وقفات مع سورة ق

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} صدق الله العظيم.

 

هذه الآيات الكريمات من سورة ق، وق للإشارة هو واحد من الحروف المقطعة التي أوردها الله في بداية بعض السور القرآنية لمحاججة المشركين و المتكبرين بأن يأتوا بمثل هذا القران أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة و ما هم بقادرين…

وسورة "ق" كان يكرر رسول الله(ص) قراءتها أمام المسلمين حتى أنه كان يكتفي بها في خطبتي الجمعة نظراً لأهمية مضامينها التربوية والإيمانية..

 

ونحن اليوم نلفت إلى بعض هذه المضامين من خلال الآيات التي قرأناها إلى حقائق أربع لا بد من الوقوف عندها…

 

الحقيقة الأولى التي أشارت أول الآيات هي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}..

 

فالله قريب من الإنسان إلى حد أنه يعلم ما توسوس به نفسه والوسوسة هي الصوت الخفي الداخلي ونعني هنا خواطر الإنسان وما يفكر به وما تنبض به مشاعره.. فالله يعلم بما يخطر في قلب الإنسان وخفايا أفكاره.. ولمزيد من توضيح هذا القرب يقول الله وهو: {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وحبل الوريد هو الشريان الذي يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منه بصورة منتظمة والذي لو توقف عن العمل لحظة واحدة لما بقيت الحياة.. فهو شريان الحياة للإنسان وهو كناية عن قرب الله من حياتنا وهذا القرب ليس هو قرب المكان الذي قد نتخيله من إيحاءات هذه الآية، فالله لا يحده مكان، بل هو إشارة أن الله حاضر في كل مفردة من حياة الإنسان ومحيط بكل وجوده.

 

وقد أشار الله إلى هذا القرب في آيات أخرى فقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.

 

وقد عبر عن ذلك أمير المؤمنين(ع): "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله خلقه وقبله، وبعده".

 

وقد ورد في حديث أن أبا حنيفة جاء إلى الإمام الصادق(ع) يوماً، فقال له: رأيت ولدك موسى.. ويقصد بذلك الإمام موسى الكاظم(ع) يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلاّ أنّه لم ينههم عن ذلك، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!. وهذا قول أبي حنيفة..

فقال الصادق(ع) ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده فأجابه: يا أبت إنّ الذي كنت أُصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزّ وجلّ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.. فاحتضنه الإمام الصادق(ع) وقال بأبي أنت وأمي يا مستودع الأسرار..

 

وهذا الإحساس بقرب الله هو ضروري في بناء الإنسان في تقويته عندما يحس بأن خالقه ومن بيده أمره وأمر الكون والحياة معه.. وهو لا يحتاج في ذلك حتى أن يناديه، بل سيجد الله حاضراً في كل ذلك مؤيداً وناصراً ومعيناً.. ليشعر معه بالطمأنينة والسكينة والأنس، فلا يرى نفسه وحيداً في الحياة أو في مواجهة من يريدون الإساءة إليه.

 

وفي الوقت نفسه له بعد تربوي ورادع، فإحساس الإنسان بقرب الله يجعله يستحي أن يعصيه، أو أن يقصر في أداء واجباته ومسؤولياته التي أمره بها أو أن يرتبط قلبه بغيره أو أن يفكر بغير ما يريد.. وهذا يؤدي إلى انضباط الإنسان أمام ربه وفي ذلك الخير له لأن الله لا يأمره إلا بما فيه الخير له ولا ينهاه إلا بما فيه الإساءة الله.. فقد ورد عن رسول الله(ص) في ذلك "استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم"..

 

وأما الحقيقة الثانية التي أشارت إليها هذه الآيات فهي حقيقة الرقباء الذين أودعهم الله لدى كل إنسان ليسجلوا عليه كل حركة من حركاته وكل عمل من أعماله، فهم رقباء دائمون عليه: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}، فالله أوكل أمر الرقابة إلى ملكين لا ينفصلان عنه ولا يفارقانه، وكلمة قعيد هي إشارة إلى هذه الملازمة لا القعود بمعنى الجلوس…

 

فهناك ملكان في الليل وملكان في النهار ولذلك فسرت الآية أن قرآن الفجر كان مشهوداً.. إن صلاة الفجر يشهد عليها ملائكة الليل والنهار لكون هذا الوقت وقت تبديل الملائكة.

 

وقد أشارت الروايات إلى تقسيم العمل بين الملكين إلى أن ملك اليمين هو كاتب الحسنات وملك الشمال كاتب السيئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

 

وهنا نشير إلى روايتين في إطار الحديث عن الملكين يظهران مدى كرم الله ورحمته..

فعن النبي(ص) قال: "ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلاّ أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي" وقال(ص): "مَنْ مرِضَ أو سافرَ كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"..

 

و عنه(ص) أنه: "بعد موت المؤمن يقول الملكان لربهما: ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي".

 

فسبحانك سبحانك ما أعظمك وأحلمك وأكرمك..

 

إذاً هناك رقابة شاملة تحيط بنا من ملكين لا يغفلان حتى لو غفلنا، وما يطمئننا أنهما خاضعان لله الرقيب عليهم، والرحيم بنا.. ولذا نقرأ في الدعاء: "وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَي‌َّ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِي‌َ عَنْهُمْ".

 

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن هناك رقابة خاصة على الإنسان من بين أعمال الإنسان وهي قوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.. حيث التشديد على الكلمة التي يلفظها أو يكتبها الإنسان لأهميتها في رسم مصير الإنسان، وهذا يعود لأثر الكلمة المحكية أو المكتوبة وتداعياتها على حياة الإنسان ومستقبله وعلى المجتمع من حوله، فرًبّ كلمة ترفع من مكانة الإنسان والمجتمع وتلقى رضا الله، ورُبَّ كلمة قد تهدم حياته أو حياة آخرين وتكون سبباً لفتن وحروب بما يؤدي إلى سخط الله وغضبه..

 

ولذلك ورد عن رسول الله(ص): "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب اللَّه له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب اللَّه له بها سخطه إلى يوم يلقاه"..

 

ولذلك ورد في الحديث أنه يؤتى للإنسان يوم القيام بقارورة فيها دم، فيقال له هذا نصيبك من دم فلان بكلمة قلتها..لذلك مزيداً من العناية بكلماتنا فلا نقول إلا بعد أن نفحص معنى الكلمة وأثرها، ولا نكتب إلا عن علم وبعدل.

 

وأما الحقيقة الثالثة التي أراد القرآن أن تشير إليها في هذه الآيات هي حقيقة الموت التي غالباً ما يغفل الإنسان عنها ولا يستعد لها ولا يعد نفسها لما بعدها.

 

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.. فالإنسان غالباً ما يهرب من الموت ويسعى إلى تحصين نفسه منه.. ولذا يسعى إلى كل ما يحفظ صحته من أنواع الغذاء وألوان الرياضة وغير ذلك، ويهرب من أي شيء يعرضه للخطر، ولكن لا مفر إلا أن تقف أمام هذه الحقيقة.. عندما يقال لك ومن دون استئذان جاء الأمر أن تغادر الحياة ولا مجال للمراجعة أو الاستمهال.. فيغادر الدنيا مرغماً يُنتزعَ انتزاعاً من بين أهله وأحبائه وممتلكاته وأمواله..

 

وقد عبر الإمام علي(ع) عن هذه اللحظة: "اجتمعت عليهم سكرةُ الموت وحسرةُ الفَوْت، ففترت لها أطرافهم وتغيَّرت لها ألوانُهم ثم ازداد الموتُ منهم وُلوجاً، فحيِل بين أَحدِهم وبين منطقه، وإنَّه لبين أهله ينظر بِبصره ويسمع بأذنه على صحة عقله وبقاءِ لُبِّه، فيمَ أفنى عمره وفيم أذهب دهره، ويتذكرُ أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مُصرَّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبَعاتُ جمعها وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتّعون بها"..

 

وأما الحقيقة الرابعة فيه لحظة الوقوف المهيب.. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}..

 

وكل نفس تأتي ومعها سائق يسوقك إلى حيث موقعها بين يدي ربها وشاهد يشهد عليك في إشارة إلى أن من يشهد على الإنسان جوارحه والمكان الذي فعل فيه المعصية والزمان الذي ارتكبها فيه، والملكان اللذان كان يصاحبانه وفوق ذلك ربه.

 

فلنحضر أنفسنا لذلك الموقف حين يخرج الإنسان من قبره عرياناً ذليلاً، حاملاً ثقله على ظهره، ينظر مرّة عن يمينه، وأخرى عن شماله، إذ الخلائق في شأن غير شأنه {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}..

 

ويأتي النداء للغافلين عن هذا الموقف ممن كانوا لا يفكرون بتلك الساعة، وإذا ذكروا بها تناسوها وابتعدوا عنها..

 {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} جعلنا الله ممن تبيض وجوههم ويعطون كتابهم بأيمانهم ويقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}..

 
 
الخطبة الثانية
 
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين ولده الإمام الحسن (ع). هذه الوصية ينبغي أن يوجهها كلّ أب إلى أولاده، وأن يحرص على أن يجعلها ضمن وصيّته الّتي يكتبها قبل وفاته:
 

"يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، وأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض للناس ما ترضاه لنفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك".

 

لقد وضع أمير المؤمنين (ع) الميزان الدّقيق لنقيس به تصرفاتنا مع الآخرين وأسلوب تعاملنا معهم، فنفسك هي الميزان، والخير الَّذي ترجوه لها أرِده للآخرين، والشرّ الّذي تتوقّاه عنها أبعده عنهم، وما تستقبحه من غيرك وتنتقده، لا تفعله مع الآخرين، وما تحبّ أن يُقال لك قُلْهُ لهم. وبذلك، تكون منصفاً وعادلاً، وتحصل على الأمان في الدنيا والإيمان فيها، وتصل إلى رضوان الله وجنّته، وتقدر على مواجهة التّحدّيات.

 

سوريا

والبداية من سوريا، حيث كان العالم ينتظر إجراء تحقيق دوليّ، كان من الطّبيعيّ أن يحصل بعد المجزرة المروّعة التي حصلت في إدلب، إذ دخلت الإدارة الأميركيّة على الخطّ السّاخن، من خلال قصفها لأراضٍ سورية، ما يعزّز الشّكوك في أنَّ ما حدث في خان شيخون كان مدبّراً من الأساس.

 

إنَّنا نلمح في ذلك محاولةً من الرئيس الأميركي لإخراج نفسه من الأزمات التي يعانيها منذ تسلّمه مقاليد السلطة، وإمعاناً في الدخول الأميركي على خطّ الأزمة في سوريا، لإطالة أمدها والاستمرار في حالة النزف في هذا البلد، وهو ما يعود بالفائدة على الكيان الصهيوني، الَّذي يشعر بالارتياح أكثر عند كلّ ضربة تؤثر استراتيجياً في الجيش السوري، وفي أيّ موقع من مواقع القوّة في المنطقة.

 

إنَّنا في الوقت الَّذي نستنكر المجزرة في إدلب، وأي تعرّض للمدنيين، من أيٍّ كان، ندعو إلى إجراء تحقيق جدي في كلّ ملابساتها، لينال مرتكبها الجزاء العادل، فأرواح المدنيين لا ينبغي أن يُتهاون فيها، وهي ليست مادّة للاستثمار في لعبة الكبار وغير الكبار. إنّ الذي يحرص على أرواح المدنيين، لا بدَّ من أن يحرص عليها في كلّ مكان، فنحن لم نرَ هذا الحرص، في غزة، وفي العراق، وفي اليمن وغيره!

 

إنَّنا لا نتوقّع في يوم من الأيام أن تكون أميركا هي القاضي العادل في هذا العالم، بعد أن أخذت دور الجلاد، علماً أننا لم نكن نريد لها هذا الدور، ولكنّ أميركا ستبقى نفسها، وهي تريد أن تأخذ الدورين، ولكن في المقابل، فإن للشعوب خياراتها، وعليها أن تعي قدراتها، وهي موجودة وجاهزة.

 

لبنان

أما لبنان، الَّذي لا يزال يعيش على وقع فشل القوى السّياسيّة في إنجاز قانون انتخابيّ، فإنّ هذه القوى لا تزال على مواقفها، من دون أن يتقدّم أيّ منها خطوةً لملاقاة الآخرين، ما يجنّب البلاد الوصول إلى واحد من محاذير ثلاثة، تتمثل في الفراغ والتمديد وقانون الستين.

 

لقد أتقن النّادي السّياسيّ لعبة "حافة الهاوية". وبالطّبع، فإنّه لن يسقط فيها، ولكن الخشية تتمثّل في أن يسقط البلد عندها. إنّ ممارسة القوى السّياسيّة هذه اللعبة قد يكون أمراً طبيعياً في السّياسة، لتحقيق مكاسب أكثر لها، ولكنّ هذا الأمر غير مقبول في بلد تضجّ فيه المشاكل وتحيط به النيران.

 

ومن هنا، فإنّنا نعيد دعوة الحكومة التي تضم أغلب القوى السياسية إلى لعب دورها في إنجاز هذا القانون الذي جعلته من أولوياتها، ونحن نريد القانون الذي يؤمن التمثيل الصحيح، ويجدد الحياة السياسية، وهذا ما نراه في قانون النسبية، لكونه خطوة مهمة على طريق دولة الإنسان؛ دولة المواطنة التي ندعو إليها في لبنان..

 

إنّنا نريد للمجلس النيابي الّذي يجتمع في هذه الأيام ليناقش الحكومة، أن يلعب دوره في تصعيد الضّغط عليها. وفي الوقت نفسه، أن يساعدها على القيام بدورها، لأن الحكومة تعبير عن أكثرية المجلس النيابي، والبلد لا يتحمّل تقاذف الكرة بين الحكومة والمجلس النيابي أو تسجيل النقاط، مما هو معتاد في السياسة اللبنانية.

 

في هذا الوقت، تبرز العديد من الأزمات التي نخشى أن تهدد الاستقرار السياسي، الذي ينبغي المحافظة عليه، ولا سيّما أن كل شيء في هذا البلد يُحمّل البعد الطائفي والمذهبي، وهو ما نشهده في تنازع الصلاحيات بين المواقع الرسمية، وفي التعيينات التي حصلت أخيراً في بعض الأجهزة الأمنية، أو في الأزمات الاجتماعية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، والتي لا تقف عند حدود الماء والكهرباء، وسلامة الغذاء والصحة، لتصل إلى الأصوات المتعالية المحذِّرة من انهيار النّظام الصّحّي التّابع للضّمان الاجتماعيّ.

 

ويواكب ذلك توترات أمنية تكررت الأسبوع الماضي في الضاحية الجنوبية، وأدت إلى سقوط ضحايا بريئة، وتنامٍ لظواهر نراها محدودة، ولكنها تسيء إلى صورة هذه المنطقة، التي شكلت وستبقى تشكل حاضنة للجيش اللبناني والمقاومة، وقوة لهذا الوطن.. ما يستدعي السهر عليها من العابثين بأمنها أو بأخلاقها أو القيم التي تلتزمها.

 

وفي هذا المجال، فإنّنا نؤكد الدّور الأساس للدّولة، والّتي من مسؤوليّتها أن تقوم به. وهنا، نقدّر جهود القوى الأمنية الّتي قدّمت تضحيات في هذا المجال في الأيام الماضية. نعم، هناك أدوار أخرى مطلوبة مؤيدة ومساندة وداعمة.. وعندما لا تقوم الدولة بدورها، فمن الطبيعي أن يملأ أحد الفراغ، وهذا ما لا نريده ولا ندعو إليه…

 

ذكرى الشهيد الصدر

وأخيراً، تمرّ علينا في التاسع من هذا الشهر، ذكرى استشهاد الفقيه والمفكِّر السيد محمد باقر الصدر(رض)، وأخته الكاتبة بنت الهدى. ونحن في هذه المناسبة، نستعيد الأثر الكبير الذي تركه على المستوى الفقهي والفكري، وفي الحركة الإسلامية في العراق، ودوره في التّصدي للتحدّيات التي واجهت الإسلام كفكر وعقيدة، وحمله قضيّة العراق.

 

إنّنا نفتقد إلى هذه الشخصيّة العظيمة التي منحت وجودها للإسلام، ولم يثنها عن عزمها ما لاقته من تحديات وأخطار جسامٍ، حتى جادت بنفسها في مواجهة الطاغوت، ونحن نرى في اغتيال هذه الشخصية، جريمة العصر، لما كان يمكن أن يقدّمه لو دام عمره الشريف.

 

إنَّ الوفاء للشَّهيد الصّدر هو أن نستثمر تراثه الفكريّ وتجاربه الغنيّة، ونكمل مساره العلمي والاجتهادي والحركي والروحي، ونستلهم نهجه ومساره، لتصويب الوجهة الفكرية والسياسية، والخروج من هذا المأزق الكبير الذي نعيشه كأمة، ويعيشه العراق كشعب ودولة.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 10رجب 1438هـ الموافق:7  نيسان2017م
 

Leave A Reply