مواجهة النبي(ص) لحصار قريش: دروس وعبر

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} صدق الله العظيم.

 

واجه رسول الله(ص) منذ انطلاقة دعوته كل أساليب الرفض والمواجهة التي بدأت بالتشكيك والتأليب وبالايذاء المعنوي فتارة ساحر وتارة مجنون وصاحب اساطير وقد بلغت مواجهة قريش هذه لحد الإيذاء الجسدي عندما كان يرمى بالحجارة وتوضع الأشواك في طريقه، والتعرض لأصحابه والتنكيل بهم.. حتى استشهد بعضهم كما حصل لياسر وسمية..

 

وفي السنة السابعة للبعثة النبوية كان قد طفح الكيل بالنسبة لقريش فأخذوا قرارا حاسما بمعاقبة النبي وعشيرته بني هاشم وأصحابه بأن لا يبيعوهم ولا يشتروا منهم ولا يقيمون معهم اي علاقة حتى الزواج وان لا تتداخل بيوتهم ولا سكناهم فقرر ابو طالب عم النبي ان يخرجوا من مكة وان يستقروا في أحد شعابها الذي يسمى بشعب ابي طالب.

 

ووقع رجالاتها وثيقة المقاطعة وعلقوها على جدار الكعبة لأهميتها بالنسبة إليهم وليدخل بعدها الحصار حيز التنفيذ. وهنا يمكننا القول إن الرسالة الاسلامية دخلت في مرحلة كانت محطة مركزية في تاريخها وكانت ضمن خط تصاعدي في المواجهة مع قريش وحلفائها أنذاك، وقد تكون هي المفصلية بين مراحل المواجهة الكثيرة لسبب وهو أن قريشاً ولضعف  حجتها و قلة حيلتها واضطرابها اضطرت أن تضحي بكل الثقل المعنوي الذي كانت تملكه بين القبائل يومها.

 

 فعناصر قوة قريش لم تكن في القوة عسكرية بالمعنى الكلاسيكي ولا حتى بمقاييس القبائل العربية و لم تكن تملك مقومات إنتاج بطبيعة الحال، لكن واقع الأمر هو أنها استطاعت أن تصنع لنفسها مركزاً عن طريق تسييرها لطرق التجارة الحرة و ايضا من كونها كانت تدير حركة الحج والعمرة و كانت تبذل العطاء للحجيج والوافدين الى مكة.

 

عندما وصل الأمر بقريش إلى وثيقة المقاطعة تلك، يعني عملياً أنها ضحت بهاذين الثقلين المعنويين، عندما منعت التعامل التجاري عن رسول الله ومن معه من المحاصَرين.. وبتسخيرها  البيت الحرام دعائيا و إعلاميا كعامل ضغط لمصلحتها الذاتية أفقدها رصيدها المعنوي والروحي بأنها راعية البيت وبأنها أهل الجود والكرم فيما هي تجوِّع وتمنع وتحاصر اهلها ومن هم منها.

 

لقد كان ذلك عملياً دليل إفلاس و بداية النهاية لقريش لأنها استخدمت اسلوبا غير مبرر وكان مستغربا ومستهجنا بين القبائل والقادمين الى مكة كونها لم تستخدم هذا السلاح في حال حرب بل من قبيل تثبيت سلطتها وجبروتها… لقد استمر الحصار ثلاث سنوات مر فيها على المسلمين  ايام كانوا يأكلون فيها اوراق الشجر ويقتات واحدهم على تمرة واحدة في اليوم … 

 

وأما لماذا كان الحصار فهو كما ذكرنا غطرسة وتجبر وعجز امام رسالة، هزت قناعاتها وكل تاريخها، فتكونت هناك لدى قريش حالة من الهلع والفزع .. فالمسلمون اولا استطاعوا بأسلوبهم أن ينفذوا إلى الخارج ويقنعوا ملك الحبشة بصوابية دعوتهم و ثانيا استطاعوا الدخول إلى بيوت شخصيات قريش فأسلم العديد من اولادهم ونسائهم ومواليهم .

 

 وهنا تجدر الاشارة الى ان المحاصرين في شعب ابي طالب لم يكونوا مسلمين فحسب، فلم يكن كل بني هاشم مسلمين انذاك، و لكن شبكة العلاقات التي كانت تربط النبي الاكرم بشخصه و صفاته كانت اساسا صلبا ساهم في الصمود الى ان انهار الحصار وفشل ..

 

 و هنا نوجز أهم أسباب هذا الفشل:

 

1- الصبر والثبات و الاحساس بالعزة فلم يتذلل المحاصرون لزعماء قريش، بل على العكس، أخذوا من الحصار منعة و توحداً رغم الاختلاف العقائدي مما شكل ثقلا أخلاقيا في التفاوض مع قريش لاحقاً.

 

2- أما السبب الثاني لفشل الحصار فتمثّل في الإعلام، الذي رغم سطوة قريش و أجهزتها استطاع أن ينفذ إلى الخارج فكان أن سقط الحصار بفعل البذرة التي كان يتركها أسلوب رسول الله واخلاقياته الرفيعة  و تعامل المسلمين الهادئ وقوة منطقهم، مما اثر ذلك في العديد من رجالات قريش الذين شكلوا بدورهم اداة ضغط اعلامية في مواجهة الحصار، الى ان تخلت قريش مرغمة عنه.

 

3- السبب الثالث كان في تكيف المحاصرين وحسن تدبيرهم والبحث عن منافذ للتخفيف من اثار هذا الحصار الاقتصادي .. لم يستسلموا بل سعوا واخذوا بالأسباب المادية و العملانية،..  فكانت علاقات ونفوذ ابي طالب باباً استفاد منه المحاصرون لفتح المنافذ والتخفيف من الرقابة. وكان مال خديجة الذي عوض من تدني قدرة الناس الشرائية في ظل أسعار استغلالية مرتفعة. (ومن هنا ما يذكر ان الاسلام الأول بُني على مال خديجة وسيف علي).

 

إذاً، فُكَّ الحصار عن المسلمين بعد أن عمق هذا البلاء الإيمان والثبات في نفوسهم ، فخرجوا أقوى وواصلوا مسيرتهم مع رسول الله في الدعوة وقد استفادوا من حالة التعاطف التي ولدها الحصار تجاههم،  فكان بالنسبة اليهم محطة عزة واباء وفرح بعد ان تراجعت قريش عن قرارها وشهدوا بأم أعينهم وثيقة المقاطعة المعلقة على جدار الكعبة تأكلها الارضة (حشرات النمل الابيض) ولا يبقى منها أثر الا باسمك اللهم..

 

 نعم كان انتهاء الحصار محطة فرح لم تكتمل بل نغصها فقد النبي لسنده خديجة التي عانت كثيراً خلال هذا الحصار و أثر سلباً في صحتها التي تدهورت وتوفيت بعده .. وحزن عليها الرسول ومعه المسلمون حزنا شديداً ، تلاها في ذلك العام حزن آخر هو فقد السند الآخر، عمه ابو طالب؛ من رباه صغيرا وحماه كبيراً.. وهاتان الحادثتان المؤلمتان كانتا سببا كافيا في وصف ذلك العام بعام الحزن للدلالة على شدة التأثر العاطفي بفقدهما.

 

 لم تنته معاناة النبي مع قريش فخرج الى الطائف  ولاحقته عيون قريش الى هناك، فعاد الى مكة وصبر وصبر معه المسلمون حتى فتح الله له ابواب يثرب مدينته المنورة، ومن هناك صار للمواجهة مع قريش طريق آخر باسلوب آخر، اسلوب الند للند إلى ان فتح الله على يديه مكة وراح الناس يدخلون في دين الله افواجا ….

 

ايها الاحبة .. تعالوا نتعلم من سيرة الرسول ومحطات المصاعب والازمات فيها، ان نحوِّل تلك الابتلاءات إلى مدرسة لصناعة المجد ومعهد للتربية والتزكية، و فرصة لإظهار جوهر ما في النفوس من طاقات وقدرات.. بها يظهر عمق الإيمان وصلابته وبها تتحقق الاهداف..

 

تعالوا نستلهم من سيرة الرسول ومحطات الرسالة دروس توحيد الصفوف و ترك الأثر الطيب و الاعلام الذكي الذي لا بد ولو بعد حين أن ينفذ ويؤثر..

 

 وتعالوا نتعلم دروس الاكتفاء الذاتي و حسن التدبير.. والاهم من ذلك ان نتعلم دروس العزة والثبات وعدم الارتهان والعيش بكرامة انسانية حرة .. ونختم بقول الحكمة لعلي عليه السلام يتجلى فيه منهجاً وهدياً اجتماعياً واقتصاديا وانسانيا هو صالح للأفراد كما للجماعات والاوطان .. حيث ينصح بقوله:

 “استغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ”  و"لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ خلقَكَ اللهُ حُرّاً. وآخر دعوانا الحمدلله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، الَّتي إن وعيناها وعشناها، فستساهم في ضبط انفعالاتنا وعصبياتنا وتوتراتنا المتأجّجة، فمعها سنشعر بأنَّ الله حاضر عند كلّ كلمة نقولها أو نكتبها، وعند كلّ موقف نتخذه، فهو يراقب وسيحاسب ويجازي، وعندها، لن نتكلَّم إلا خيراً، ولن ننطق إلا عدلاً، لأننا نستهدي الله في مواقفنا.

وبذلك سنوفر على أنفسنا ومجتمعنا ما يعانيه بسبب تداعيات ما نكتبه وما نقوله وما نحكم به، ولن نكون خشبة في تيار أحد، وعندها فقط سنكون جديرين بتأييد الله ونصره، فهو لن ينصر المتوترين والانفعاليين، أو الذين لا يحسبون العواقب ويتدبّرون النتائج، بل سينصر الواقعيين والمخططين الذين ينظرون إلى الغد، ولا يكونون أسرى اللحظة أو المصلحة. بهذه الروح، تتحقّق انتصارات التاريخ، وبها نواجه التّحدّيات…

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي دخل في أتون الأزمة الناتجة من تداعيات قرارات غير مسبوقة من عدد من الدّول الخليجيّة، تحت عنوان خروج لبنان عن الإجماع العربيّ، والَّتي أصبح من الواضح أنها ستترك أثرها في استقرار هذا البلد، وستساهم في مزيد من الانقسام الدّاخليّ، حتى إنها باتت تهدّد عناصر الأمان الموجودة فيه، والمتمثّلة بالحوار الداخليّ والحكومة…

لقد بات واضحاً أن الضّغوط التي يتعرّض لها لبنان من بعض الدول العربيّة، سببها السياسة الخارجية التي انتهجها مؤخراً. وبمعنى آخر، إنّ هذه الدول تريد له أن يتخّذ مواقف أكثر وضوحاً وانسجاماً معها في مقاربتها للقضايا العربيّة، ما يحمل محاذير عديدة، أبرزها إدخال لبنان في إطار صراع المحاور الجاري في المنطقة.

 

ولكن كما هو واضح لهذه الدّول، فإنَّ هذه المطالب غير واقعيَّة أو غير ممكنة التحقّق، لتنوّع لبنان الطائفي والمذهبي والسياسي، الذي من الطبيعي أن يفرض تنوعاً في خياراته السياسية أو في مقاربته لما يجري في العالم العربي أو العالم كله، وهذا ليس جديداً، بل إنه سيبقى ما دام لبنان محكوماً بسياسة التوافق، وليس فيه غالب ومغلوب، وهذا هو سرّ أمانه وبقائه. ونحن لا نعتقد أن من يحرص على لبنان، يريد له أن يدخل في صراع داخلي، ولا سيما الذين صنعوا اتفاق الطائف فيه، وأوجدوا صيغته، وأخرجوه من الحرب الأهلية، فهؤلاء ينبغي أن يكونوا أكثر الناس معرفةً بهذه الصيغة وحفظاً لها.

 

إننا نريد من كلّ العرب أن يحرصوا على هذه الصورة التي تميَّز بها لبنان، لكونه بلد التنوّع وصلة الوصل بين الشرق والغرب، وإلا سيفقد أهميته ودوره وحضوره، وفي الوقت نفسه، نريد له أن يقيم أفضل العلاقات مع الدول العربية.

وعندما نتطلّع إلى انعكاس ما جرى على الداخل اللبناني، فإننا نثمّن الجهد الذي بذلته القيادات اللبنانية، متمثّلة بالحكومة، للخروج بصيغة توافقية داخلية أنقذت الحكومة من الانهيار، وأمّنت نوعاً من الاستقرار الداخلي، ولا سيَّما الجهد الذي بذله رئيس المجلس النيابيّ للإبقاء على الحوار الداخليّ بين حزب الله وتيار المستقبل، ولو بحدّه الأدنى، والذي نأمل أن يستمرّ في بذله في المراحل اللاحقة.

 

إننا ندعو الجميع إلى وعي خطورة المواقف والتصريحات والكتابات المتشنّجة الّتي تصدر من هنا وهناك، تجاه هذا المذهب أو ذاك، أو هذا الفريق أو ذاك، والتي نخشى آثارها وتداعياتها، ولا سيما عندما تأخذ بعداً مذهبياً وطائفياً، فالمطلوب في هذه المرحلة، ورأفةً بهذا البلد وإنسانه الذي يكفيه ما يعانيه من أزمات وشعور بالخوف على الصحّة والمصير، التخفيف من أجواء التشنج والشحن الذي نشهده في الساحات وفي المنابر، وفي التصريحات والخطابات، ونقل هذه الخلافات إلى مواقعها الحقيقية؛ إلى الحكومة أو إلى جلسات الحوار.. ليتدارس الجميع الحلول التي تحمي لبنان من تداعيات ما يجري.

 

إنّنا أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى من يبرّد الساحة، لا من يسعّرها، وإلى من يطفئها، لا يصبّ الزيت على نارها.. فقد يتحمّل اللبنانيون حصاراً اقتصادياً وسياسياً، وقد تحمّلوه سابقاً، لكن من الصعب أن يتحمّلوا فتنة داخلية لا تبقي ولا تذر..

 

سوريا

وإلى سوريا، حيث نرى أهميّة الهدنة الَّتي بدأت بوادرها بالظّهور، ونأمل أن تحصل وتترسَّخ لتنهي عذابات الشّعب السّوريّ وويلات الحرب في هذا البلد. إنَّنا نأمل أن تساهم هذه الهدنة في تعجيل فرص المصالحات الداخليَّة، وإجراء حوار داخليّ جادٍّ يكون الهدف منه هو مصلحة الشّعب السوريّ، بعد أن بات واضحاً أنَّ أهداف ما جرى بعيدة كلّ البعد عن تطلّعات هذا الشّعب.

ويبقى الحذر من كلّ الَّذين لا يريدون للحرب أن تتوقَّف، أو الَّذين يسعون إلى جعل هذا البلد ساحة لتقاسم نفوذ دوليّ وإقليميّ، بحيث لا نرى سوريا، كما نريدها، موحَّدة ومتراصّة. ونحن نرى أنَّ وعي الشَّعب السّوريّ وكلّ الحريصين عليه، سيساهم في منع هؤلاء من تحقيق أهدافهم، وسيعيد سوريا إلى حيث ينبغي أن تكون.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 17 جمادى الأولى 1437هــ الموافق : 26 شباط 2016م

 

Leave A Reply