(ع): "ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها تدبّر".

أيّها الأحبّة: هناك مفاهيم سائدة لدى البعض، في تعاطيهم مع ممارسة عبادة التدبّر هذه، فمنهم من يعتبر القرآن كتاباً لنيل البركة فقط، فيقرأونه طلباً للثواب، أو لحاجة ما، ويمرّون على الآيات مرور الكرام، ومنهم من يعتقدون أنّهم غير قادرين على فهم الآيات ومعانيها، لأنّهم لا يمتلكون المؤهّلات اللّغويّة أو غير اللّغويّة الّتي تسمح بتفسير كلمات الآية وفهم معانيها، وهم يخطئون، لأنّ القرآن رغم عمق مفاهيمه وسعتها، فهو سهل الفهم، ويسّره الله ليكون كذلك: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(القمر: 17).

وفي سورة الدّخان يخاطب الله رسوله قائلاً: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(الدّخان: 58)

 ثم إنَّ معظم آيات النّهي والوعيد والتَّرغيب والتَّرهيب، والحديث عن صفات الله، واليوم الآخر، والجنّة والنّار والأخلاق المذمومة والحميدة، وذمّ الظّلم والكفر، كلّ هذا وغيره من الأمور الأساسيّة للعقيدة، يستطيع عامّة الناس فهمها وتدبّرها، ببذل  المجهود والتدرّب، والإقبال بحبّ ولهفة، وليس فقط لإبراء الذمَّة…

فهم معاني القرآن

إذاً، التدبّر أيّها الأخوة والأخوات، ليس حكراً على فئة دون أخرى من النَّاس، هو بمتناول كلّ النَّاس. مثلاً:

إذا قرأنا هذه الآية: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ…}(الإسراء: 82)، ترون أَنّها لا تحتاج إلى قاموس، فحتّى القارئ العاديّ يفهم معاني كلماتها.

فالآية تتحدّث عن أنّ الرّوح تمرض، والقلب يمرض، والنّفس تمرض، تماماً كما الجسد  يمرض، وكِلا النّوعين ـ مرض الجسد ومرض القلب أو الرّوح ـ يحتاجان إلى طبيب وعلاج. والقرآن أُنزل ليكون الطّبيب لمعالجة أمراض الرّوح والنّفس والقلب.

أليس الذلّ مرضاً يدمّر كرامة المؤمن؟ أليس الظّلم، والغيبة، والحسد، والنّفاق، والشّحّ، والحرص، وإلى ما هنالك… أمراضاً روحيّة وأخلاقيّة ونفسيّة، تميت روح الإنسان وتخسره إنسانيّته؟

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن ليكون وصفةً  لبناء إنسانيّة الإنسان، وصفةً متجدّدة وصالحة لكلّ زمن، فالأهداف التربويّة والإنسانيّة، المعنويّة منها والماديّة، تختصرها هذه الآية: {ألر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(إبراهيم:1).

وعمليّة الخروج هذه لن تكون متاحةً إلاّ بتدبّر الوصفات الموجودة في آيات القرآن، ففيها الشّفاء الّذي تحدّثت عنه الآية.

عن عبد الرّحمن السّلمي قال: حدّثنا الّذين كانوا يقرأون القرآن، كانوا إذا تعلّموا من النبيّ(ص) عشر آيات، لم يتجاوزوها حتّى يعملوا بما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.

إنّ اتّباع خطى هؤلاء القدوة أمر ممكن وسهل، فما الّذي يمنعنا من أن نحوّل بعض سهراتنا إلى لقاءات وجلسات ذكر، وخصوصاً في هذا الشّهر الفضيل، عملاً بنصيحة الرّسول(ص): "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".

"إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالْنَّجَاةَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، وَالظِّلَّ يَوْمَ الْحَرُورِ، وَالْهُدَى يَوْمَ الضَّلاَلَةِ، فَادْرُسُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ كَلاَمُ الرَّحْمَنِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرَجَحَانٌ فِي الْمِيزَانِ".

فلندع الله أن يوفّقنا لبلوغ شهر رمضان وصيامه وتلاوة كتابه والعتق من النّار والفوز بالجنَّة.. وليكن دعاؤنا دعاء الإمام الرّضا في آخر جمعة من شهر شعبان: «اللّهمَّ ولا تدع أمانة في عنقي إلا أدَّيتها، ولا في قلبي حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً ارتكبته إلا أقلعت عنه».

«اللّهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان، فاغفر لنا فيما بقي منه يا ربّ العالمين»..

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التَّقوى، لا بدَّ لنا من أن نلتزم بكلّ برنامج شهر رمضان، شهر التّقوى، هذا البرنامج الذي أشار إليه رسول الله في خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان، حين وقف وقال:

 "وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لَا يَحِلُّ الِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ، وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَنْ لَا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ".

أيّها الأحبَّة: لنعدَّ أنفسنا، نحن الَّذين ننتظر بكلّ شوق قدوم هذا الشَّهر المبارك، وليكن دعاؤنا هو دعاء رسول الله في شهر شعبان: "اللّهمّ بارك لنا في شعبان وبلّغنا رمضان"، لأداء كلّ الواجبات الّتي يمكننا القيام بها، ولنضع من الآن برنامجاً عمليّاً نغطّي به كلّ المساحات الّتي دعانا رسول الله إليها، حتّى نخرج منه بزادٍ وفيرٍ، أقلّه عتق رقابنا من النّار، وحياة أفضل لنا في الدّنيا، تمكّننا من أن نكون قادرين على مواجهة تحدّياتها.

مصر تكرّس مبدأ محاسبة الحاكم

والبداية من مصر، الّتي أظهر شعبها من خلال تواجده في الميادين المتعدّدة، مدى حيويّته واهتمامه بقضاياه العامّة، إنّنا نرى في هذا الحراك إيجابيَّة نريد لكلّ ساحتنا أن تستلهمه، فلا يشعر الحاكم، أيّ حاكم، بأنّه في أمان إن أخطأ أو لم يقم بمسؤوليَّته تجاه مواطنيه، فمبدأ محاسبة الحاكم وأيّ مسؤول آخر، هو ما نؤمن به في ديننا، وقد يمثّل ذلك بداية الطّريق لإصلاح ما فسد في العالم العربي والإسلاميّ، الّذي عانى ويعاني من شعور الحالم بالحريّة في القيام بما يشاء من دون رقيب أو حسيب.

ونحن في هذا المجال، لا نعتبر، كما يتحدَّث البعض، أنَّ في ذلك سقوطاً للتّجربة الإسلاميّة، ولقدرة الإسلام على النّهوض بأعباء الحكم، فسقوط تجربة بسبب سوء أداء القائمين بها، أو بسبب التحدّيات الّتي واجهتها في الدّاخل والخارج، لا يعني سقوط الفكرة، فنحن لا نزال وسنبقى نؤمن بقدرة الإسلام الأصيل والمنفتح على الآخر، على إدارة الحكم وحلّ مشاكل الحياة، وإخراج العصر من أزماته، لكن عندما يكون الإسلام بكلّه حاضراً، وعندما يحسن الحاكمون باسمه التّعامل مع الواقع، فلا يعطون النّاس الأحلام والوعود وهم غير قادرين على تحقيقها.

وقد كنّا دعونا الإسلاميّين في مصر وفي غيرها، ممن يتصدّرون المواقع، إلى أن يقدّموا تجربة إسلاميّة رائدة، عنوانها الأساسي العدالة، وتحقيق آمال النّاس جميعاً، والقبول بالآخر ومدّ الجسور معه، والمشاركة، وعدم الاستئثار والاستعجال أو حرق المراحل لتحقيق الأهداف، وتدبّر عواقب الأمور قبل الإقدام عليها، والقبول بالنّصح…

إنَّ ما جرى في مصر ينبغي في البداية أن يدعو الإسلاميّين فيها إلى أن يدرسوا ما حدث جيّداً، ليعيدوا النّظر في أسلوب إدارتهم للحكم، وكيفيّة التّعامل مع الآخر المختلف معهم، وأسلوب مواجهة تحدّيات الدّاخل، ومواجهة الواقع المعقّد دوليّاً وإقليميّاً، وأن لا ينكفئوا عن السّاحة أو يتعاملوا معها بردود فعل تؤدّي إلى إدخال هذا البلد في فتنة يستفيد منها كلّ الّذين لا يريدون خيراً له وللإسلاميّين.

كما ندعو الّذين أخذوا بزمام الحكم، بعيداً عن الحديث عن الحكم بشرعيّته أو عدمها، تحت عنوان رفض الاستئثار والإلغاء والإقصاء، إلى أن لا يقعوا في الخطأ نفسه الّذي وقع فيه الآخرون، وأن تكون أفعالهم متطابقةً مع شعاراتهم الّتي رفعوها، بحيث يبدو المشهد الآن مشهد التشفّي والانتقام والرّغبة في إقصاء الآخر الإسلاميّ. فمصر لا يمكن أن تواجه تحدّيات الدّاخل والخارج إلا بوحدة شعبها وتكامله وتعاونه. إنّنا نشدّد على كلّ القيادات الواعية، ولا سيّما الإسلاميّة، إلى العضّ على الجراح، للنّهوض بهذا البلد وإخراجه من أزماته، من خلال حكومة وحدة وطنيّة يلتقي فيها الجميع، حفظاً لهذا البلد من كلّ الّذين يتربّصون به شرّاً، ولا سيّما العدوّ الصهيونيّ، الذي خاف كثيراً من هذا الحراك الشَّعبي بكلّ تلاوينه، ومن هذه الحيويّة، ومن الحراك السياسيّ أيضاً.

سوريا: تأجيل الحلول

أمّا سوريا، فلا زالت ميداناً للصّراعات الدولية والإقليمية، حيث يستمرّ نزيف الدّم والتّدمير لبنيتها التحتية هادراً، في حين تؤجّل الحلول رغم حديث التّفاؤل الّذي يُتحفنا به الأميركيّون والرّوس في مسألة جنيف 2.

ونحن في الوقت الّذي لا نزال على قناعتنا بأنَّ الحرب على سوريا هدفها إسقاط كلّ مواقع القوّة فيها، ومنعها من أن تلعب دورها الرّائد في العالم العربي والإسلامي، نعيد التّأكيد على كلّ مكوّنات هذا الشعب، وكلّ الغيارى الحريصين عليه، بضرورة تفويت الفرصة على كلّ الّذين لا يريدون خيراً لهذا البلد، والعمل سريعاً للخروج بصيغة تحفظ لهذا البلد دوره الرّيادي، وللشعب حقّه في الحرية والحياة العزيزة الكريمة.

لبنان: لحكومةٍ تستوعب الجميع

أمّا لبنان، فإنّه غارق في دوّامة السّجالات وتعطيل المؤسَّسات وتسجيل النّقاط، إلى جانب تداعيات ما حصل ويحصل في صيدا وطرابلس، فضلاً عن التّداعيات المستمرّة في ما يحدث في سوريا والمحيط العربيّ، والّذي يأتي وسط تنامي المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، وحديث مذهبيّ متواصل عن غبن لهذا المذهب أو ذاك المذهب أو لهذه الطّائفة أو تلك.

إنَّ كلّ هذا الواقع بات يستدعي من كلّ الطاقم السياسي الرّسمي وغير الرّسميّ، التّلاقي والتّواصل والحوار، للخروج بصيغةٍ تبعد البلد عن التوتّر الدّاخليّ وعبث الآخرين بأمنه، وإعادة تشكيل حكومة تستوعب الجميع، وتصون البلد في هذه المرحلة الدّقيقة والصّعبة.

الثلاثاء أوّل رمضان

وأخيراً، ونحن نستقبل شهر رمضان؛ شهر المغفرة والرّحمة والمحبّة والتّواصل والتّلاقي، نريد لهذه المناسبة أن تكون محطّة من محطّات الوحدة التي يلتقي عليها المسلمون ليجسّدوا معاني هذا الشّهر، في التّراحم والتّحابب، ونبذ الأحقاد، وما خلفّته الأحداث الّتي تعصف بواقعنا من تعقيدات ومشاكل…

ونشير إلى أنَّ يوم الثّلاثاء القادم سيكون اليوم الأوّل من شهر رمضان المبارك، حسب المبنى الفقهيّ لسماحة السيد(رض)، القائم على الحسابات الفلكيّة الدّقيقة المفيدة لليقين، حيث إنَّ الهلال سيكون قابلاً للرّؤية في بعض المناطق الّتي نشترك معها بجزء من اللّيل، كما في أميركا الجنوبيّة، ونسأل المولى أن يمنّ على الأمّة كلّها بالوحدة والمحبّة والخير في رحاب هذا الشّهر الكريم.

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 26 شعبان 1434 هـ  الموافق: 05/07/2013 م

 

 

Leave A Reply