كيف ينظر الدّين إلى الدّنيا؟!

 

 

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}. صدق الله العظيم.

يأخذ البعض على الدين نظرته السلبيّة إلى الدنيا، فهم يرون أنّ الدين يدعو إلى القطيعة مع الدنيا، وأنك حتى تكون متديّناً، لا بدّ من أن تحذر الدنيا، وتنزع من مشاعرك الحبّ لها ولما فيها، وأن تطلّقها. فهل هذه النظرة التي يتحدّث عنها هؤلاء صحيحة؟ وهل صورة الدنيا فعلاً قاتمة ومكروهة في نظر الدين؟

 

نظرة إيجابيّة

إنّ من يتابع النصوص الدينيّة، سواء ما ورد في القرآن الكريم أو في الأحاديث الشريفة، يجد عدم صوابيّة ما يشيعه هؤلاء عن الدين، ويرى نظرة إيجابيّة للدين إلى الدنيا.

فالدين جاء ليعزّز نظرة الإنسان إلى الدنيا، وحتى يوجد علاقة ودّ معها، وهذا ما ورد في قوله عزّ وجلّ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ}…

 

وقال في آية أخرى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَل}.

فيما ندَّد القرآن الكريم بالذين يحرّمون على أنفسهم زينة الدّنيا وطيّباتها، إن توفّرت لهم بما أحلّ الله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}..

وقد ورد في الحديث: "فأمّا إذا أقبلت الدنيا، فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها".

 

ولذا، نجد النبي(ص) يسارع إلى تصحيح ما التبس على بعض أصحابه، عندما فهموا مواعظه عن الآخرة خطأً، ورأوا فيها دعوة منه(ص) إلى ترك الدّنيا، فقرّر بعضهم أن يصوم الدّهر كلّه، وقرّر البعض الآخر أن يتركوا زوجاتهم، وأن يتخلّوا عن أيّ شهوة من شهوات الدنيا ولو من حلال، وقرّر آخرون أن يتخذوا لأنفسهم صوامع للعبادة ويبتعدوا عن الناس… وقف يومها رسول الله(ص) خطيباً في المسجد، ليحذّر من هذا المنطق ويقول: "ما بَالُ أَقوامٍ حرّموا النساءَ والطعام، والطِّيب والنّوم، وشهواتِ الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قِسِّيسِينَ ولا رهباناً، فإنّه ليس في ديني ترْكُ اللّحم والنساء ـ أي الزواج بشكل عام ـ ولا اتخاذ الصّوامع، فأنا أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني". ونزلت عندها الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.

 

وفي موقعٍ آخر، ردّ رسول الله(ص) على من راحوا يسبّون الدنيا ويذمّونها ويتهجّمون عليها، ويتوعّدون من يأخذ من نعيمها بالعذاب من الله سبحانه، اعتقاداً منهم أنهم بذلك يخلصون لدينهم وإيمانهم، فقال: "لا تسبّوا الدنيا، فنعم مطيّة المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرّ، إنّه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربّه".

 

وهنا نقف عند موقفٍ مماثلٍ لعليّ(ع)، عندما قال لمن يذمّ الدنيا: "أيّها الذامّ، أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك؟ إنَّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله".

 

مكانة الدّني

ويكفي للالتفات إلى أهميّة موقع الدنيا عند الله سبحانه وتعالى، حديث القرآن الكريم للإنسان عن تسخير الدنيا وجمالها له، وما أودع فيها من خيرات وبركات ونعم، فلو أنَّ الله سبحانه لا يريد للإنسان الدنيا، لما أبرز له ذلك، فقد أقسم الله بظواهرها ليلفت إليها، فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَ} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، وغير ذلك.

 

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.

 

وقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}.

 

وليعزّز موقع الدنيا عند الإنسان، أشار إلى مسؤوليّته عن إعمارها، فقال له: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ}.

وقد بلغ في حثّه على ذلك، ما ورد في الحديث: "إن قامت السّاعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها".

 

التّحذير من الدّنيا!

لكن قد يقال، إذا كانت النظرة إلى الدنيا بكلّ هذه الإيجابية، فكيف نفسِّر كلّ ما ورد في ذمّها والتحذير منها، مما تعرّضت له آيات وأحاديث كثيرة، كما في قوله سبحانه: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ}.

وقد ورد في الحديث: "احذروا الدّنيا، فإنها عدوّة أولياء الله".

وفي الحديث: "الدنيا سوق الخسران"، "الدنيا مزرعة الشّرّ"، "الدنيا مصرع العقول"…

وفي الحديث: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا". وفي حديث آخر: "أكبر الكبائر حبّ الدنيا".

وفي الوقت نفسه، دعا الإنسان إلى الزّهد فيها، فقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "ما يعبد الله بشيء مثل الزّهد في الدّنيا".

وقد برز التعبير الأبرز عن الرّفض للدنيا في كلام عليّ(ع)، عندما توجَّه إليها قائلاً: "إليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك".

 

وكان يقول: "وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها".

 

ولتوضيح خلفيّة كلّ هذا التنديد الديني بالدنيا والتحذير منها، نقول: إنّ ما ورد لم يكن في إطار الدعوة إلى ترك الدنيا، بل التّحذير من التمادي فيها، ولإيجاد توازن عند الإنسان تجاهها، فما ورد، أراد أن يشير إلى الإنسان أن الدنيا ليست نهاية المطاف، وعليه أن لا ينظر إليها كهدف وغاية، فقال سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

 

وبهذا، ورد الحديث عن عليّ(ع): "إنّ الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملاً، ولسنا للدّنيا خلقنا، ولا بالسّعي فيها أمرنا".

وفي الحديث: "الدنيا مزرعة الآخرة".

ولذا، توعّد بالعذاب الذين رضوا بالحياة الدنيا، ولم يأخذوا بالاعتبار لقاء الله يوم القيامة، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة.

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

 

وفي آية أخرى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}. وقال: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَ}…

 

وحتى لا يخدع أحد بالدّنيا، أظهر الله حقيقتها، بقوله عزّ وجلّ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِر}.

 

وقد ورد في الحديث: "انظروا إلى الدنيا نظر الزّاهد فيها، فإنها عن قليلٍ تزيل الساكن، وتفجع المترف. فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلّة ما يصحبكم منها".

 

وقد ورد في ذلك: "إنّ الدنيا تمثَّلت للسيد المسيح(ع) في صورة امرأة زرقاء، فقال لها: كم تزوّجت؟ فقالت كثيراً، قال: فكلٌّ طلَّقك؟ قالت: لا، بل كلًّا قتلت، قال المسيح(ع): فويح لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين؟!".

 

الدّنيا المرغوبة

إذاً، الدنيا مرفوضة عندما تكون هدفاً وغاية، وعندما يخلد الإنسان إليها، وتكون على حساب الآخرة، وعندها، يقال عنها بأنها معدن الشرّ ومحلّ الغرور، وسوق الخسران، ومصرع العقول، ولا بدّ من تركها.

فيما هي مطلوبة عندما تكون في خطّ الآخرة ولحسابها. ونحن عندما نتحدّث عن خطّ الآخرة، فإننا نعني بذلك القيم والمبادئ والأخلاق والعدالة والخير، فلا تبلغ الآخرة إلا بذلك.

 

ولذلك، عندما جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع)، وقال له: "إنّا لنطلب الدنيا، ونحبّ أن نؤتاها، فقال(ع): تحبُّ أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأَصِلُ بها وأتصدّق، وأحجّ وأعتمر، فقال(ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة".

ولقد بيَّن الإمام الكاظم(ع) المبدأ الذي يحدّد مسار المؤمن في الحياة، عندما قال: "اجعلوا لأنفسكم حظّاً من الدنيا، بإعطائها ما تشتهي من الحلال، وما لا يثلم المروّة، وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين"، "ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه".

 

هذا المبدأ هو ما أرادنا الله أن ندعوه به، عندما قال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أخبرنا الله به عندما قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

 

لقد قدَّم الله من خلال هذه الآيات مشهداً واقعيّاً من مشاهد يوم القيامة، وترك لنا الخيار، وجعل القرار بأيدينا. والواعون هم من يثقون بربهم، لذلك، هم يعبدونه ويطيعونه، ويسعون إلى رضوانه، ويبعدون أنفسهم عن تسويلات الشيطان وخدعه ومكره وأمانيه المعسولة، فينالون بذلك ما وعدهم من جنّته، ويتجنَّبون ناره، ويكونون بذلك أكثر مسؤوليةً وقدرةً على مواجهة التحديات.

 

لبنان: هل من أمل؟!

والبداية من لبنان، الذي دخل عاماً جديداً، وهو لايزال محمَّلاً بالأزمات التي كانت تعصف به على كلِّ الصعد، من دون أن تلوح في الأفق بوادر حلٍّ تنهي هذه الأزمات، بدءاً بتشكيل حكومة تستحقّ عنوان حكومة وحدة وطنيّة، حكومة متجانسة ومتعاونة. لقد كنا نأمل أن تستلهم القوى السياسية محطة رأس السنة لتكون مناسبة للمراجعة والمحاسبة، ولتشكّل فرصةً لإعادة النظر بكلّ السياسات والتوجهات التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه من الانحدار على كل المستويات، وحتى الانهيار.

 

لكننا، ومع الأسف، لا نرى حتى الآن أية بوادر توحي بالتّغيير، ولا نلحظ ذهنية جديدة في التعامل مع قضايا البلد ومصالح الناس، حتى إنَّ الكثير من اللّبنانيّين باتوا لا يرون حتى في تشكيل الحكومة، على أهميّته ولو المعنويّة، منطلقاً لمرحلة جديدة مختلفة عن الماضي، فأيّ حكومة ستخرج البلد من أزماته، في الوقت الذي يراد لها أن تشكَّل على قاعدة الغلبة، أو في ظلّ وجود الهواجس والمخاوف التي تسيطر على القوى السياسية من بعضها البعض، إذ إنَّ الكلّ خائف من أن يكيد له الآخر أو يعدّ العدّة لذلك، حتى بين من كانوا يعتبرون من الحلفاء؟!

 

مع التحرّكات المدروسة!

إننا، رغم كلّ هذا الواقع الذي يعيشه النادي السياسي، ورغم كلّ الأزمات التي تنتج منه، والتي توحي بالتشاؤم، وتدفع الكثيرين إلى القول أن لا أمل من هذا البلد، وفالج لا تعالج.. لانزال نرى أن العلاج ممكن، عندما تشعر كلّ القوى السياسية بأنَّ هناك شعباً واعياً يرفع صوته، ويحاسب ويدقّق، ولا تنطلي عليه كلّ الإثارات الطائفية والمذهبية وادّعاءات الدفاع عن حقوق مهدورة لهذه الطائفة أو تلك، والتي باتت السلاح الأمضى لتخدير الناس وضمان سكوتهم.

 

ومن هنا، فإننا نقف مع أيّ تحرّك شعبي يعبّر فيه الناس عن آلامهم وأوجاعهم، شرط أن يكون مدروساً ومسؤولاً وفاعلاً، وأن لا يكون أداةً في الصراع السياسي الدائر بين القوى السياسية.

 

إنَّ من حقّ اللّبنانيّين أن يرفعوا أصواتهم ليقولوا لكلِّ الواقع السياسي المعطّل والمعرقل للحلول: كفى استهتاراً بمصالحنا وبمستقبلنا ومستقبل أولادنا. لقد أودعناكم المسؤوليّة حتى تخفّفوا عنا، لا لتزيدوا مشاكلنا، أو لتضيفوا أعباءً جديدة بسبب فسادكم أو تغطيتكم على الفساد والسّماح به، أو لتجعلونا مشرّدين في هذا العالم، نتسكَّع على أبواب الدول للحصول على لجوء إلى أراضيها.

 

هل تشارك سوريا في القمّة!

وننتقل إلى القمَّة الاقتصادية التي ستعقد في لبنان في العشرين من الشهر الجاري، لنأمل أن تشكّل عامل ضغط وحافزاً لدى عقلاء السياسة اللبنانية، ومن يتحمّلون المسؤوليّة في هذا الوطن، بأن يحفظوا موقع هذا البلد، ويسارعوا لتشكيل حكومة تتحمّل مسؤوليّاتها.. لتكون القمّة فرصةً يستعيد فيها لبنان دوره سياسياً واقتصادياً.

 

ونأمل في إطار هذه القمَّة، أن يعمل المسؤولون اللبنانيون على إيجاد المناخات، وتهيئة الظروف التي تؤدي إلى مشاركة سوريا في هذه القمّة، نظراً إلى الآثار التي يتركها ذلك في إعادة لمّ الشمل العربي المطلوب في هذه المرحلة.

 

ظاهرتان.. ومسؤوليَّة الدَّولة

وأخيراً، لا بدَّ من أن نتوقَّف عند ظاهرتين يعانيهما هذا البلد؛ ظاهرة ازدياد حوادث السّير في لبنان، إذ تشير الإحصائيات إلى عدد كبير من الضحايا الذين يسقطون بسبب ذلك، وقد يكون السبب فيها هو السرعة الزائدة، وعدم الأخذ بمعايير السلامة التي من الواجب العمل بها، ولكنّ المسؤوليّة تقع على عاتق الدولة التي لا بدَّ من أن تتشدّد في الرقابة والمحاسبة على عدم الالتزام بقواعد السير، وفي تأمين الطرقات، سواء من ناحية الإضاءة في اللَّيل، أو إزالة العوائق، وإيجاد حلّ للحفريات على الطّرقات.

 

إنّ من حقّ اللبنانيين على دولتهم أن تؤمّن لهم كلّ سبل السلامة، وإلا فهي شريكة في النتائج التي تترتّب على ذلك، وفي الضّحايا الذين يسقطون.

 

والظاهرة الثانية، هي إطلاق الرصاص في المناسبات؛ هذه العادة السيّئة التي باتت، وفي كلّ مناسبة، تتسبّب بسقوط ضحايا، ولا سيّما أنّ بعضها يثير الحساسيات، ويعطى أبعاداً مناطقيّة وطائفيّة. إنّ في ذلك مسؤوليّة على الدولة في ملاحقة مطلقي النار، ولكنّ هناك مسؤولية تقع على كلّ مخالف وكلّ فرد، في أن يتدبّر نتائج ما قام به، وأن يعي أنّه قد يأتي يوم القيامة متلبّساً بجرم يعتقد أنّه آمن منه.

 

Leave A Reply