ولادة الرسول (ص): ولادة القيم الإنسانيّة

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

 

الخطبة الأولى
قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}..

نستحضر في هذه الأيام وعلى اختلاف الروايات بين من يرى الولادة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وبين من يراها في السابع عشر منه الذكرى المباركة لولادة أمين الله على وحيه ونجيبه في خلقه وصفيه من عباده إمام الرحمة وقائد الخير محمد بن عبد الله(ص)….
 

و المسلمون جميعا وان اختلفوا في العديد من الأمور تلك التي تتعلق بالعقيدة أو الشريعة، فهم لا يختلفون على إيمانهم برسول الله، فهو نبي المسلمين جميعاً وعنوان وحدتهم وبقائهم، وأن الله أرسله ليكون شاهداً ومبشراً ونذيراً ورحمة مهداة لهم، وهو لم يوفر جهداً لتحقيق ذلك حتى أكمل الدين وأتم النعمة وظهر أمر الله وعلت كلمته..
 

وإذا كان هناك من يتحدث إننا نحن الشيعة نتولى أهل البيت(ع) ونأخذ عقيدتنا وشريعتنا منهم لا من رسول الله(ص) وحده مجافاة للحقيقة التي نؤمن بها، فنحن إنما ننتمي لأهل البيت(ع) فلأنهم الأمناء على ما جاء به رسول الله(ص)، والحافظون لرسالته ولما قاله رسول الله(ص) عنهم لما أتي به: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً"..
 

ومن هنا نستطيع القول وبلسان قاطع أننا جميعاً على سنة رسول الله(ص).. ولذلك تأتي ذكرى ولادة رسول الله(ص) لتذكرنا بوحدتنا حتى لا نغفل عنها كما قد نغفل..
 

ولقد أحسن الإمام الخميني(رض) عندما اعتبر الأيام بين الثاني عشر والسابع عشر من ربيع الأول اللذين هما موضع الاختلاف في الولادة أسبوعاً للوحدة الإسلامية، أسبوعاَ يلتقي فيه العلماء والساسة وكل قطاعات المجتمع الإسلامي..
ليؤكدوا فيه أن ما يجمعهم هو أكثر مما يفرقهم، وإنهم إن اختلفوا في تفاصيل العقيدة أو الشريعة فلا يعني ذلك أن يتفرقوا أو يتنازعوا أو أن يكفر بعضهم بعضاً أو أن يقعوا في مهاوي الفتنة..

 

لذلك فإن هذه الذكرى تأتي لنستصرخ وعي المسلمين وإيمانهم لتدعوهم إلى ما دعاهم إليه الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}..
 

وإذا كنا ندعو إلى الوحدة الإسلامية فإننا لا نعني بذلك أن يتنكر كلٌّ منا لمذهبه وقناعاته فيه، بل لكل مذهبه وقناعاته، لكن أن نؤكد على مواقع اللقاء وأن نشارك جميعاً في حمل الأهداف التي جاء لأجلها رسول الله(ص) من قيم العدل والحرية والإخاء الإنساني.
 

ونحن اليوم عندما نستعيد ذكرى ولادة رسول الله، فإننا لا نراها ذكرى لشخص رسول الله بقدر ما نراها ولادة للإسلام، فنحن لا نعتبر أن ولادة هذا الدين بدأت ببعثته بل بولادته لأنه بولادته بدأت تتوضح معالم الإسلام والتي تمثلت بأحلى صورها بشخص رسول الله(ص)، ولذلك قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.. ليكون أسوة وقدوة لهم، فالله سبحانه لم يشأ أن يظهر رسالته قبل إعداد من يعبر عنها بسلوكه وعمله ومواقفه وكلامه..
 

ولذلك هو(ص) ومنذ أن ولد أحيط بالرعاية الإلهية، والتي تحدث عنها علي(ع) عندما قال: "لَقَدْ قَرَنَ الله بِه صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه"..

وذلك قوله(ص): "أدبني ربي فأحسن تأديبي"..
 

ونحن اليوم سنستفيد من هذه المناسبة لنتوقف عند خلق عظيم من أخلاقه..

 

ومن عظيم خلقه(ص) الذي من واجبنا ان نتأسى ونقتدي به, الحرص الشديد على أن لا يخدش كرامات الناس..

 

فقد ورد عنه أنه كان أكثر الناس تبسماً حتى في أشد ظروفه حراجة وصعوبة.. وكان لا يجفو على أحد.. يقبل معذرة المعتذر إليه، ولا يرتفع على عبده في مأكل ولا ملبس، ولم يسمع أن شتم أحداً أو لعنه، وكان لا يأتيه حر وخادم بحاجة إلا قام معه في حاجته، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف في صلاته وأقبل عليه وقال له: ألك حاجة.. ويحرص أن يكرم من يدخل عليه لا سيما الفقراء منهم، فالعادة أن يكرم الأغنياء ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، ومن شدة حرصه على مراعاة كرامات الناس ومشاعرهم أنه ما وضع أحد فمه في أذنه (أي يحدثه) إلا استمر صاغياً حتى يفرغ من حديثه..
 

ومن أخلاقه، أنه كان إذا كره شيئاً عرف في وجهه، ولم يشافه أحداً فيما يكرهه حتى إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان، بل كان يقول: ما بال أقوام قد فعلوا، حتى يعرف من أساء إساءته ومن دون أن يعرض به أمام الناس كما يفعل البعض عندما يرى خطأ بدلاً من أن يبلغه إلى صاحبه أو يوصله إليه بطريقة غير مباشرة يسارع إلى نشره بكل الوسائل، والآن عبر وسائل التواصل، وكثيراً ما كان(ص) يقول: "من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه"..

وفي مجلسه(ص) كان رسول الله(ص) يحرص أن لا يغتاب فيه أحد أو يساء إلى الناس في كراماتهم وأن يوقر الكبير ويرحم الصغير ويعز الفقير..
 

وقد جاء في السيرة أنه كان أحد الأغنياء جالساً في محضر رسول الله(ص)، إذ دخل رجل فقير يلبس لباساً رثاً وأراد أن يجلس فلم يجد مكاناً خالياً إلا بجانب ذلك الرجل الغني، فذهب وجلس بجانبه وعندما حاول الغني أن يبتعد عنه قليلاً، ويلملم ثيابه، غضب رسول الله(ص)، وقال للغني: هل خشيت أن يأتيك شيء من فقره؟ فقال: لا يا رسول الله.. فتابع(ص): هل خشيت أن ينتقل شيء من ثروتك إليه؟ قال: لا يا رسول الله.. قال الرسول(ص): هل خشيت أن تتسخ ثيابك؟ قال: لا يا رسول الله.. قال(ص): إذن لماذا فعلت ذلك؟ لم يكن للغني جواب سوى أنه قال: إنها عادة خاطئة يا رسول الله! وأنا مستعد أن أعطي هذا الفقير نصف ثروتي تكفيراً عن فعلتي.. فقال الرجل الفقير ولكن يا رسول الله: أنا لا أقبل. فقيل له: لماذا؟ قال: أخاف إذا قبلت أن يصيبني ما أصابه.. بعدها جاء رسول الله(ص) بالفقير وأجلسه إلى جنبه..
 

ولم يقف تكريم رسول الله(ص) للمسلمين، فحسب، بل كان تكريمه حتى لغير المسلمين وممن لم يؤمنوا برسالته.. ففي مفهومه أن الإنسان يكرم لإنسانيته لأنه من بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.. نعم هو يكرم بتكريم إضافي لإيمانه..

 

وهذا ما حرص على أن يؤكد عليه في وصيته في حجة الوداع عندما وقف أمام الناس ليقول:

"يا أيها الناس إنَّ ربَّكُم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتَّقوى"..

 

ثم قال: "لا يسيء أحد أحداً ولا يؤذي أحداً أحد.. إن دماءَكم، وأموالَكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا إلى يوم تلقون ربكم"..

 

ومع الأسف هذه القيمة نفتقدها في مجتمعنا حيث يستباح الإنسان لمجرد اختلاف أو في الرأي أو الدين أو السياسة أو في النظر إلى القضايا، لأخطاء قد تحصل أو لشبهة أو ظن..، ويكفي نظرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل الإعلام، حتى نجد كيف تمتهن كرامات الناس ويساء إليها في الوقت الذي قد يحتفلون فيه بولادة رسول الله ويمجدونه..

 

لقد كان رسول الله(ص) واضحاً في تحديد من يلتزمه ويتولاه عندما قال: "من آذى مؤمناً فقد آذاني"، "من أحزن مؤمناً ثم أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفارته ولم يؤجر عليه"، "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".. "أذل الناس من أهان الناس"..

 

في ذكرى ولادة رسول الله(ص) لنجدد عهد الوفاء لرسول الله(ص) الذي أذاب نفسه في تبليغ رسالته وأتبعها بالدعاء إلى ملته وشغلها بالنصح لأهل دعوته، وهاجر في سبيل الله لإعزاز دينه حتى ظهر أمر الله وعلت كلمته ولو كره المشركون..

وتجديد الوفاء له هو بأن نجعل ما جاء به همنا، نعبر عنه بسلوكه وندعو له بالقول والفعل وأن نتوجه إليه حيث كنا لنوجه إليه تحايانا قائلين:

 

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خير خلق الله، أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين، فجزاك الله عن المؤمنين خير الجزاء..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الصادق (ع)، الذي نستعيد ذكرى ولادته في السابع عشر من هذا الشهر؛ شهر ربيع الأول.. حين توجّه إلى شيعته ومحبيه قائلاً:

 

"أكثروا من الدعاء، فإنّ الله يُحبّ من عباده الّذين يدعونه.. وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، واللهُ مُصيِّرٌ دعاء المؤمنين يوم القيامة عملًا يزيدهم به في الجنة.. وأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كلِّ ساعة من ساعات الليل والنهار، فإنّ الله أمر بكثرة الذكر، والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين.. وعليكم بالمحافظة على الصّلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين.. وعليكم بحبِّ المساكين.. وإيّاكم والعظمة والكبر، فإنّ الكبر رداء الله عزّ وجلّ، فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذله يوم القيامة، وإياكم أن يبغي بعضكم على بعض، فإنه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بغي عليه ومن نصره الله غلب، وإياكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإنّ الكفر أصله الحسد.. وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله عليكم، فإنه من انتهك ما حرّم الله عليه ها هنا في الدنيا، حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذّتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين".

 

بهذه الوصيّة، أراد الإمام الصّادق (ع) من شيعته ومحبّيه أن يكونوا دائماً علامة فارقة في حسن تواصلهم مع ربهم وحسن تعاملهم مع الناس. وبذلك فقط يعبّرون عن حبّهم وولائهم لرسول الله (ص) وأهل بيته (ع). وبذلك، يصبحون أقدر على مواجهة التحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الّذي بدأ يخطو خطوات حثيثة نحو مرحلة جديدة من الاستقرار، سيكون عنوانها خفض التوتر الداخلي إلى حدّه الأدنى، وهو ما يؤكده الخطاب المسؤول للقيادات السياسية الحريصة على إبعاد الملفات الخلافية عن التداول، والاستثمار اللبناني الناجح للمناح الدوليّ الذي لا يريد له الاهتزاز، وانحسار الأعمال العسكريّة في سوريا والعراق، وقرب إنهاء ملفّ الحرب على الإرهاب، الّذي كان يلقي بثقله على السّاحة اللبنانيّة.. والوعي العميق من كلّ القوى السياسية بضرورة الحفاظ على الوحدة الداخليّة وتذليل كل العقبات، بما يضمن الخروج من حال التريث والعودة عن الاستقالة..

 

ونحن ننتظر أن تتبلور في الأيام القادمة صيغة نريدها صيغة عمليّة وواقعيّة لما سمي "بالنأي بالنفس"، تتوافق عليها القوى السياسية، وتؤدي إلى تبديد أجواء التوتر بين لبنان ومحيطه العربي، وتقي هذا البلد من أي انعكاسات سلبية عليه.

 

ونحن في هذا المجال، في الوقت الّذي نقدّر الجهود التي تبذل من أجل إخراج لبنان من المأزق الذي كان يراد له أن يقع فيه، فإنّنا سنبقى نلحّ على الخروج من الأسلوب الّذي أدمنّاه في هذا البلد، وهو العلاج بالمسكّنات والمهدئات والصيغ الملتبسة، لنتجّه إلى المعالجة الجادّة لكلّ القضايا الخلافيّة، والتي إن استمرت ولم يتّم التوافق عليها، ستبقي البلد أسيراً للقاعدة التي تقول إنّ لبنان محكوم بعدم الاستقرار.. وهذا لا يتمّ إلا بحوار جاد وموضوعي يأخذ فيه الجميع بالاعتبار مصلحة الوطن والسّبل الآيلة إلى درء الأخطار عنه.. فلبنان ليس جزيرة معزولة عن كلّ ما يجري في هذا العالم.

 

لقد آن الأوان للبنانيين لأن ينأوا بأنفسهم عن أن يكونوا متنفّساً لمشاكل المنطقة، الّتي تبقيهم رهينةً لتطوراتها، وساحةً تنعكس فيها أزماتها وصراعاتها، وموقعاً لتبادل الرسائل الإقليمية والدولية، ليمسكوا بقرارهم ويأخذوا من الآخرين ما فيه الخير لهم ويدعوا ما يسيء إليهم. .

 

ومع بداية انحسار الأزمة السياسيّة، تعود الأزمات المعيشيّة والاقتصاديّة مجدداً إلى الواجهة بكلّ تبعاتها على المواطن اللبناني الّذي يزداد فقراً ومعاناة، ومن حقّ اللبنانيّ الّذي يقف مع دولته في أزماتها، أن تقف معه في أزماته.. وما أكثر أزمات هذا البلد التي تنتظر العلاج!

 

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن نتوقّف عند القضيّة المتعلّقة بالزيادات الّتي أُقرّت للمعلمين في المدارس الخاصة، أسوةً بالمدارس الرسمية، والتي هي حقّ لهم.. فنحن ندعو إلى تعزيز المعلم، وإلى تأمين استقراره في العيش بكرامة، ليقوم بدوره التربويّ والتعليميّ في بناء المستقبل الأفضل لأجيالنا.. لكن ما يؤخذ على هذا القرار، أنه لم يأخذ في الاعتبار ظروف هذه المدارس، وكيفية التعامل مع هذه الزيادات، فهي تقف بين نارين؛ نار زيادة الأقساط المدرسية في ظرف يعاني غالب اللبنانيين ضائقة اجتماعية، ونار الزيادة المطلوب أن تدفعها لمعلميها، ما يستدعي علاجاً نريده أن يلحظ حقوق الجميع ومصالحهم، بحيث تحفظ حقوق المعلمين، بما لا يؤدي إلى وقوع المدارس الخاصّة تحت وطأة هذه الزيادات، ويترك تأثيره في فعاليّتها وأداء معلّميها.

 

وفي هذا الوقت، تبرز ظاهرة خطيرة كنا اعتقدنا أنها انحسرت عن هذا البلد، هي ظاهرة العمالة للعدو الصهيوني، التي بدأت تتجاوز البعد الأمني، لتصل إلى تجنيد فاعلين في الشأن الثقافي والفني والاجتماعي، ما يشير إلى مدى الاستهداف الذي تتعرّض له الساحة اللبنانية من هذا العدو، واستغلاله لنقاط الضعف الموجودة في الداخل…
 

إنّ هذا المنحى الخطير من الاستهداف يستدعي وعياً من اللبنانيين لخطورة العدوّ، الذي مع الأسف والأسى، هناك من يسعى إلى التقليل من خطورته، ما يستدعي تواصياً بالحق وبالصبر، وتحصيناً للمناعة الداخلية. وفي الوقت نفسه، ندعو إلى التشدد في عقاب من أرادوا لأنفسهم أن يكونوا في خدمة عدوّ ليس كأيِّ عدو آخر، هو عدو يستبيح الأرض والمقدسات والمستقبل.. ولعلّ التساهل الذي جرى سابقاً مع مثل هذه النماذج، هو الذي ساهم في تكرارها.. وهنا نعيد التأكيد على ضرورة التعامل بطريقة واحدة مع العملاء، بعيداً عن هوياتهم وانتماءاتهم، والكف عن تبرير هذه العمالة أو تلك أو التهوين منها. ولا بد من أن نشيد بإنجازات القوى الأمنية العين الساهرة على الوطن، وأن نشدّ على أياديها، ونبذل المزيد من الجهود في هذا المجال، بما يقي الوطن من العابثين بأمنه واستقراره ووحدته..

 تقسيم فلسطين

وفي هذا الوقت، استعدنا في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني ذكرى أليمة وحزينة؛ ذكرى مرور سبعين عاماً على القرار الذي اتخذته الجمعية العمومية للأمم المتحدة؛ القرار 181، القاضي بتقسيم فلسطين، والذي قُسمت بموجبه إلى ثلاث مناطق؛ واحدة للدولة الفلسطينية، وثانية لليهود، وثالثة كانت تحت الوصاية الدوليّة، وهو ما بات يعرف في الأدبيات العربية التقليدية بنكبة فلسطين، التي تسبّبت بكل المعاناة التي تعرّض ويتعرّض لها الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، كما تعرّضت لها شعوب المنطقة التي احتُلّت أرضها أو التي تعاني آثار وجود هذا الكيان فيها.. ومع الأسف، طُبق هذا القرار ونُفِّذ في الوقت الّذي لم تُنفذ قرارات الأمم المتحدة التي صدرت لحساب الشعب الفلسطيني.
 

إنّنا نستعيد هذه الذكرى لنؤكّد ظلامة شعب شارك العالم كلّه في صنع مأساته ومأساة محيطه، وثمة مسؤوليّة على العالم بأن يعيد إليه أرضه وعزته وكرامته، ولكن الشعب الفلسطيني لن يراهن على ذلك، وسيبقى يعمل مع كل المقاومين والمخلصين لاستعادة الأرض من مغتصبيها، مهما طال الزمن، فما ضاع حق وراءه مطالب!

 

Leave A Reply