من علامات الايمان: الصبر على البلاء

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 
الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} صدق الله العظيم.

 

نزلت هذه الآية في الوقت الذي كان فيه المسلمون يعانون الحروب والحصار والتجويع والشدة من قريش والتي كانت تهدف إلى اجتثاث الإسلام من جذوره وأن لا يبقى له أثر بعد عين..

 

وقد أشار القرآن الكريم إلى واحدة من هذه المعاناة التي عاشها المسلمون في معركة الخندق عندما تكالبت قوى الشرك عليهم وجاءتهم من كل مكان تريد اقتلاعهم من المدينة: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}..

 

لقد أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن يذكر المؤمنين بحقيقتين لا ينبغي أن تغيب عن بالهم، الحقيقة الأولى وهي أن الجنة التي وعدهم الله بها ويسعون إليها لن يكون الطريق إليها معبداً ومفروشاً بالورود والرياحين، هو مليء بالأشواك ويحتاج بلوغه إلى صبر وتحمل وإلى معاناة.. فقد ورد في الحديث: "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة."..

 

وقد ورد في الحديث: "ومن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد؛ فقد استهزأ بنفسه"..

وقد قال علي(ع) للذين كانوا يعتقدون أنه بقليل من العمل وبدون تعب وجهد وتحمل المعاناة نستطيع نيل الجنة وبلوغها: "أبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده، هيهات لا يخدع اللَّه عن جنته ولا تنال مرضاته إلا بطاعته"..

 

أما الحقيقة الثانية وهي، أن أي نصر والذي وعد الله به المؤمنين لن يتحقق إلا بعد يخضعهم الله سبحانه لامتحان واختبار شديدين، يظهرون فيه صبرهم وثباتهم وإيمانهم.. والذي أشار إليه الله بقوله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.. إذن سنة الابتلاء والامتحان هي سنة من سنن الله التي جرت في التاريخ وتجري في الحاضر، وهي التي أشار إليها الله سبحانه عندما قال: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت/1-2-3]..

 

فالله سبحانه هو لن يكتفي من العبد أن يعلن إيمانه أو أن يمارس طقوس هذا الإيمان وعباداته بل هو عرضة لامتحانات بها تظهر حقيقة هذا الإيمان عنده وعلى أساسها يتميز الصادق في إيمانه من الكاذب والجاد من غير الجاد والطيب من الخبيث.

 

والفتنة هنا يقصد بها هنا الامتحان ولكنه ليس أي امتحان هو الامتحان الصعب الذي يهز أعماق الإنسان ويزلزل كيانه.. وهذا يعرف من أصل هذه الكلمة، فالفتنة تعني في أساسها صهر الذهب بالنار لينقى بما علق به.. فالفتنة عندما تحصل للإنسان تصهره لتخرج جودته وأصالته وتزيل كل الشوائب التي علقت في نفسه..

 

وفي آية أخرى يتحدث الله سبحانه عن مظهر من مظاهر هذا الامتحان، وهو الذي يحصل في ساحة الحرب وعند القتال.. فالحرب بمجرياتها وتضحياتها تميز الناس من هم المجاهدون والصابرون منهم ومن هم المتخاذلون والجبناء.. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد/31]

 

وقد أشار الحديث الوارد عن الإمام علي(ع) إلى حتمية هذا الامتحان وآثاره عندما قال: "لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سباقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا".

 

ومن هنا فإنا لا نفهم البلاء كما يتحدث البعض أنه نقمة أو عذاب، بقدر ما نراه باباً لإظهار جوهر النفوس ومدى صلابة الإيمان فيها..

 

نعم على الإنسان كفرد وعلى المجتمع أن يعد نفسه للنجاح في امتحانات الحياة وبلاءاتها، فلا يخضع لضغوط الداخل، ضغوط الشهوات والمصالح والأطماع والعصبيات والتي يختفي الشيطان خلفها، ولا يستجيب لضغوط الخارج، ضغوط الأقارب والأصدقاء أو المجتمع أو وسائل الإعلام والتواصل أو الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية والنفسية كما نشهده في واقعنا الراهن.

 

فالواعون هم من يحولون ابتلاءات الحياة وضغوطها إلى فرصة لهم يحققون فيها الموقع عند الله عندما يقول: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}..

وقد وعد الله المؤمنين الصابرين الثابتين الذين لا يهتز إيمانهم بفعل الضغوط.. بالنصر في مواجهة التحديات: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.. هو لن يمنح ذلك للمتراخين والمهزومين والساقطين..

 

ويكفي حتى نثبت هذه الحقيقة في نفوسنا هو أن نستعيد تاريخ الرسل والأنبياء وكيف أحاطهم الله برعايته عندما خاضوا الصراع وواجهوا التحديات هو لم يخذلهم ولم يخذل المؤمنين معهم…

 

فقد تحدث القرآن الكريم عن رعاية النبي نوح(ع) بعد معاناته الطويلة مع قومه التي استمرت تسعمائة وخمسين سنة، فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ*وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ}[الصافات/75-76-7].

وقد أشار إلى رعاية الله لنبيه إبراهيم(ع) بعدما تحدى وحطم الأصنام التي كان يعبدها قومه حتى حكموا عليه بالقتل والحرب بالنار، فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت/24].

 

وكان نصره للنبي موسى(ع) عندما لاحقه فرعون وكان يصل إليه ومن معه من بني إسرائيل قال الله سبحانه: {لَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ *قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[الشعراء/61-67]..

 

وامتدت حماية الله وتعزيزه السيد المسيح(ع) عندما منع اليهود من أن ينالوا منه وحماه وحفظه ورفعه الله إليه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ}[النساء/157]، وبدت هذه الرعاية للنبي محمد(ص) في كل مراحل دعوته.. وقد أشار الله إلى هذا التأييد له عندما لاحقه المشركون إلى حيث كان في غار ثور مع صاحبه، وقد وصلوا إلى فم الغار حيث يقول سبحانه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة/40].

 

وفي الفتح الذي تحقق له بعد كل الحروب التي خاضتها قريش واليهود في مواجهة دعوته حيث يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}..

وهذه الرعاية هي شاملة تحيط بكل عباده الذين أخلصوا له ويخلصون له ولم يخذلوا رسالة دينه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات/171-173].

 

إن هذه الرعاية الإلهية وهذا الوعد لعباده بالفرج والنصر والتأييد نحن أحوج ما نكون إلى وعيه واستحضاره في مواجهة كل التحديات التي تهددنا، حتى لا ننهزم نفسياً أمام التهاويل والوعد والوعيد والتخويف وحتى تبقى لدينا الثقة بالله ولا يتسلل الشك في صدق وعد الله عندما يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، أو قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.. فلا نصاب باليأس والإحباط ونشعر بالتعب..

 

وهذا الشعور الذي يجب أن نعيشه في كل المراحل، وخصوصاً حين تشتد التحديات ويطول أمدها، يحتاج منا إلى ثبات على الخط والاستقامة فيه.. أن نثبت فلا نتراجع وأن نستقيم فلا نضيع البوصلة ولا نتيه عن الطريق في كلماتنا وفي مواقعنا..

 

وإلى أن نستعين بما دعا الله إليه إلى الاستقامة به عندما قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}.. طبعاً الصلاة الخاشعة الواعية هي مصدر قوتنا وعزتنا..

 

ويبقى أن نرى في الابتلاءات التي تنصب أمامنا نعمة، لا أن نرى فيها سوى الألم والمشقات.. فقد ورد في الحديث: "لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء""..

جعلنا الله من الثابتين والمستقيمين الذين لا تحرفهم نفسهم الأمارة بالسوء ولا شياطين الجن والإنس ولا كل صعوبات الحياة وتحدياتها..

 

الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصيكم نفسي بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى ونحن ندخل في شهر صفر، أن ندخله دخول المتفائلين، فالتفاؤل سمة حياتنا، فنحن دائماً متفائلون بالله، وأن لا ندخله دخول الخائفين منه، المتشائمين مما قد يحدث فيه من ابتلاءات أو سوء.

 

ولهذا، نحرص على أن نقرن ذكر هذا الشهر بالخير والنّصر، فنقول عنه إنه صفر الخير وصفر المظفّر، لدفع ما رسخ في الأذهان والنفوس من أنه شهر نحس.

 

وإذا كان هناك من يشير إلى وجود أحاديث عن تشاؤم يحلّ بحلوله أو في غيره من الأيام التي تسمى بأيام نحسات، فإننا نستطيع القول أن لا أساس لها، ويكفي في ذلك حديث: "من ردّته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك"، و"لا تعادوا الأيام فتعاديكم".

 

وإذا كان البعض يبرّر التشاؤم منه، بأنَّ فيه مناسبات حزينة مثل أربعين الإمام الحسين (ع) ووفاة رسول الله (ص)، فهذا لا يبرر أن يجعل الشهر نحساً، وإلا لصارت كل الأشهر والأيام نحسة، إذ ما من يوم وما من شهر إلا وتوفي فيه نبيّ أو وليّ.. ثم هناك في هذا الشهر أيام فرح وسرور، منها مناسبة ولادة الإمام الكاظم (ع)، وزواج رسول الله (ص) من خديجة، وزواج عليّ (ع) من الزهراء.

 

أما إن كان هناك أدعية أو دعوات إلى الصدقة، فهي لا تريد أن تؤكّد صحّة التشاؤم، بل معالجة ما يدخل إلى النفوس نتيجة تربية أو توجيه أو فهم خاطئ للدين ونصوصه، وهذا ما يدعونا إلى أن لا نخضع لأيِّ فكرة سلبية أو نرتب الأثر عليها، حتى نتثبت منها ولا يخدعنا أحد.

 

هذا ما نريده في الدين، وهو ما نريده في السياسة، وفي كل مكان يُدّس فيه السم بالعسل. وبذلك، نكون أكثر وعياً وقدرةً على مواجهة التحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الذي شهد في الأيام الماضية جلسة نيابية عامة عنوانها البحث في موازنة العام 2017. ونحن في هذا المجال، في الوقت الذي نلحظ إيجابية تسجّل للحكومة وللمجلس النيابي في إقرار موازنة للبلد بعد اثني عشر عاماً من غيابها عن المشهد، نرى ضرورة استمرارها، نظراً إلى دورها في تحقيق الانتظام المالي، فقد كشفت المناقشات التي جرت على الهواء الصورة القاتمة التي تلفّ المشهد المالي والاقتصادي، الذي ينعكس سلباً على كل الميادين الأخرى، ويؤدي إلى زيادة الإحباط لدى الناس وهم يشاهدون عدم مبالاة ممثليهم بحضور جلسات هي في غاية الأهمية لما ينبغي أن يتداول فيها.

 

كما كشفت المناقشات أيضاً مدى الخلل الذي برز في الموازنة بين الواردات، والمداخيل، والصرف، وارتفاع نسب العجز في الموازنة، وانعدام نسبة النمو، والحديث الموثق عن مواطن الهدر، والفساد، والتهرب الضريبيّ، والمحاصصات، وعدم معرفة مصارف المليارات الإحدى عشرة، حيث يكثر الحديث عن تسويات أدت إلى إخراجها من التداول.

 

ومع الأسف، لم يستمع اللبنانيون إلى مواقف جدية أو إلى رؤية أو حلول للأزمات الاقتصادية العاصفة. وعلى الأقل، هم لم يلحظوا أي إعادة نظر في السياسة التي أدت إلى تدهور المالية العامة، حيث اكتفى النواب، أو لنقل أغلبهم، من أجل الدقة، بخطابات شعبوية في هذا الزمن الانتخابي أو بالاكتفاء بإدانة الفساد.

 

ومن الغريب هنا أن يستمع اللبنانيون إلى انتقادات للدولة وللحكومة من ممثلي هذه الدولة والحكومة، في الوقت الذي ينتظرون منهم أن يبينوا لهم الإنجازات التي حققوها أو المشاريع التي يقومون بها.

 

إنَّ من الطّبيعيّ أن تنتقد المعارضة الَّتي لا تمثيل لها في الحكومة، ولكن من غير الطبيعي أن يصدر ذلك عمن يفترض بهم أن يكونوا موالاة ومشاركين في قراراتها، ونحن نعرف أنَّ من يتواجدون في الحكومة ليسوا نكرة فيها، بل هم أصحاب قرار، بعدما أصبح واضحاً أن القرارات بأغلبيتها تؤخذ بالتوافق والمشاريع بالمحاصصة.

 

إنّنا أمام هذا الواقع الاقتصادي والمالي الخطير، ندعو اللبنانيين إلى أن يكونوا أمناء على هذا البلد، وأن يكونوا رقباء فيه لا أن يكونوا على هامشه.

 

إنّ من حقّ الأجيال القادمة علينا، إن لم نقل الأجيال الحالية، أن نرفع الصَّوت عالياً في مواجهة كلِّ من يستبيح الأمن الماليّ والاجتماعيّ أو يدير ظهره للفساد والإفساد.

 

ولا يعتبرن أحد أن لا صوت له، فكلٌّ له صوته، ولا بدّ من أن تنضم الأصوات الواعية لتشكّل رأياً عاماً ضاغطاً الآن، وبالطبع عندما يراد لنا أن نختار ممثلينا في المجلس النيابيّ.

 

في الوقت نفسه، وعلى وقع الجلسات الَّتي جرت، لا بدَّ من أن يتحرك القضاء والجهات الرقابية للقيام بدورها في متابعة قضايا الفساد والهدر للمال العام، فلا ينبغي أن يضيع الحديث عنها في أدراج المجلس النيابي، وأن تبقى تسجيلاً للنقاط أو صرخةً في واد.

 

ونبقى في لبنان، لنسجّل ارتفاعاً في منسوب الجريمة فيه، نخشى أن لا تكون آخرها الجريمة المروعة في زقاق البلاط، التي نفَّذها فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وهو ما يشير إلى حجم المشاكل التربوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وضعف الوازع الديني، وانعدام الخوف من العقوبة الرادعة.

 

إننا نخشى في ظل تمادي نسب الجريمة أن يعنون لبنان ببلد الجريمة. ومعالجة هذا الواقع تَستدعي استنفاراً تربوياً واجتماعياً وإعلامياً تقوم به الأسرة والمدرسة ودور العبادة، لدراسة أسباب هذه المشكلة ومعالجتها، فضلاً عن تشديد دور الدولة في تطبيق العقوبة الرادعة.

 

العراق

وبالانتقال إلى ما يجري في العراق، فإننا نهنئ الحكومة العراقية على الخطوة الجريئة التي اتخذتها في إعادة الوحدة إلى البلاد، والتي من الطبيعي أن تستتبع بحوار جادّ وموضوعيّ يحفظ للعراق وحدته، ويساهم في تأمين احتياجات ومتطلبات أي مكون من مكونات الشعب العراقي، فلا بد من أن يحصل الجميع على حقوقهم، بعيداً عن سياسة ابن الست وابن الجارية.

 

إنَّنا نعيد التأكيد على العراقيين أن يكونوا أمناء على وحدة بلدهم، فالعراق لا يقوم إلا بكل مكوناته وطوائفه وأديانه ومذاهبه وأعراقه.

 

الارهاب لا دين له 

وأخيراً، لا بدَّ من أن ندين، وبشدة، التفجير الوحشي والدامي الذي حصل في الصومال، وأودى بحياة المئات، وخلّف الكثير من الجرحى، والذي لم تتبناه جهة بعينها، ولكنه يشير إلى هذا المنطق الإجرامي الذي لا يأخذ بالاعتبار أي قيم دينية أو إنسانية.

 

والحدث الآخر هو الهجوم الذي نفذته جهات متطرفة عنونت نفسها بعنوان المسيحية على مسجد في بلدة كيمبي في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث قتل أكثر من خمسة وعشرين مسلماً، وبدم بارد.

 

إنّنا نؤكد في هذا المجال، أنَّ الإجرام لا دين له سوى الإجرام، سواء صدر عن مسلم أو مسيحي، وأن رسالة الأديان ستبقى رسالة محبّة وعدل، ونشدّد على العلماء المسلمين والمسيحيين أن يتكاتفوا في مواجهة أية ظاهرة تسيء إلى قيمهم، تحت أي عنوان عنونت نفسها.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة  السيد علي فضل الله

التاريخ : 30محرم 1438هـ الموافق:20تشرين الأول 2017م

Leave A Reply