كلمة ليلة العاشر من محرّم

في هذه الليلة، ليلة العاشر من المحرّم.. بات المشهد جلياً على أرض كربلاء: مشهد المواجهة بين الحسين (ع) واصحابه من جهة بما يمثله الحسين من شرعية مستمدة من رسول الله ، وبين جيش  عبيد الله بن زياد بقيادة عمر بن سعد  .. بما يمثلانه من ادوات ليزيد. فالحسين (ع) حسم خياره  ولو ثار وحده : يزيد رجل فاسق فاجر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يُبايع مثله..”

أقدم الحسين (ع) وهو يعي الثمن الكبير الذي سيدفعه من نفسه مع اهل بيته واصحابه ، ولكن  كان وعيه أكبر للثمن  الذي ستدفعه الاسلام والرسالة  لو لم يُقدم على   هذه الثورة ، او تراجع عنها ، فعاشوراء كما الثورات لا تقاس  بمقاييس الربح او الخسارة  على الارض وفي ساحة المعركة  انما تُقاس بمقدار اعلائها لشأن القيم الرسالية الانسانية في الحاضر والمستقبل .هي تُقاس بمدى اقلاق العدو، وفضحه، وارباكه، وتجميد مشاريعه ..فمرات ليس المهم اذا خسرت، بل المهم أن لا يربح عدوّك.. وذلك هو الفرق الذي عمل عليه الامام الحسين في عاشوراء.

<<<<<<<< 

 في مثل هذه الليلة من أربعة عشر قرنا ونيف  كان  الحسين (ع)  يصارح أصحابه.. يضعهم أمام الحقيقة القادمة.. تاركاً لهم الخيار في أن يستفيدوا من ظلام الليل حتّى ينجو كلّ بنفسه.. فإن كان البعض يخشى من التزامه القتال معه، فهو في حل من بيعته.. و بالفعل هناك من أتى مع الحسين في مشروعه لاستلام الحكم انطلاقا من الكوفة، بعدما بايعه اهلها ..البعض ضعف او لم يدرسها جيدا فتفرق من تفرق، ولكن بقي مع الامام ثلة طاهرة ،نخبة  نوعية قل نظيرها ،صوتها كان واحداً :" لن نتخلى عنك يا أبا عبدالله، بماذا نواجه نبينا/ هل نقول له تخلينا عن ابن بنتك وهو يتوجه لاصلاح أمتك.." كانوا يرونها بكل وضوح ، ووصل الأمر بأحدهم (وهو سعيد بن عبدالله) أن يقول له : "والله لو علمت أنّي أقتل ثم أحيا ثم أحرق حياً ثم أذر، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ،ما فارقتك حتّى ألقى  حِمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي موتة أو قتلة واحدة، ثم هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً".

 نعم .. بهذا عبّر أصحاب الحسين وأهل بيته عن حبّهم للحسين..

وفي الصباح كانوا على موعد للشهادة بين يديه.. ولسان كل واحد منهم ما قاله مسلم بن عوسجة . فمسلم  لما صُرع  دنا منه الحسين (ع)   قائلا له: عزّ عليّ مصرعك، أبشر بالجنة، فقال له مسلم : بشرك الله بخير.

فقال له حبيب بن مظاهر وكان مع الحسين :" لولا أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين،" فقال مسلم: بل انا أوصيك بهذا رحمك الله أن تموت دونه ( وأهوى بيده إلى الحسين).

أيّها الأحبة..

لقد أدّى هؤلاء الأصحاب مسؤوليتهم، كانوا أوفياء مع الحسين.. لم يخلوه.. والحسين يومها عرّفهم :"فإني لا أعلم أصحاباً، أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً.."

 ومضوا معا في ملحمة البطولة والفداء ، استُشهدوا معا، ولقوا حبيبهم رسول الله معاً، و نالوا ما تمنوا من نعيم الآخرة معا، وبقيت ذكراهم حية عابقة على مر الزمن .

<<<<<<< 

 ويبقى السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، نحن الذين نقيم مجالس عاشوراء والذين انتسبنا له : أي علاقة نريد أن نبنيها مع الحسين الامام ،الحسين الشهيد في كربلاء  ؟ هل هي علاقة نكتفي فيها بما اعتدنا ؟ يكفينا منها، أن نبرئ ذمتنا ؟  نقيم مجالس العزاء، ونذرف الدموع ونلطم الصدور.. ونلبس السواد.. ونقيم المآدب على اسمه..؟ ام ان كل هذا  شكل  خارجي للعلاقة  فيما عمقها يمتد الى ثنايا الوجدان وتحليقات الروح وحركية السلوك ؟

سؤال  لا بد ان يطرحه كل منا على نفسه كفرد و الجماعات ايضا  عليها ان تطرحه على انفسها : ما هي طبيعة علاقتنا بالامام الحسين ؟

و سنجد على رأس الاجابات  : الحب والعشق لسبط رسول الله ،انها المودة التي قال الله عنها {  ..قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ ..} والحب يصنع الكثير  خاصة ان كان متجذرا وليس طارئا او انفعاليا .

ـ أن نحبّ الحسين.. لموقعه من رسول الله (ص) وهو الذي قال: "حسين منّي وأنا من حسين.. أحب الله من أحب حسينا.".

ـ أن نحبه لكونه فلذة كبد علي و الزهراء..

ـ أن نحبّه لكونه من  الذين { اذهب   الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .}

ـ أن نحبّ الحسين لأنّه أحبّ الله حباً لا يفوقه حب، ولأجله قدم كل شيء، ضحى بالأهل والأولاد والأحبة وناجى ربه متقربا له :

تركتُ الخلقَ طراً في هواكا

وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحب إرباً

لما مال الفؤادُ إلى سواكا

<<<<<<<<< 

   ثم ان علاقتنا بالحسين المبنية على اساس الحب الواعي لن تكون عقيمة، حبيسة الوجدان، بل ستولّد  لنا الانتماء ،و الولاء.  والولاء للحسين يعني ان نكون تحت مظلته ،نتبعه ،نواليه،فتكون له الكلمة علينا ،انه الاصطفاف حسب لغة هذه الايام، ولكن شتان بين اصطفاف لمصلحة دنيوية وبين اصطفاف مبني على مبادئ  وقيم نبوية…

وبعد الحب والولاء يأتي دور التعبير من طرفنا : انه الاقتداء  ،فنتخذ  الحسين أسوة  حسنة لنا.  نتخذ من شعاراته مرجعا لشعاراتنا ،  ومن مواقفه  بوصلة لمواقفنا ، ومن كلماته نبراسا لنا  .  

أن نأمر بالمعروف كما أمر وننهى عن المنكر  كما نهى ..

أن نسير في اصلاح أمّة رسول الله (ص) كما سار.  أن نقف أمام الفساد كما وقف ..

ان نتحسس الفساد، بصفته غريب  عنا بمنطوق  عاشوراء ، نتحسس كل ذل ، و نتحسس كل هدر لكرامة

و نكون على استعداد لبذل التضحيات من أجل حق وعدل وحرية..

 نقتدي به في حواريته.. في انفتاحه في سمو أخلاقه ..

 و نقتدي به في بطولته وعنفوانه.. وشجاعته وإقدامه..

 نقتدي به في علاقته بربه.. وإخلاصه له..

 هكذا يكون الاقتداء بالحسين اقتداءا حقيقيا  ومنسجما مع حبنا وولائنا ……

 اننا ايها الاحبة ،  لا نريد  لارتباطنا بالحسين ان يجيء منقوصاً،  .. لا نريد ان نبكي مأساته اشفاقا، بل  وعياً معمّقاً لسيرته ، فعلاقتنا به منقوصة ان اكتفينا بالشكل  . مثلا كما يفهم البعض 🙁 ان الحسين جُرح وعلينا ان نجرح أنفسنا،  وأنه نزف وعلينا ان ننزف ونسيل الدماء منا، وان اهل بيته جلدوا بالسياط وعلينا ان نجلد انفسنا ) ..القضية هي  ابعد من هذه الشكلية او الجزئية …هي اعمق بكثير  فلا نغبن انفسنا بفهم مجتزئ وناقص من عاشوراء ….

ـ ايضا  لا نريد لعلاقتنا بالإمام الحسين أن تكون مشوّهة بحيث تُصبح  عاشوراء مناسَبَة للتقيّد بالحزن والحداد خوفا ورهبة ..ان الحزن على الحسين ينبغي ان يكون طبيعيا، ونتيجة للحب والوعي والمعرفة .. فإذا أردنا أن نحزن ونعيش أجواء الحداد فذلك لأن قلبنا حزين.  وإذا أردنا أن نتخلى عن بعض مشاريعنا كافتتاح عمل او ارتباط  او شراء الجديد  ، نمتنع عن ذلك لان لا مزاج لنا،، وليس خوفاً من أننا لن نوفّق أو  اننا سنكون عرضة  لغضب الرسول والائمة منا كما يعتقد البعض .

 في عاشوراء ،نحن نحزن ونرثي ونلبس السواد، نفعل كل ذلك لأجلنا نحن ،لاجل حياة افضل لنا  ولاولادنا  وللمستقبل الملئ بالعزة والكرامة    . فإن لم يلامس الحزن قلوبنا فهو النفاق والعياذ بالله او المسايرة للمجتمع . وسنخسر من فيض هذا الموسم الذي يضج بالقيم، ويفيض بالدروس ، ويفتح لك الباب واسعا لتتعرف  المعنى الحقيقي للحياة ؛ الحياة الحرة الأبية  والمسؤولة.

<<<<< 

وعلاقتنا بعاشوراء لا نريد  كذلك ،أن يحكمها الإنفصام، كأن  تشكل لك عاشوراء حالة وعي ديني وايماني  يدعوك للاحجام عن المعاصي في أيام عاشوراء، ويعود كلّ شيء  بعدها إلى حاله . او عندما ترى البعض يحيي عاشوراء (حتى العظم )  ولكن لعله يتهاون ولا يحافظ على الصلوات و قد يكون من الذين يبذلون دمهم في عاشوراء، ولا يبذل ماله في الواجب الشرعي  من خمس وزكاة..

 البعض يراعي الحسين ويقاطع  برامج التلفزيون الخليعة احتراما لعاشوراء، ولا يراعي اوامر الله ونواهيه .. وهنا نسأل هؤلاء ،اصحاب هذا المنطق ، لماذا أو على ماذا قاتل الحسين؟ اليس من اجل شرع الله ومن اجل الحلال والحرام ؟

ان إكرام الحسين ايها الاحبة ، هو في أن نمتنع عن معاصي الله  في أيام عاشوراء وفي غيرها من الأيام  ،  نعم  في عاشوراء  نجدد الولاء للسير في خط الله، خط معرفته وحبه والتسليم له  والتضحية لاجل انسانه، تماما كما فعل الحسين .

أيّها الأحبة..

لقد اغتنم أصحاب الحسين (ع) هذه الليلة ليقوموا بين يدي الله، ليعبّروا عن حبّهم وإخلاصهم له.. فكانوا بين قائم وجالس وتالٍٍ للقرآن.. أرادوا أن يؤكدوا عنوان هذه الثورة.. أنّها استمدّت عنوانهامن الله.. ولهذا طهرت وصفت، واستمرت وشمخت مع مرور الزمن.. ومن هنا لم يكن غريباً أو عجيباً أن يقف الحسين مع أصحابه يصلّون في اليوم العاشر من المحرّم رغم سهام الأعداء وتربصهم..

أيُّ تسليم هو هذا وأي ثقة بالله هي تلك التي تُضفي سكينة على القلوب، رغم التخويف والتهويل والتهديد والوعيد … ورغم المجهول الآتي .. تخيلوا المشهدهذه الليلة :مشهد الحسين والولد والآل والأصحاب يقفون بين يدي الله للصلاة في صحراء كربلاء  يؤدون الفريضة بلا خوف او وجل ،يصلون ويناجون وقد هدهم العطش ،وتخيلوا الجنود المرتزقة المدججين ،المنعمين  وقلوبهم تمتلئ قسوة وحقدا وطمعا .

 مشهدان يختزنان الكثير من حقيقة الصراع في هذه الحياة الدنيا ؛ صراع الحق والباطل وصراع الخير مع الشر … هلموا ،ايها الاحبة،  ايها الموالون والمواسون لنعمل على أن نحيي هذه الليلة بأذكارنا وصلواتنا.. وتهجدنا.. ولنغسل قلوبنا بدموع الحب لله والاخلاص له .ودموع الحب لرسول الله وال بيته الاطهار ..ونقول للحسين قول القاصد الواعي :" يا ليتنا كنا معكم سيدي فنفوز فوزا عظيما …"

عظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب الحسين وأصحابه وأهل بيته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

Leave A Reply