مسؤوليَّة استثمار أوقات الفراغ

 

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. صدق الله العظيم.

 

وقت الفراغ هو نعمة كبيرة، لا يعرف أهميّتها إلا من كان وقته ممتلئاً بالعمل، ولا يكاد يجد فيه فسحة للرّاحة.

والمقصود بوقت الفراغ هنا، الوقت الذي يمرّ على الإنسان دون مسؤوليّات والتزامات، كالعامل الذي أنهى عمله، أو الموظّف الذي هو في إجازة، أو الطالب الذي أنهى عامه الدّراسي ودخل في العطلة الصيفيّة…

 

والإنسان بحاجة إلى مثل هذه الفسحة من الوقت، ليخرج من روتين العمل اليوميّ، ومن ثقل الالتزامات الوظيفيّة أو الدراسيّة، وهي ضروريّة له ليجدّد حيويّته ويشحن طاقته، وليزيد من فعاليّته، ويضفي على عمله المعنى الذي يستحقّ، وحيث لا يمكن للإنسان أن يمضي حياته في عمل لا توقّف فيه.

 

وهذا المفهوم حاضر في التراث الإسلامي، فقد اعتبر الإسلام هذا الوقت حقّاً للإنسان، حيث ورد في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل".

وفي تقسيمه لساعات اليوم، قال (ع): "للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يروم فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه ولذّاتها في غير محرَّم، فإنها عون على تينك السّاعتين".

وفي حديث آخر: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان (العلاقات الاجتماعية) والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون على الساعات الثّلاث".

هل في الإسلام وقت فراغ؟!

ولكنَّ الإسلام لم يرد لهذا الوقت أن يذهب هدراً، أو أن يصرف في أمور لا فائدة للإنسان منها، أو أن يكون سبباً للملل والضّجر، فيقضي هذا الوقت في النّوم الطّويل، أو على شاشات التلفاز، أو على مواقع التواصل، أو في المقاهي، أو يدفع الإنسان لاكتساب عادات سيّئة، أو القيام بأعمال غير مشروعة، بحيث يتحوَّل هذا الوقت إلى مشكلة للإنسان وللنّاس من حوله.

وهنا نشير إلى أنّ دراسات أجريت عن علاقة الشّباب بالمخدّرات، أشارت إلى أنّ من أبرز العوامل المؤدية إلى تعاطي المخدّرات هو وقت الفراغ، طبعاً من ضمن عوامل أخرى. ومن هنا، اعتبر الفراغ من أوثق فرص الشّيطان.

فالإسلام يعتبر هذا الوقت، وكلّ وقت، رأسمالاً أودعه الله عند الإنسان ليستثمره في المسؤوليَّات التي دعاه للقيام بها، لا أن يهدره أو يضيّعه، ففي الحديث: "إنَّ عمرك مهر سعادتك، إن أنفذته في طاعة ربّك"، ورأى أنَّ الوقت مسؤوليّة، وسيحاسب عليه الإنسان يوم القيامة، حيث ورد في الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه…".

فالإنسان معنيّ عندما يقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، أن يقدِّم الجواب عن كلّ دقيقة وكلّ ساعة وكلّ زمن ماذا فعل فيه، ففي حسابات الله، لا ينبغي أن يكون هناك زمن لا شغل للإنسان فيه، بل لا بدّ أن يُملأ لكلّ ما فيه خيرٌ للحياة من حوله.

ومن هنا، ورد التّحذير في الحديث: "احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود".

وفي الحديث: "من أفنى عمره في غير ما ينجيه، فقد أضاع مطلبه".

وقد ورد في الحديث أيضاً: "اعلم أنّ الدنيا دار بليّة، لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة، إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة".

وقد ذمَّ الله المبذِّرين، وقال الله سبحانه عنهم: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}. والتَّبذير لا يقف عند صرف المال في غير موقعه، بل يشمل صرف الوقت فيما لا فائدة منه أيضاً. ومع الأسف، لا نأخذ بعين الاعتبار هذه القيمة، والدّليل على ذلك، أنّنا لو رأينا أحداً يبذّر أمواله، لأخذنا على يديه ولمنعناه من ذلك ــ وهذا حسن ــ ولكنّنا لا نجد التعامل نفسه والنّصح ذاته فيما لو رأينا أحداً يصرف وقته وينفقه في غير موضعه الصّحيح. فالوقت لا قيمة له في اعتبار الكثيرين، وما أكثر الأوقات التي تضيع من حساباتنا كأفراد أو كمجتمع!

فوقت الفراغ، إذاً، كأيّ وقت، لا ينبغي أن نتعامل معه كوقت فراغ لا شغل فيه، بل ينبغي أن يتحوّل إلى وقت عمل، فهذا الوقت له دوره وأهميّته، والإنسان بحاجة إليه لتلبية احتياجات قد لا يجد لها متّسعاً في أوقات العمل أو التعلم، وهي التزامات تتعلّق بحاجات جسده أو عقله أو روحه، وتوسعة معارفه الدينية والثقافية، والاهتمام بقضايا مجتمعه، من تواصل مع جيرانه، إلى المساهمة في عمل تطوّعي خيريّ أو إنسانيّ، أو إلى إجراء مراجعة لنفسه وسدّ نقائصها، أو إلى أسفار يقوم بها تزيد من معرفته بهذا العالم.

فحاجات الإنسان وأبعاد شخصيّته متعدّدة، ولا بدّ أن تلبَّى جميعها، ولا ينبغي أن يغفل عن أيّ منها، والوقت الذي يُسمَّى وقت فراغ، هو فرصة، وهو منحة على الإنسان أن يستفيد منها لسدّ هذه الحاجات أو الأبعاد.

تحذير وتنبيه

ومن هنا، حذَّرت الأحاديث الشّريفة من عدم الأخذ بهذه المسؤوليّات، حيث ورد في الحديث: "إنّ الله ليبغض العبد النوّام، إنّ الله ليبغض العبد الفارغ". وفي الحديث: "إنَّ الله يبغض الصّحيح الفارغ، لا في شغل الدّنيا، ولا في شغل الآخرة".

وفي الحديث: "أشدّ النّاس حساباً يوم القيامة، المكفيّ الفارغ".

وقد ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين (ع): "اللَّهمَّ اشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ، فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ، فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلَامَةٍ، لَا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلَا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا".

إذاً، في المبدأ، ليس هناك أوقات فراغ ليس فيها أيّ شغل، فمن مسؤوليّة الإنسان عندما ينتهي من عمل أن يبدأ بعمل آخر. وإلى هذا، دعا الله نبيّه (ص)، فقال له: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. فالحياة ساحة عمل من بدايتها إلى نهايتها، ولا فراغ فيها، ولكن هذا لا يعني أن لا يكون هناك وقت للرّاحة أو للتنزّه أو الرّحلات، فهذه مطلوبة، لكن بشرط أن تكون عوناً على المسؤوليّات الملقاة على عاتق الإنسان، لا على حسابها.

 

التّخطيط للوقت

ومن هنا أيّها الأحبّة، لا بدّ من التخطيط لوقت العطلة التي أقبلنا عليها أو نحن مقبلون عليها، بأن نخطّط ماذا نفعل خلالها ساعةً بساعة، ويوماً بيوم، فبدون التخطيط، لن نستفيد من هذا الوقت، بل قد يضيع ولن يكون بذي فائدة، وهذا يتحقَّق عندما يضع كلّ واحد برنامجاً محدَّداً لهذا الوقت، يلحظ فيه احتياجاته على كلّ المستويات، وكلٌّ له احتياجاته، فنعدّ برنامجاً للتّرفيه وللمطالعة المتنوّعة، ووقتاً للجانب الرّوحيّ والإيمانيّ، ووقتاً لتنمية العلاقات الاجتماعيّة ومع الأرحام، ووقتاً لتعلّم بعض المهارات ولحفظ القرآن وللتّعبير عن الهوايات، وغير ذلك الكثير.

أيّها الأحبّة: إنَّ ما يؤسَف له، أن نجد أغلب الناس لا يحسنون الاستفادة من أوقات الفراغ، فلا تساهم هذه الأوقات في تعزيز أدوارهم وحضورهم، وهذا ما نبَّه له رسول الله (ص)، عندما قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس: الصحّة والفراغ"، فهم يتعاملون مع أوقات الفراغ وكأنها خارج جدول أعمالهم ومسؤوليّاتهم.

إنّ المجتمع الواعي والمسؤول، والذي يريد التقدّم والتطوّر ومسابقة بقية الأمم، هو من يحسن استثمار وقته، ويراه أهمّ رأسمال ينبغي الحفاظ عليه والاستفادة منه، لتطويره ورفع مستواه في كافّة الميادين الدينية والثقافية والاجتماعيّة والسياسيّة والرياضيّة، وفي الميادين العمليّة، ومن المسؤوليّة أن يشارك المجتمع، كلّ المجتمع، بهذه النّشاطات وأن يعزِّزها.

وهنا لا بدَّ أن ننوّه بكلّ الجهود التي تبذل من قبل أفراد ومؤسّسات وجمعيّات وجهات من أجل إقامة دورات ثقافيّة ودينيّة ومهنيّة ورياضيّة وترفيهيّة، لتساهم في استثمار أوقاتنا وأوقات أجيالنا في الاتجاه الصّحيح، ونريدها أن تشمل كلّ فئات المجتمع وتنوّعات أعماره.

إنّ أكبر خسارة، عندما يقف الإنسان بين يدي الله يتحسّر على أيام خلت فرَّط هو بها، وقد كان عليّ (ع) يقول عنها: "فيا لها حسرةً على كلّ ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشّقوة!".

وفي ذلك قوله سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

ولذلك، فلندعُ الله سبحانه: "وَاجْعَلْني مِمَّنْ أَطَلْتَ عُمْرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ، وَأَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَرَضيتَ عَنْهُ وَأَحْيَيْتَهُ حَياةً طَيِّبَةً في أَدْوَمِ السُّرُورِ، وَأَسْبَغِ الْكَرامَةِ، وَأَتَمِّ الْعَيْشِ".

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين واليه مالك الأشتر، عندما قال له: "ولا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ (الإحسان والبذل) ويَعِدُكَ الْفَقْرَ (يخوفك من الفقر)، ولا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، ولا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ… إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً (خاصّتك)، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ…".

لقد أراد الإمام عليّ (ع) بذلك لكلِّ حاكم ومسؤول، أن لا يشاور بخيلاً ولا جباناً ولا حريصاً، وأن يأخذ بعين الاعتبار تاريخ من يتَّخذه مساعداً أو يوليه مسؤوليّة، فلا يستعين بمَن كان عوناً لظالم أو مشاركاً في فساد، بل يتَّخذ أصحاب السّمعة الحسنة والتاريخ النظيف، ومن تركوا أثراً طيباً في قلوب الناس، فهؤلاء أخفّ مؤونةً وأحسن معونةً، وهم خير للموقع الّذي يستلمونه.

هذا ما يحتاجه كلّ حاكم، وبه نستطيع أن نجعل واقعنا ومستقبلنا أفضل، وأن نواجه التحدّيات.

التَّعطيل لا يحلّ الخلافات!

والبداية من لبنان، الَّذي، ومع الأسف، لم تفلح فيه كلّ الجهود التي جرت في الأسبوع الماضي في إيجاد حلٍّ يُنهي المفاعيل التي تركتها حادثة قبرشمون على البلد أو اجتماعات مجلس الوزراء، في ظلِّ إصرار الأطراف المعنيّين بهذه القضية على مواقفهم، بين من يعطيها بعداً خطيراً يستدعي تحويلها إلى المجلس العدلي، ومن يضعها في إطار الحادث العابر، ما يدعو إلى تحويلها إلى القضاء العاديّ.

ونحن في هذا المجال، لا نريد التّوهين من خطورة هذه القضيّة، ولا أن تمرّ مرور الكرام، فنحن لانزال على موقفنا من ضرورة معالجة أسبابها، وإعطائها بعدها القضائي الّذي تستحقّه، حتى لا تتكرّر هذه الجريمة، لكنّنا في الوقت نفسه، نعيد التأكيد على القوى السياسية، بعدم اعتماد التعطيل كوسيلة لعلاج الخلافات مهما كبرت، فلا بدّ من أن تعالج بعيداً عن الإضرار بمصالح المواطنين، فلا يحقّ لأيّ مسؤول أن يضرّ بمصالحهم، والكلّ يعرف مدى التداعيات الخطيرة التي يتركها هذا التعطيل على صعيد الملفّات التي تنتظر انعقاد مجلس الوزراء، سواء منها على المستوى الاقتصادي والمالي الَّذي لايزال يضغط على كاهل اللّبنانيّين، حيث ينتظر اللّبنانيّون موازنة 2020، بعد أن أصبح واضحاً عدم تلبية موازنة 2019 لطموحاتهم، أو على صعيد الخدمات، حيث تطفو من جديد إلى الواجهة أزمة الكهرباء في التقنين المتزايد في ساعات التغذية، أو أزمة النفايات بكلّ تداعياتها، بعد عدم قدرة العديد من المكبّات على الاستيعاب، أو على صعيد مواجهة ما ينتظر البلد من تحدّيات واستحقاقات، والتي يخشى أن تترك تداعياتها على لبنان الذي – بالطّبع – يتأثّر بأيّ توتّر إقليمي أو دولي.

لقد أصبح واضحاً للجميع أنَّ مشكلات هذا البلد لا يمكن أن تعالج بالغلبة أو بالكسر والإسقاط، بل بالتوافق الذي يستدعي تقديم التنازلات المتبادلة، وقد جرّب هذا البلد سياسة العزل والإقصاء والتهميش لهذا الفريق أو ذاك، فما زاد ذلك الفريقَ إلا قوّةً، وما زاد البلد إلا شرخاً وانقساماً وسقوطاً.

ادّعاء.. وأزمة

وفي هذا الوقت، يأتي ادّعاء المندوب الصّهيونيّ في الأمم المتّحدة، باستخدام الحدود البريّة والموانئ والمطارات اللبنانيّة في تهريب الأسلحة، والذي تنفيه الجهات الرسمية اللبنانيّة، مما لا نرى فيه إلا مزيداً من الضّغط على الدولة اللّبنانيّة، ومحاولة لإيجاد شرخٍ داخليّ بين المقاومة واللّبنانيّين حول هذا الأمر، ما يستدعي وعياً من خطط هذا العدوّ واستهدافاته.

وفي الوقت نفسه، تستمرّ الأزمة التي نشأت بفعل القرارات المتّصلة بالعمالة الفلسطينيّة، والتي كنا ننتظر أن تُعالَج سريعاً، ورأينا حرصاً بارزاً على ذلك. إنَّنا نريد لهذا الملفّ أن يعالج بعيداً عن أية حسابات طائفية اعتدناها في هذا البلد، أو عن التوظيفات السياسية للاعتراضات المحقّة؛ التوظيفات التي لا تحمل خيراً للبنان ولا للفلسطينيّين، وأن يبقى ببعده الإنساني والأخويّ، وأن تؤخذ المصلحة الوطنيّة وكرامة الشعب الفلسطيني في الاعتبار.

العدوّ يستكمل مخطّطه

وفي مجالٍ آخر، يواصل كيان العدوّ سعيه لتصفية الوجود الفلسطيني في القدس وتهديد محيطها بالاستيطان، مستغلاً الانشغال العربي بالمشاكل الداخلية، ولهاث الكثيرين للتطبيع معه، ليقوم بأكبر عمليّة هدم لمنازل الفلسطينيين منذ 50 عاماً، غير عابئ بما صدر من تحذيرات واستنكارات دوليّة، بل إنّه مصرّ على تقطيع أوصال المناطق الفلسطينيَّة، وعزل القدس عن الضفة الغربيَّة، واستكمال مخطّطه الاستيطاني حتى النهاية.

إنّنا نشعر بخطورة أيِّ تطبيعٍ مع هذا العدوّ، حتى لو أخذ بعداً فرديّاً، كما يحلو للبعض أن يعبِّر، فلا ينبغي أن يُكافأ العدوّ الذي يستبيح الأرض والمقدَّسات والإنسان بذلك. ومن هنا، ندعو القيادات الفلسطينيّة إلى استكمال ما بدأته بتعزيز الموقف الواحد الموحَّد في مواجهة إجراءات العدوّ وصفقة القرن، ليكون الموقف نفسه مع إعلان البدء بالمرحلة الثّانية من محاولة تنفيذ هذه الصفقة، ومع إعلان السفير الأميركي في كيان العدوّ بكلّ صلافة أن حلّ القضيّة الفلسطينيّة لا يمكن أن يتم من خلال القرارات الدوليّة.

استهداف إيران!

وفي مجالٍ آخر، يستمرّ التصعيد في المنطقة بفعل الحصار الظالم الذي لايزال يمارس على الشعب الإيراني في لقمة عيشه وأبسط احتياجاته، والذي من الطبيعي أن يترك تداعياته على أمن المنطقة واستقرارها، فلن تقبل إيران بأن يسوَّق نفط الآخرين ولا يسوَّق نفطها، وقد أثبتت جدّيتها وعدم رضوخها للمنطق الذي يراد أن يفرض عليها.

إنَّ علاج ما يجري في منطقة الخليج لن يكون بالمزيد من استدعاء الأساطيل والبوارج الحربيَّة، بقدر ما يكون بعلاج سياسيّ يضمن حقَّ الشعب الإيراني بثرواته وسيادته، والّذي سيساهم في علاج الكثير من التعقيدات الموجودة في المنطقة.

 

 

Leave A Reply