وإنك لعلى خلق عظيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 
الخطبة الأولى
 

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خير خلق الله، أشهد يا رسول الله أنك أقمت الصلاة وأتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وبلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأديت الذي عليك بالحق.

 

الحمد لله الذي استنقذنا من الشرك والضلال حتى بلغ الله بك أفضل محل المكرمين.. اللهم أعطه الدرجة الرفيعة وآته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون يا رب العالمين…

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.. صدق الله العظيم…

 

منذ أيام أطل علينا شهر ربيع الأول، هذا الشهر الذي يحمل إلينا الذكرى المباركة لولادة رسول الله، وذلك على اختلاف الروايات، وهي الذكرى التي تملأ قلوبنا غبطة وفرحاً، وتمنح نفوسنا أملاً باستعادة المستقبل المشرق الذي صنعه هذا الرسول الكريم…

 

وهذه الذكرى لا تعني بالنسبة إلينا كما توحي حدثاً مضى ونريد استذكاره، فرسول الله(ص) هو الحاضر الذي لا يغيب أو ينسى، هو الحاضر في أذاننا وإقامتنا وصلواتنا، نشهد لله بالعبودية، ولرسوله بالنبوة والرسالة، وخلال تلاوتنا لكتاب الله، نردد مع الله سبحانه وملائكته الصلاة عليه وعلى آله عندما نقرأ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}..

 

نستحضره في كل ميادين العزة والحرية والكرامة التي دعانا إليها وعمل لتعزيزها في نفوسنا.. وهنا علينا أن نستحضر في هذه المناسبة مسؤوليتنا تجاه هذا النبي(ص).. الذي لم يبخل علينا بجهد أو تضحية من أجل أن يوصل إلينا هذا الدين الذي صنعنا بحضوره أعظم الحضارات، والذي أن ضيعناه عدنا إلى هامش التاريخ, كما حالنا اليوم.

 

ونحن سنستفيد من هذه الذكرى، لنبين واحدة من صفاته العظيمة التي ميزه الله بها عن كل صفاته ومآثره.. فهو لم يذكر عبادته مع أنه كان يعبد الله حتى تتورم قدماه حتى نزلت عليه الآية: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى}.. ولم يذكر علمه وهو مدينة العلم التي كان علي بابها ولم يذكر شجاعته وهو الذي قال عنه علي(ع): "كنّا إذا اشتد البأس لذنا برسول الله"..ولا كرمه وهو الذي كان يبيت خاوياً ليطعم فقراء المدينة، ولا عدله وهو الذي قال: "لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعتُ يدَها".. بل ذكر الصفة التي تمثل غاية رسالته الشريفة، والتي حملت العنوان الذي أشار إليه عندما قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، عندما قال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

 

 

لقد اعتبر رسول الله أن الأخلاق هي هدف رسالته.. وأن كل ما دعا إليه من الدين من عبادات، دورها أن توصل إلى هذا الهدف، فلا قيمة لصلاة وصيام وحج أو زكاة وخمس إن لم ترتقِ بنا إلى مستوى التحلي بالأخلاق الكريمة، فبدون هذه الأخلاق تتحول تلك العبادات إلى طقوس ومظاهر لا معنى لها في حسابات الله.

 

وهذا ما عبر عنه رسول الله(ص) عندما تحدث عن أثقل شيء في الميزان قال: "ما من شي أثقل في الميزان من حسن الخلق"،  وعندما راح يحدد من أقرب الناس إليه، قال: "إنَّ أحبَّكم إليّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً.. أحسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون".. وقال: "إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرَجاتِ الآخِرَةِ وشَرَفَ المَنازِل، وإنَّهُ لَضَعيفُ العِبادَةِ".

 

والأخلاق في منطق رسول الله(ص) كما حكمت حياته الفردية والعائلية وفي حالة السلم وعندما تكون الظروف مؤاتية له.. نجدها هي حاضرة في حروبه، تلك الحروب التي شنت عليه وأرادت استئصال رسالته والتخلص منه وكل الذين كانوا معه.

 

وهذا ما نجده في سيرته، حيث كانت حروبه دفاعية وكانت آخر الدواء، فقد بقي ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى الإسلام ويحاورهم، لم يرفع في وجههم سيفاً وحتى لم يدع عليهم.. ولذلك عندما قيل له، لم لا تدعو على المشركين حتى يستأصلهم الله.. كان يقول: "إنما أني لم أبعث لأدعو على الناس.. إنما أنا رحمة مهداة".

 

وحتى بعد أن هاجر إلى المدينة هو لم يبدأ بقتال، ولم يستغل الموقع الذي بلغه في المدينة للهجوم على مكة واستئصال قريش، بل بقي يسعى ليمد جسور التواصل معهم ليعيدهم إلى رشدهم عسى أن يفكروا ويهتدوا.. ولكنهم أعلنوا الحرب عليه وراحوا يؤلبون القبائل في المدينة وخارجها على رسالته، حتى إذن الله في القتال ونزلت الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.. فالقتال ليس للعدوان ولا للسيطرة على أراضي الآخرين ولا لأجل إدخال الناس في الدين حيث لا إكراه في الدين، بل لدفع ظلم وامتلاك حرية.

 

وإن كان من قتال فقد كان يوصي المقاتلين: "فلا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً فانياً، ولا امرأة، ولا فلاحاً، أو راهباً في صومعته.. فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح".. وقد امتد هذا التعامل الأخلاقي إلى أسرى المعارك والذين كانوا يقاتلون رسول الله، ومن هؤلاء من قتل أصحابه.. فقد كان(ص)حاسماً في رفضه، بشكلٍ قاطعٍ قتلَ الأسرى على الرغم من أن هذا القتل كان أمراً متعارفا عليه في تلك المرحلة، وذلك التزاما بالنص القرآني: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.. وهذا يعني إطلاقَ الأسيرِ، وأما الفداءُ، فهوَ المبادلةُ بأسرى، أو إطلاقُهم مقابلَ مالٍ أو تعليمٍ.. كما حصلَ في معركةِ بدر، حيثُ كانَ على الأسيرِ حتى يُطلقَ أسرُه أن يعلِّمَ عشرةَ مسلمينَ القراءةَ والكتابةَ.

 

أما عن كيفية التعامل معهم وهم في الأسر فهو بين في السيرة حين أمرَ رسولُ الله(ص) المسلمينَ في أعقابِ غزوةِ بدر، أن يستوصوا بأسرى المشركينَ خيراً، وأن يتمَ توزيعُهم على الصحابةِ، وكانَ التفاضلُ آنذاكَ بينَ الصحابةِ على منْ يُحسنُ إليهم ويفضل عليهم أكثر.

 

وإن كان من قتل، وهو من طبيعة الحروب، فقد كان الهدي النبوي يتحرك انطلاقاً منْ مبدأِ تكريمِ الإنسانِ حياً أو ميتاً حتى العدو الباغي، حيثُ وردَ في الحديثِ عنِ الإمامِ عليٍّ(ع) عن كيفيةِ التعاملِ مع قاتله، حيث قالَ: "لا تمثلوا بالرجلِ، فإني سمعتُ رسولَ الله(ص) يقول: إياكم والمثلةَ ولوَ بالكلبِ العقور".

 

وتجلّتْ أخلاقُ الإسلامِ حتى في حمايةِ البيئةِ والأعيانِ المنقولةِ إلى المحاربين، فالإسلامُ كما حرّمَ قتلَ المدنيين والأسرى، حرّمَ قتلَ الحيواناتِ، وتخريبَ المزروعاتِ والغاباتِ، والاعتداءَ على مصادرِ المياه، ولذلكَ، كانَتْ توجيهاتُ رسولِ الله(ص): ".. ولا تغرقوا نحلاً، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً إلا لمأكل"،

 

وفي  موضوع متصل وفي عصرِ انتهاكِ القوانينِ والعهودِ والاتفاقيات، شدّد رسول الله وبتوجيه الآيات القرآنية على رعايةِ العهودِ والمواثيقِ خلالَ الحروبِ، وهذا ما نلحظُه في سورةِ براءة، رغمَ أنَّها دعَتْ إلى الشدة على المشركينَ، ووجَّهَت لهم التهديداتِ إن هم أصروا على عدوانهم، ما يذكّرُ المؤمنينَ بضرورةِ الحفاظِ على عهدِهم إن كان هناك عهد{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}..

 

وفي آيةٍ أخرى، يأمرُ اللهُ تعالى رسوله(ص) بمدِّ يدِ العونِ إلى إخوانِهم الذينَ استنصروهم في مواجهةِ عدوِهم، إلا إذا كان هناكَ عهدٌ بينَ هذا العدوِ والمسلمينَ، {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

 

وفي هذا السياقِ نلمس حرص رسولِ الله(ص) على رعايةِ هذه العهودِ، وهو ما تجلى حين فرَّ أحَد المسلمينَ منْ أسرِ قريشَ بعدَ انعقادِ صلحِ الحديبية، والتحقَ بجموعِ المسلمين، فاعترضَ ممثلُ المشركينَ على هذا الفعل، باعتبارِه انتهاكاً لبنودِ الصلح، فقبلَ الرسولُ(ص) الاعتراضَ، ووافقَ على إعادةِ هذا المسلمِ الفارِّ منْ بطشِ المشركينَ إلى مكةَ، وقد خاطبَه النبيُ(ص) فقالَ له: "اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ صَالَحْنَا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ وَجَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْعَهْدُ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرَ بهم".

 

وبعد كل ما ذكرنا من اليسير اليسير من سيرة رسول الله ونهجه وهديه فما عسانا نقول حين نقارنه بما يجري اليومَ منْ أعمالِ القتلِ والترويع التي ترتكب باسم الإسلام، وهي بعيدةٌ كلَّ البعدِ عنْ قيمِ الإسلامِ وأخلاقيات رسول الله. وإذا كان البعض عن جهل إن أحسنا الظن يبررها بالاستناد إلى نصوص دينية، فهي بنيت على قراءةٍ انتقائيةٍ وتجزيئيةٍ للنصوصِ، فتنزعُها منْ سياقِها أو منِ الجوِّ القرآنيِّ العامِ الذي تسري في أعماقِه كلُ قيمِ الرحمةِ والعدلِ والخيرِ، وهيَ قيمٌ كانَتْ، وسوفَ تبقى، معيارَ التقييمِ الأساسيَ لتحديدِ شرعيةِ انتسابِ هذهِ الممارساتِ أو تلكَ الأعمالِ إلى الإسلامِ أو عدمِ شرعيتِها.

 

أيها الأحبة:

هذا هو رسول الله، صاحب الخلق العظيم، فبهذا الخلق ملك رسول الله قلوب الناس وأوصل رسالته إليهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.. وبهذا نستطيع أن نصل بهذا الدين إلى قلوب الآخرين لا بفظاظة اللسان وغلاظة القلب..

 

وفي ذكراه(ص) نحن معنيون بأن نعيد إلىه(ص) صورة الأخلاق التي كان يتمثلها، والتي كانت عنوان رسالته ودعوته وحياته وجهاده، وهي الرحمة المهداة للعالمين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام جعفر الصّادق(ع)، الذي نستعيد ذكرى ولادته في السّابع عشر من ربيع الأول، عندما قال: "أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص)، أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها، براً كان أو فاجراً، فإنّ رسول الله (ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر".

 

بهذا وحده، نُدخل السرور إلى قلوب أئمتنا(ع)، فهم لا يكتفون من شيعتهم ومحبيهم بالمشاعر والعواطف، لأنها لا تُصرف عندهم، وما يصرف عندهم هو السلوك والأخلاق، فبمقدار ما يكون المسلم أميناً وصادقاً ومؤدياً لمسؤولياته حيال عائلته وحيال الناس، يكون قريباً منهم. وما لم يكن كذلك، فلن تفيده زياراتهم، ولا اللهج في محبتهم، ولن يكون من شيعتهم، وكم نحن بحاجة إلى أن نكون فعلاً من شيعتهم، حتى يكون واقعنا أفضل، ونواجه التحديات…

 

لبنان

والبداية من لبنان، حيث لا يزال الواقع السياسي على حاله من التعقيد وعدم الحلحلة، في ظلّ تفاقم الأوضاع السياسية والمعيشية والاقتصادية الصعبة، وتداعيات ذلك على لقمة عيش المواطن، وما يجري في المحيط من تغيرات وتبدلات على المستوى الميداني، وتأجيج الصراع في المنطقة، والذي يُخشى من تأثيراته في الداخل اللبناني.

 

وبالرغم من اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي، وما يستدعي ذلك من تحضير، فلا تزال الحكومة التي ينتظر اللبنانيون تأليفها لتتولى كل هذه المهمات وتواجه كل هذه التحديات، تُطبخ على نار هادئة، وكأن البلد بألف خير وأمامه وقت طويل للإنجاز! ويبرّر البعض ذلك بأنّنا لا نزال ضمن المهلة، وكأنّ التأخير أصبح قدر الحكومات في هذا البلد، فما إن انفكت عقدة من عقد التأليف وعولجت حتى نشأت عقدة جديدة، وما إن انتهى الصّراع على الوزارات السّياديّة حتّى انتقل التناتش على الوزارات الدسمة والخدماتية، وما إن انتهى ذلك حتّى بدأ الحديث عن عدم رضا القوى السياسيّة على ما حصلت عليه، في مقابل ما سيحصل عليه الآخرون، وصولاً إلى الحديث عن توسعة الوزارة إلى ثلاثين، بدلاً من أربعة وعشرين.

 

ونحن أمام كلّ ذلك، لا نريد أن ندخل في مدى صوابية هذا الطرح أو ذاك، ولكن نتساءل عن السبب في عدم بتّ الأمور بالسرعة المطلوبة، بعدما بات واضحاً أن ليس هناك أحد ينتظر التغيرات الخارجية، ولا الوحي الذي كان ينزل على القوى السياسية السابقة، وتحل معه كل العقد.

 

إنّنا لا ننكر أنّ هناك إنجازات حصلت على المستوى الحكومي. وهنا، نقدر كلّ الذين ساهموا في تحقيقها، وإزالة العقبات للوصول إلى هذه المرحلة، ولكن لا بدَّ من استكمال هذا العمل، والمطلوب من الجميع أن يقدموا التضحيات لحساب الوطن وإنسانه.

 

وإذا كان من تأخير على مستوى الحكومة وحلحلة العقد، فإننا نرى ضرورة استكمال العمل بما بدأته بعض القوى السياسية في الفصل بين المسار الحكومي والوصول إلى قانون انتخابي عصري، باتت الحاجة ماسّة إليه، حتى لا يكون تأخير تشكيل الحكومة مبرراً لما يعمل عليه البعض من التمديد أو العودة إلى قانون الستين، الذي لا يرضاه اللبنانيون، ولا يحقق طموحاتهم.

 

سوريا

وإلى سوريا، حيث نأمل أن تؤدي التطورات الّتي جرت أخيراً في تعزيز الاستقرار في هذا البلد، وتهيئة المناخ للوصول إلى حلٍّ سياسي شامل يطوي صفحة الصراع الذي عملت قوى دولية وإقليمية على إشعاله، بهدف تمزيق سوريا وتقسيمها وإضعاف دورها الريادي.

 

ونحن نعتقد أنّ ما جرى سيساهم في تعزيز الوعي لدى الكثير من الذين كانوا يراهنون على مدّ يد العون لهم من هذه الدولة أو تلك، لتغيير ما كانوا يطمحون إليه، بأنهم كانوا يراهنون على سراب، فليس هناك حلّ إلا بحوار داخلي، بعيداً عن كل إرهاب، لرفع الغبن الذي قد يشعر به البعض، ومعالجة كل ما أدى إلى الوصول إلى ما وصلت إليه سوريا.

 

ونبقى في سوريا، ففي الوقت الَّذي عشنا آلام المدنيين من أهالي حلب، فإننا نودّ أن نلفت النظر إلى بلدتين تعانيان الحصار والقصف، وهما كفريا والفوعة، ونحن ننظر بإيجابية إلى الجهد الذي بُذل خلال الأيام السابقة من أجل التخفيف عنهما لإخراج الجرحى والمرضى، كما نحذر من العمل على إعطاء الطابع المذهبي لما جرى ويجري في حلب، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ الصراع في سوريا بات أبعد من ذلك، بعدما أخذ البعد الدولي والإقليمي.

 

اليمن

وإلى اليمن، الّذي تستمرّ معاناة إنسانه بفعل الحرب الدامية والعبثية التي تودي بحجره وبشره. وهنا، نلفت إلى الإحصائيات التي ذكرتها منظَّمة الأمم المتحدة "اليونيسيف"، والتي تشير إلى موت طفل يمني كل عشر دقائق، بفعل سوء التغذية والأمراض، وإلى وجود ما يزيد على مليوني طفل معرضين لهذا المصير.

 

وهنا، نسأل: ألا يستدعي كلّ هذا الواقع الدامي الإسراع في الوصول إلى حلٍّ ينهي هذه الأزمة المستمرة؟

 

البحرين

أمّا في البحرين، فإنّنا نستغرب الإصرار على تثبيت الحكم بسجن الشّيخ علي السلمان لمدة تسع سنوات، والّذي نرى أنه يزيد تفاقم الوضع، في الوقت الذي نريد لهذا البلد الوحدة والاستقرار وإزالة كل عناصر التوتر.

 

أسبوع الوحدة الإسلامية

وأخيراً، نبقى في أجواء أسبوع الوحدة الإسلاميّة الّذي أعلنه الإمام الخميني (قده) بين الثاني عشر من ربيع الأول والسّابع عشر منه؛ هذا الأسبوع الّذي نريده أن لا يبقى في الإطار الاحتفاليّ، وأن لا يقتصر على عقد المؤتمرات والنّدوات، وينتهي غالباً بانتهائها، بل أن يكون مناسبة لمراجعة نقدية من المسلمين لأسلوب تعاملهم مع الآخرين، ولخطابهم الموتِّر، ولذهنيّة التّكفير التي دخلت إلى قاموسهم، وواصلت استباحة الدّم.

 

إنّنا نريد للمسلمين أن يستعيدوا في هذه المناسبة نقاط الالتقاء التي تجمعهم، ويتفقوا على المصالح التي لا تتحقّق إلا بوحدتهم، وأن يكتشفوا كم كانوا ساذجين عندما ركنوا إلى دعوات الفرقة والانقسام والتخويف، الّتي بات من الواضح أنّ هدفها هو إسقاط الإسلام الّذي يدينون به جميعاً، وإضعاف قوتهم.

 

إنّ المسلمين أحوج ما يكونون إلى العودة إلى وصايا رسول الله(ص)، وهو يقول لهم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"، وإلى منطق القرآن: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :17ربيع الأول 1438هـ الموافق : 16 كانون الأول 2016م

Leave A Reply